الجدة وتشكيل وجدان الأحفاد
 

يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -

إن دور الجدات في تشكيل وجدان الأحفاد ووعيهم الثقافي الحقيقي والخرافي كبير، ولهذا أنصح من كان لديه جدة على قيد الحياة فليكرمها وليحسن إليها، اعترافا لها بالجميل. إن الحكايات التي تقصصها الجدات لأحفادهن هي التي ساهمت بشكل كبير في تشكيل وجدان الأجيال منذ بداية التاريخ الإنساني، وبصورة أكبر مما يساهم الأم والأب ومعلم المدرسة وفقيه الجامع. وعلى الرغم من أن الفترة التي يعيشها الحفيد مع الجدة والجد قصيرة، سواء الجدة للأب أو الجدة للأم، كلتاهما، إلا أن تلك الفترة القصيرة التي يقضيها معها هي الناقش الأول في وجدانه سلبا أو أيجابا. إيجابيا تعتبر الجدة أهم ناقل أو ملقن وبصورة تلقائية وغير مكلفة للقيم ومكارم الأخلاق والفنون، وهي أول من يشعل فتائل المواهب في وعي الطفل. وسلبيا تقوم الجدة بهندسة التصوارت عن المسائل الغيبية داخل مخيلة حفيدها من خلال الحكايات أو ما نسميها عندنا في اليمن الحزاوي.
لكن ماذا تحكي الجدة في حزاويها؟! في الغالب إن ما يدور على ألسنة الجدات هي الحكايات الشعبية، الحكايات القصيرة غالبا وبلهجة عامية، وتتصدر مواضيعها الدين والأخلاق والسياسة والحب، وشخصياتها رجل الدين والجن والملوك والجميلات، وتدور مشاهد وحبكات تلك الشخصيات لكي تحقق في نهاية المطاف مسألة العدل أو الانتصار والثواب كررها أو ما يسمى في الثقافة الهندية الكارما. وبرغم ما تؤثره من تأثير كبير في الجانب الإيجابي في وجدان الطفل إلا أن ثمة سلبيات خطيرة تحدثها فيه، مؤثرة على أمداء زمنية قد توصل إلى الجنون والأمراض النفسية في سن متأخرة من عمره مع ظهور مؤشرات مبكرة لإمكانية حدوث مشاكل في الشخصية.
فكثير ممن أصيبوا بحالات مس من الجن كانت إصاباتهم نتيجة تلك الحكايات التي نسجتها الجدة في وعيهم الباطن. حكايات الجن تتشابه عند كثير من المجتمعات التي تقف عند مستوى ما من العلم. فمثلا في أرياف اليمن فإن تصورات المجتمع اليمني للجن متشابهة إلى حد كبير. فنظرة العامة لأشكال الجن في الغالب تدل على أن البشاعة هي السمة الأولى لصورة الجن في الأذهان. وبمجرد أن تطلب من أي إنسان يمني وصف جني سيقول لك على الفور إن له أذنين كبيرتين يفترش واحدة ويتدفأ بالأخرى، وأن له قرنين في رأسه وذيلاً وحربة في الذيل.
وهناك الكثير من الحكايات الشعبية التي تصف أنثى الجن وتسمى "صياد" في اليمن و"البدة" و"أم قالد"... وأن لها ثديين متدليين إلى أسفل قدميها، وأنها في بعض الأحوال تلفهما حول عنقها مثل الوشاح، وأن لها رجلين كأرجل الماعز وأظافر كمخالب جوارح الطيور، وأن بإمكانها أن تقلب الرجل الذي تعشقة إلى صورة حيوان (حمار أو كلب...).
كذلك عند من يسمون بعبدة الشيطان في أوروبا وأمريكا لهم تصورات أفظع مما سبق، فالبشاعة والمنظر الكريه في تخيلاتهم للجن والشياطين تبعث على الاستغراب، فأولئك العبدة للشيطان يصنعون بوجوههم وأجسامهم الفظائع، اقتداء بآلهتهم الذي في أذهانهم، ففي ثقافتهم أن الشيطان بشع ومرعب شكلا إلى حد الإسفاف والابتذال. 
وفي قصة ملكة سبأ المشهورة أنها كانت خليطا من الجن والإنس، يعني نتاجا لتزاوج أبيها الهدهاد مع امرأة من الجن، فقد جاء في الروايات أن بلقيس حينما كشفت عن ساقيها ورآها سليمان أعجبته إلا أن ساقيها كانتا ذاتي شعر كثيف، وأن سليمان بعد أن قرر الزواج بها أمر الجن بإيجاد علاج لهذه المشكلة، فاخترعوا لها "النورة". والعجيب أن هذه القصة مذكورة في كثير من كتب التاريخ الإسلامي الشهيرة، وهو ما ساهم بشكل كبير في تشابه الثقافة الشعبية المتعلقة بالجن، في أغلب الأمصار العربية.
والحقيقة ليس دفاعا عن الجن من جهتي ولكن المنطق يقول إن صور الجن، مؤمنين أو شياطين، أجمل مما يتخيلونه، لأنهم مخلوقون من مارج من نار، والمارج هو أعلى درجات الجمال من النار. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى هناك ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الجن أجمل من الإنس، فالمرويات تقول إن إبليس كان يسمى طاووس الملائكة من فرط جماله، كما أن إبليس حين رفض السجود لآدم برر ذلك بقوله: "أنا خير منه"، والخيرية المقصود في الآية الجمال المادي، A271;ن السياق يدل على ذلك، فقد قال بعد ذلك: "خلقتني من نار وخلقته من طين"، فالمبرر عنصري مادي بحت.
من الناحية العلمية فإن عنصر النار أقل كثافة بآلاف المرات من الطين، ومن غير المعقول أن عنصراً بخفة وجمال النار ينتج عنها مخلوق أجمل منه مخلوق من الطين الكثيف، الحمأ الغليظ اللازب.
عودا إلى ثقافة الجدات لكي نؤكد أن تصورات العامة عند الشعوب العربية للجن ناتجة عن حكايات الجدات التي تنطلق من عامل مهم جدا وهو الخوف والتخويف بغرض الهداية، فالخوف أهم باعث لتلك التصورات، بالإضافة إلى تفشي الجهل في العقل الجمعي العربي، لأنك لو أجريت استطلاعا حول تصور الغيبيات عند مجتمع راق مثل المجتمع الياباني ستجد أنهم يعتقدون أن الجن كائنات لطيفة كالملائكة، لذلك ستستبعد تماما فكرة وجود أشخاص مصابين بالمس عندهم.

أترك تعليقاً

التعليقات