يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
الشاعر محمد محمد الحاضري شاعر لاهوتي، وتتجلى شاعريته اللاهوتية في كثير من قصائده. وفي هذه القصيدة «ذاكرة العصف المأكول» إشارات واضحة إلى شخصية شاعرة متشبعة بالنور العلوي والأدب الإبداعي ومصاغة بأساليب خاصة متميزة تحكي عن شاعر مثقف خبير بالشعر. غير هذا سنلمس شعرية متفردة بقدر تمكننا من التعمق في بعض أبياتها، ويمكن من خلالها أن نتعرف على بعض خصائص شعره، والتي بدورها قد تصبح من أهم خصائص شعر المرحلة. لكن سنتأمل من القصيدة بعض الأبيات لكي لا نحتاج إلى صفحتين.
نتجلى في كل حلقة ذكر
وتقيني مني رؤى نشواتك.
لكي نرسم صورة لمفهوم التجلي ببساطة يمكن أن نحاكي ظواهر في الهامش الشعبي، لأن المادة الشعبية أسهل ما يرد في الأذهان بشكل عام. وفي المثل: «ما أمسى في القلب أصبح في الوجن». والمعنى هنا يبين مفهوم التجلي، والتجلي لا يكون إلا لغيبي، فما تخفيه القلوب يظهر كتجليات في الوجوه. تجليات الغائب لدى الشاعر محمد الحاضري نراها في «ذاكرة العصف المأكول»، وفي مواضع كثيرة من نصوص أخرى.
ها هي البيد والرياح جنود
لك، والنهر في صدى صلواتك.
التجليات عند كل إنسان مبدع تأتي بحسب وعيه وقناعاته وتصوراته الثابتة أو المتطورة للغيب والغائب، كما هي عند سبينوزا مثلا، الله متجلٍّ في الطبيعة بكل أبعادها؛ لكن لدى شاعرنا تناصات مع رؤى سبينوزا بعيدا عن نظرية وحدة الوجود، لأن الغائب لدى الحاضري هو قائم آل محمد من منظور أبستمولوجي وعقدي أيضا، وهو حاضر أيضا من منظور غنوصي ومتجلٍّ على هيئة كرامات هي سر قداسته. والمشترك الفلسفي والعقدي يتقاطع مع تصور الصوفية لابن علوان أو الخضر كـ»ولي». ولهذا الأخير تجليات في شعر البردوني متناصة مع أسطورة شعبية تحكي أن الخضر إذا مر بأرض جدباء اخضرت.
تتلهى بي الفراشات يصحو
البحر، أطفو، أنساب في نظراتك.
«تتلهى بي الفراشات»، «يصحو البحر»، «أطفو»، «أنساب في نظراتك»... حركية الأفعال المضارعة: تتلهى، يصحو، أطفو، أنساب... جعلت النص حيويا، وتحولاته من حال لآخر بسردية شعرية لم تأت عشوائيا، ولكن جاءت بكيفية متهادية ووفقا لاستدعاءات السياق.
وإذا بالتأويل يقتص ظلي
ينتقي التين من دمي فلسفاتك.
لا أستطيع تمالك شغفي أمام هذا الخيال الخلاق. لقد أسال لعاب ذائقتي. فصورة اقتصاص التأويل الظل خيالية بديعة، وأن التأويل يقتص الظل طفرة إبداعية جديدة، ثم إلى ذلك الجمال الأخاذ كله يأتي التين لينتقي من دم المتجلي فلسفات المتجلي. سوريالية وانعكاس ميتافيزيقي معرفي بديع. ويحضر التين كرمز لغائب مكاني مقدس له علاقة بنشأة الشاعر من جهة، ومن جهة فثنائية التين الذي يرمز إلى ذلك الغياب المكاني منشأ الشاعر/ هويته الطينية مع شيء آخر حضر معناه في تجلي الغائب الزماني/ هوية الشاعر «الترابية» (نسبة لأبي تراب)، التين الذي يبدو الطين، الفلسفة التي تبدو الزيتون، الزيتون الذي تعنيه المشكاة، التأويل الذي يريد الكوكب الدري...
يا لقلبي القديس كم أرهقته
شوق ذكر يغشى ليالي ثقاتك!
محاكاة القلب كقديس، بمفهوم عرفاني بحت، ويعكس محتوى نورانيا، لكنه يقرأ من عدة جوانب وعلى مستويات واضحة، وغنوصية بنسبة ما، ويلمس شعوريا معها تداخلات ميتافيزيقية قد لا يصادمها، ويتلهف شوقاً بذكر المعشوق. هذه الاستقلالية في الخطاب واعتبار سيادة القلب على جوارحه وبمسؤولية تستحق الإجلال، لأن ما يناط به من تحمل مهام أو ما يثيره حوله من كاريزما استدعت تبجيلا من الشاعر لذاته هي صورة أو ظل لانعكاس ذلك النور المهول الصادر عن الإيمان والطهر القلبي، لذلك يستحق الديمومة في هذا المقام، ديمومة الجلال، وبالتالي الإجلال.
أتلاشى أمام عريك نجماً
فتنته أنات وحي جهاتك!
وصف النور الذي ينبعث من وجه المتجلي بأنه يتلاشى أمامه جسد النجم، حري بوصفه بالسحر، لأنه يعطي اختصارا يغني عن جملة من الكلمات، ثم بعد تلاشيه عن مقامه وعنصره الضوئي استحال بالفتنة رمادا على إثر أصداء وحي المتجلي المترجعة في الجهات. إذن نحن إزاء معنى مجرد مدرك بالروح.
فإذا بي والنحل يرشف دمعي
أغنياتٌ في عاليات لغاتك!
إنك تريد أن تقول بأنك تستمتع بالبكاء في حالتك المتولهة وتستلذ به استلذاذك بالعسل، لكنك لا تريد إرهاق المتلقي بركام من الكلمات، لذلك جعلت من دمعك رحيقاً تغتذي منه النحل. وبالتالي فإن هذا سيأخذه إلى خيال أبعد فيرى عينيك زهرتين يحط عليهما النحل. كل هذه التفاصيل كضوع عطر منتشر في الأرجاء من خيال المتلقي ببضعة كلمات، وهو ما يجيده من البراعة والفنون الشاعر الحاضري. وليس إلى هنا فحسب، بل يذهب في إنتاج رحيق المعنى إلى ما يشبه تنقل فراشات ونحلات، فمن زهرة جميلة إلى أجمل، ومن واحة غناء إلى أغن. فالعسل الذي يتناغم في أوتار النحل أغنيات تؤوبها روحه «في عاليات لغاتك» لتأتي كلمة «لغاتك» دالة على أغانٍ تحاكي كل ألسنة العالم؛ لكنها لغات عالية الغاية، فتنتظم الإنسانية بمشترك قيمي أسمى مما يواكب الناس بأشكالهم في العالم الأقل سموا.
كائنات الطبيعة التي تمثل أيقونة الجمال حاضرة بعناية في نص الحاضري، فالفراشات والنحل وموجات البحر وضفاف النهر وأشياء كثيرة من أيقونات الطبيعة، تخبرنا عن كون مترامي التخوم يسكن روحه، ويخالج نبضاته، فتراه يسافر بك في عوالم من الذهول والدهشة دون توقف.
أتدلى من ضفتيك وصمتي
مبدأ الوصل في غنوص صِلاتك!
ثم يتدلى من ضفتين هنا، ضفتي المعنى المخاطب في النص، إنه المعنى/ النهر العالي الفياض، المتفجر عن عمق، المتصدر عن وجد.


هدوء ميناء ذاكرة العصف المأكول
فرقتني الألياف في نابضاتك
ضوء عشقٍ مرتلاً في صلاتك
والترانيم في مسانيد تيهي
وغوانا مؤرشفات رواتِك
والغوادي تغري العصافير فجراً
باحتراقي تقليعةً في عداتك
تتلهى بي الفراشات، يصحو
البحر، أطفو، أنساب في نظراتك
وهدوء الميناء والجمر زاد
العشب عصفي المأكول في فلواتك
يا لقلبي القديس كم أرهقته
شوق ذكر يغشى ليالي ثقاتك!
وتمادى في غربتي يجتويني
غيهبياً دوي همس دعاتك
أتلاشى أمام عريك نجماً
فتنته أنأت وحي جهاتك
فإذا بي والنحل يرشف دمعي
أغنياتٌ في عاليات لغاتك
أتدلى من ضفتيك وصمتي
مبدأ الوصل في غنوص صِلاتك
وتهيم الجدران في شفتينا
تقرأ النار للبراري صفاتك
نتجلى في كل حلقة ذكر
وتقيني مني رؤى نشواتك
فإذا بالسيجار يجبل خوفي
لك كأساً من معصرات فراتك
يتواصى الرمان بي وتفيني
كيل وجدي المطلول راحُ شتاتك
لا تقولي: إياك، دعني! فإني
أرج الخمر في شفا غرغراتك
والعيون السكرى قناديل ليلي
وجنوح الميناء محض نجاتك
ها هو الصخر يقتفي أثرينا
وحفيف الغابات يخفي تراتك
ها هي البيد والرياح جنود
لك، والنهر في صدى صلواتك
ها! وأخبو والعطر سندس قبري
وسرابي يحدو غوى فلواتك
وهدوء النخيل شاهد عدل
يغرف الحب من مرايا وشاتك
ها أنا يا أنا، وأرشفت نزفي
في ملفات مرسلات دِعاتك
وتتاليت في الغياب وميضاً
شفرته عرى هدى نزواتك
فلك الشكر أن قتلت شريد
الروح يزهو يسقى لظى تمتماتك
فإذا بالغرام دينك والنأي
كتاب منزل من هباتك
وإذا بالتأويل يقتص ظلي
ينتقي التين من دمي فلسفاتك
لك شكري أن أرهقتني حنيناً
لك ذكرى تناهبت ذكرياتك!

أترك تعليقاً

التعليقات