عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في لحظة بدت كأنها مقتطعة من ذاكرة الحرب، عاد هدير الطائرات الصهيونية ليخترق سماء لبنان، لا كحدث عابر، بل كإعلان بأن الهدوء ليس سوى فاصل موسيقي قبل مقطع أكثر صخبًا. الغارات الأخيرة التي نفّذها الكيان الصهيوني لم تكن مجرد ردّ فعل، بل خطوة محسوبة في لعبة تتجاوز حدود الجغرافيا. وبينما تنشغل بيروت بنقاشات سياسية لا تُسمن ولا تُغني، تتصرّف الطائرات كأنها الطرف الوحيد الذي يملك حق كتابة المشهد. حزب الله يلتزم صمتًا يثير الأسئلة، والدولة اللبنانية تبدو كمن يحاول أن يرفع صوته في غرفة لا يسمعه فيها أحد. هكذا يجد لبنان نفسه مجددًا في قلب معادلة تُصنع خارج حدوده، معادلة تتداخل فيها النار بالسياسة، والسماء بالمفاوضات.
الغارات الأخيرة
الغارات الأخيرة لم تكن مجرد ضربة عسكرية، بل كانت توسيعًا متعمّدًا لرقعة الضغط. الطائرات الحربية للكيان الصهيوني استهدفت نقاطًا متفرقة في القطاعين الأوسط والغربي من جنوب لبنان، قبل أن تتقدّم نحو عمق جغرافي أبعد، كأنها تختبر حدود الصبر اللبناني وحدود الصمت الدولي. هذا التمدّد ليس تفصيلاً تقنيًا، بل رسالة واضحة: الضغط لن يبقى محصورًا في الجنوب، بل سيتسلل إلى الداخل خطوة بعد أخرى. وكأن الكيان الصهيوني يقول للبنان إن الخريطة ليست ثابتة، وإن السماء يمكن أن تتحوّل إلى وسيلة تفاوض قبل أن تكون ساحة قتال. وفي المقابل، يخرج الموقف الرسمي اللبناني باهتًا، كأنه يعتذر عن وجوده، فيما تتعامل الطائرات مع الجغرافيا كأنها ورقة سياسية تُستخدم بلا تردد، وكأنها تكتب شروط اللعبة من طرف واحد.

صمت الحزب.. تكتيك الصبر أم إقرار بالواقع؟
الصمت الذي يلتزمه حزب الله لا يبدو قرارًا بقدر ما يبدو حالة، كأن الحزب اختار أن يقف في منتصف الطريق، لا يتقدّم ولا يتراجع، يراقب المشهد من خلف ستار كثيف لا نعرف ما يخفيه. هذا التوقّف عند العتبة يفتح الباب أمام أسئلة أكثر مما يقدّم إجابات. هل يرى الحزب أن اللحظة ليست لحظته، وأن الدخول في مواجهة مفتوحة الآن قد يجرّه إلى ساحة اختارها خصمه بعناية؟ أم أنه يدرك أن أي ردّ متسرّع قد يضعه في قلب معادلة دولية يجري ترتيبها خارج الحدود؟
الحزب الذي اعتاد الردّ في زمن مضى، يبدو اليوم كمن يقرأ حركة الطائرات كما يقرأ حركة السياسة، يراقب الإيقاع لا ليخضع له، بل ليعرف متى يكسره. هل يعيد ترتيب صفوفه؟ هل ينتظر تبدّلًا في المزاج الإقليمي؟ أم أنه ببساطة يترك للدولة فرصة نادرة لتقول إنها صاحبة الملف، ولو لوهلة قصيرة؟ ومع ذلك، يظل السؤال الأكبر معلّقًا: هل الصمت هنا تكتيك لالتقاط أنفاس مرحلة مضطربة، أم أنه إشارة إلى أن المعركة المقبلة لن تكون معركة حدود، بل معركة قرار؟ قرار لا يُصنع في الجنوب وحده، بل في عواصم تتقاطع فيها الحسابات، وتنعكس على لبنان قبل أن تصل إليه. هكذا يتحوّل الصمت إلى مساحة رمادية، لا تُطمئن ولا تُخيف، لكنها تقول إن ما يجري الآن ليس نهاية المشهد، بل بدايته.

لقاء نتنياهو وترامب.. لحظة تُعيد ترتيب أوراق المنطقة
لبنان اليوم ليس لاعبًا في المشهد، بل ورقة تُقلَب على طاولة الآخرين. القرار الحقيقي لا يُصنع في بيروت، ولا حتى في «تل أبيب» المحتلة، بل في واشنطن حيث تُطبخ السياسات على نار هادئة. وفي خضم هذا التوتر، تتجه كل الأنظار شرقًا نحو واشنطن، حيث يُنظر إلى اللقاء المرتقب بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب على أنه محطة مفصلية قد تحدد مسار الأحداث. نتنياهو لا يذهب إلى هناك للسياحة السياسية، بل يسعى للحصول على ضوء أخضر واضح، أو على الأقل غطاء أمريكي لعمل عسكري أوسع إذا فشلت الضغوط الدبلوماسية في تحقيق هدف نزع سلاح «حزب الله».
التقارير الاستخباراتية في «إسرائيل» تربط بشكل مباشر قرار الحرب بنتائج هذا اللقاء «الحاسم». في المقابل، يبدو أن واشنطن تمارس لعبة مزدوجة؛ فبينما تسرب رسائل تحذير لبيروت بأن قدرتها على كبح جماح «إسرائيل» محدودة، فإنها تنقل الضغط فعليًا من «تل أبيب» إلى الحكومة اللبنانية، مطالبة إياها بخطوات جدية لضبط الحزب.
وهكذا يجد لبنان نفسه في موقع المتلقي، ينتظر ما سيقرره الآخرون بشأنه. فحين يغيب القرار المحلي، تتحول البلاد إلى مساحة مفتوحة لكل من يريد أن يختبر قوته أو يرسل رسائله.

لبنان أمام المعادلة الصعبة.. السلاح مقابل الانفراج
لبنان يقف اليوم أمام واحدة من أكثر المعادلات تعقيدًا في تاريخه الحديث، معادلة تتجاوز حدود الجغرافيا وتتشابك فيها الحسابات الإقليمية والدولية. فإذا ما خرج نتنياهو من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يشعر بأن هامش الحركة السياسي والعسكري قد اتّسع أمامه، فإن احتمال توسيع العملية العسكرية على الجبهة اللبنانية يصبح مطروحًا بقوة، خصوصًا في ظل مناخ دولي يبدو أكثر استعدادًا لاحتضان خيارات تصعيدية.
التحركات الدبلوماسية والعسكرية التي تتراكم في المشهد تشير، وفق ما يراه مراقبون، إلى هدف نهائي يتبلور تدريجيًا: إعادة تعريف دور الدولة اللبنانية، وإعادة فتح ملف «سلاح حزب الله» بطريقة مختلفة عن السابق. فالمعادلة التي تُطرح، حتى وإن لم تُعلن صراحة، تبدو واضحة في مضمونها: نزع السلاح مقابل انفراج اقتصادي، وتطبيع مقنّع مقابل استقرار هشّ. إنها معادلة تُقدَّم للبنان على شكل فرصة، لكنها محمّلة بشروط ثقيلة لا يمكن فصلها عن موازين القوى في المنطقة.
لبنان، المثقل بأزماته الاقتصادية والسياسية، يجد نفسه اليوم في موقع المتلقي للقرارات لا صانعها، كأنه يقف في منتصف ممرّ ضيق تحاصره الضغوط الدولية من جهة، وتعقيدات الداخل من جهة أخرى. فالأزمة المالية الخانقة، والانقسام السياسي، وضعف المؤسسات، كلها عوامل تجعل البلاد أكثر هشاشة أمام أي طرح خارجي، مهما كان شكله أو توقيته.
الأيام المقبلة، وما قد تحمله من تطورات في واشنطن، ستكون حاسمة في تحديد الاتجاه. فهل يكون التصعيد العسكري مجرد ورقة تفاوض تُستخدم للضغط على لبنان ودفعه نحو خيارات صعبة؟ أم أن الأمور تتجه نحو مسار أكثر خطورة، مسار قد يتحول فيه التصعيد من أداة ضغط إلى واقع مفروض ينتظر لحظة إعلان ساعة الصفر؟ بين هذين الاحتمالين، يبقى لبنان عالقًا في منطقة رمادية، ينتظر ما ستقرره العواصم الكبرى قبل أن يقرر هو ما يمكنه فعله.

أترك تعليقاً

التعليقات