قراءة ثانية في نصوص مريم الشابي
 

يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
يظل القديم أبا الجديد حتى وإن لم يره الجديد.. وحتى لو كان الجديد الأفضل. وفي الأدب، فإن شعر العصر الجاهلي أبو الشعر في صدر الإسلام حتى وإن كان لزهير بن أبي سلمى.
إذا فكرنا بطرح منطق الشعر كعنوان نقدي فإننا لا نعني وضع كوابت لطاقة الشاعر ولا حدود لخياله الشعري.. ولكننا نعني معرفة الأبعاد التي وصل إليها العقل الشعري إلى لحظة تعرفنا على آخر إنتاجه، لكننا لا نستطيع معرفة كل جديد في حينه لأن العقل الشعري يلد في كل ثانية بعدا إبداعيا جديدا لا يمكن إدراكه باللحظة، فضلا عن مواكبته.
عندئذ يمكن اعتبار ما وصلنا إليه وما وصل إلينا عن طريق التفاعل الثقافي الحصيلة اللانهائية للإبداع، وسواء عرفناها بالصيغ المنسجمة مع مضامينها أو لا.. ويظل المتداول الخاضع لهذا التفاعل الثقافي هو اللامفهوم الراهن إلى أن يثبت صيغة اسمه ولو في زمن قادم لن نعيشه.. مع ثقتنا بأنه في حينها سيكون عاديا.. بالنسبة لزمنه.. لذلك نطلق عليه سلفا ما بعد وما فوق المفهوم.
في الشعر وفي النثر هناك هيكل كلمي مترابط بمفاصل قابلة للحركة وبه يكتمل قوام المادة الكلامية وهذا غير العناصر المكملة لجسد المادة.. فالمرونة غير المكون الربطي لأنها صبغة جمالية.. أسلوب.. في حين أن الروابط متصلة بالبناء اللفظي.. المخزون الكلمي.. وهذا أيضا غير النظم لأن النظم له علاقة بالسياق الفكري.
الأسبوع الماضي كتبت حول نصوص الشاعرة مريم الشابي.. وأكدت وما أزال أنها تكتب الأدب العابر.. من خلال خوضها غمار الشعر والنثر والسرد.. وتخوض حاليا غمار رواية. ففي رسائلها إلى كافكا، تجد مزيجا من الأدب المقامي والقصصي والشعري في أسلوب إبداعي خاص بعيدا عن السجع والزخرفة.. تفجر من خلالها كوامنها، معبرة عن حالات خاصة وعامة حزن وسرور وحلم وواقع ورفض لقسوة العالم.. وكيف لا يلتفت إلى آلام بعضه.. وتبدو في هذا الصدد متشائمة بعكس ما تبديه الومضة.. فيما يخفي صوتها بشارة يفتقدها كل شاعر بالأسى.. في هذا العالم الذي لا يهتم:
«هذا العالم يؤذيني يا كافكا، خبرني كم مرة سعلت وهل كان تقيؤ تلك الدماء كافيا ثمن تذكرة عبورك».
وفي أدب المقالة أو مقالة الأدب قد تغير مريم الشابي تحت عنوان «الكاتب بطبعه لعوب» مسار الرواية نحو شخصيات حكائية آمنة، من خلال نقد الوحش المتربص في ضمير الكاتب، ما يعكس حالة قرائية مثالية مؤثرة، ووعيا بفاعلية كيمياء السرد:
«هل فعل القتل كتابة يسير على النفس؟ ألا نستطيع إيجاد الحلول لتجاوز ذلك الفعل الشنيع؟».
«كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» النفري.. رؤية فلسفية جمالية كونية.. وفيها أهم مظاهر التجليات..
تبدع مريم الشابي في كتابة الهايكو بصورة خاصة، متفردة وبقدرة على اختزال معنى شعري كبير بعبارة أقل، وباشتغال على مبدأ المفارقة والمفاجأة:
«أكتب
كي أتنفس
لا أجبر أحدا
أن يستنشق حروفي»

«الوقت
يمر ببرود تام
وأنا أوقد الساعة
لكنها مازالت عند الصفر»

«موغلة في الضياع
هذه الطريق
وأنا المدمنة خطاك»

«لا آذان للريح..
تصدر كل تلك الأصوات
تظننا مثلها لانسمع»

«النومُ رجلٌ مهزوم
التهمتِ الحياةُ
كل أحلامه»

«ذلك الشارع الطويل
لم يكن يفصل بيننا
هي فقط بضع قارات ونلتقي»

«لطالما سقيت
ظلي بظلك
لطالما انتظرت
أن أولد في
عينيك»

«لا تمضغ العلكة
هي فقط تطحن
خيبات الأمل
لتنفخها خارجا»

«لا قرابة
بيننا
لكن كنا معا
في رحم الحرف»

«الظلال..
الممددة على الأرض،
فقدت أجسادها
ذات وجع»

«أمي،
كل الفنون الجميلة..
ومذ رحلت ظهرت بشاعة العالم»

إن الومضة وهو التوصيف المجمع عليه أو الشائع المستساغ.. لكن يمكن قوله شأنها أنها «هي.. هي» ذات الشعور الذي يخالج القارئ.. فإن أحسها توقيعة فهي توقيعة، وإن أحسها ومضة فهي ومضة، وإن رآها هايكو فهي كذلك.. وعلى ذلك فقس إن شئت الحال فهي الحال أو المكثفة وهي الدفقة واللمحة والمفارقة والدهشة والمقصوصة والتأمل والصورة واللفتة واللقطة والفكرة والخاطرة.. كل ما يروق لك وصفها به فهي هي.. لأنها صارت نصا مشاعا.
عندما تجد مبدعا يتوهج بكل هذه الأنواع والأجناس فقليل عليه الشاعر والروائي والكاتب.. وحري به أنه عابر بالمفهوم الأجناسي للأدب ويخوض تجربة العبور مع كل تلك المنظومة الإبداعية وليقترب بصورة حثيثة إلى الاكتمال الجمالي بمفهومه الفلسفي.. وبانسيابية ضوئية.. لا تدرك بالحاسة المجردة وإن حاولت إدراكها فبحال محير.. فتراها تارة ذبذبة وتارة جسيما.. الدهشة قوامها والسحر مدارها. مريم الشابي على هذا المنحى من الحضور.. تنأى بنفسها لكن ومعها أنفاسك.. وبأنفاسها تسترسل لكن وبنفسك.. لأنها تجيد فن الإصغاء للداخل.. والتقدس في السر.. والتجلي في الغياب.. والغوص في الوجدان.. والتماهي في التجريد.. ووضوء اللفظ في المعنى.. وصلاة المعنى على سجادة الحرف.
لدي قاعدة «نص العتبة عتبة نصية».. البوابات التي يدخل منها القارئ لفهم النص وتذوقه واكتشافه بشكل أوسع. العتبات بما فيها عيوب النص.. وعلى اعتبار أن كل أثر نص.. وكل أثر تقف خلفه حقيقة. إذا دخلت «باب اليمن» وهو الباب الكبير والرئيسي لمدينة صنعاء القديمة ستجد في ذلك الباب الخشبي العالي خرقا في أعلى الدرفة اليمنى.. ستسأل ما الحقيقة التي يخفيها هذا الخرق.. وحقيقة ذلك الخرق ناتج عن قذيفة دبابة أطلقها ضباط ٢٦ سبتمبر على الباب العظيم لفتحه.. للسيطرة على المدينة والقبض على رموز إمامية. ومن خلال خرق باب صنعاء سنكتشف حقيقتين: الأولى وجود فساد في النظام الملكي هو التوريث.. والثانية جهل الثوار تجاه معلم أثري مهم بحجم «باب اليمن» بكل أبعاده التاريخية الثقافية.
توقيعات مريم الشابي غير معنونة.. وبلا شك أن لها وجهة نظر.. إما لقصرها مع كثافتها.. وقوتها.. ويمكن وصفها عموما أنها خلايا عسل نحل.. وسر لذتها في المفارقة وهي المعنى الناتج عن وجود أضداد في قوام النص.

خوف
لا يمكن أن أتحدث عن
شقائي
في النهار
في الليل وفي عمق العتمة
يكون التوقيت أنسب لفعل ذلك.

لا أبكي في ضياء الشمس
سينكشف حزني
أبكي فقط في الليل
حيث تمتلئ أذني بدمعي الغزير
فلا تسمع شيئا
ولا تنقل عني شيئا.

لا أترجى في النهار
ستكشفني يدي المرتعشة
في الليل فقط
أطفئ كل الأضواء
أرفع ستار النافذة
وألوح بيدي إلى النجوم
أن تعالي ها هنا
أضيئي قلبي فكله
ليل.

أترك تعليقاً

التعليقات