مدرهة الحجاج
 

أمة الرزاق جحاف

أمة الرزاق جحاف / لا ميديا -

تعتبر عادة التدره أو التمرجح على المداره أو المراجيح في موسم الحج – دون أن يكون ذلك بدافع اللعب والتسلية - من العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة في اليمن ولعلها نشأت من أصل خرافي حين كان الأنسان يعتقد أن عليه أن يحمي نفسه من الشرور بإحاطتها بالتمائم والتعاويذ وبهذا المعنى تصبح المدرهة مناسبة الدينية رمزا طوطميا انثربلوجيا يمارسه الأفراد كخدمة يؤدونها لحجاجهم ليشعروا من جهة بالاطمئنان عليهم ويقدموا لهم الحماية ليضمنوا استمرار بقائهم. 
ولم تكن عادة نصب المَدَآرِه لأغراض خاصة تقتصر على موسم الحج لكنها أيضا كانت تعتبر عادة مهمة وملازمة للطقوس التي كانت تقام أثناء المواسم الخاصة بالزيارات الشعبية لأضرحة الأولياء والصالحين - والتي شاهدت كثيرا منها في طفولتي- ومع أنني انذاك كنت غير قادرة على تفسير ذلك - إلا أنني بعد تعمق في دراستها أصبحت أعتقد أن وجود المدرهة في هذه الزيارات  يعتبر أيضا طقس من طقوسها التي ربما كان يعتقد أنها تساعد الروح على عودتها لذلك الجسد الذي فارقته .  
  ولذلك فإن إقامة المداره  في موسم الحج من كل عام عادة يمنية قديمة ،لا أحد يعرف بالتحديد متى بدأت، ولا لماذا ارتبطت بموسم الحج ،إلا أن الأستاذ القدير / مطهر الإرياني، يعتقد (أن السر النفسي والباعث العقلي والفكري لنصب  المداره أو المراجيح في هذه المناسبة، إنما جاء من (كون كل ارجوحة أو مدرهة معلقة في الهواء لها قانون يحكمها، فلها ذهاب إلى الإمام وعودة إلى الخلف، فإذا كان ذهابها إلى الأمام يتم بالإرادة وبالفعل الإنساني الذي يتم بالدفع من الخلف باليدين مثلا (أو ركض الأرض) مثل الرحيل للحج الذي يتم بالعزم والانطلاق من قوة الدافع الديني، فإن أمر عودة المدرهة - هي أمر قدري حتمي لابد من حدوثة، بقوته الذاتية، أو بقوة قانونه العلمي المرسوم، الذي يحكم على الجسم المعلق إذا ما مال عن مركز تعامده بقوة دافع ما، أن يعود تلقائيا إلى الوراء، ثم إلى الأمام، وهكذا حتى يستقر إلى وضع تعامده على مركزه، ومركز تعامد الحاج هو وطنه، وبيته وأهله، ومن هناء جاء تفائلهم بعودة الحجاج على هذا النحو المحتم، وجاء تشاؤمهم أيضا من انقطاع حبل المدرهة أو سلسلتها الحديدية، ويعدونها مهالك قد يتعرض لها حجيجهم).    
 خاصة قبل أن تتطور- حديثًا - وسائل المواصلات، حيث كانت رحلة الحج رحلة شاقة مليئة بالمخاطر والمخاوف. 
  وبالرغم من أننا حتى الأن لا نستطيع أن نجزم متى بدأت - تحديداً- هذه العادة الاجتماعية الشعبية الجميلة والتي تنفرد بها بلادنا حسب علمي لقلة المصادر والمراجع التي تناولتها، إلا أن كتاب السلوك لمؤلفه بهاء الجندي ذكر (أن المدرهة شيئ اعتاد أهل اليمن عمله منذ ذلك اليمني الذي حج أول حجة إلى مكة قبل الاسلام)، كما يذكر الكتاب أن هذه العادة كانت شائعة في صنعاء وخارجها، وفي كثير من المدن اليمنية، بدليل أن والي عدن الملقب (بالجزري) نصب مدرهة للسلطان المظفر علي بن عمر الرسولي، عندما ذهب إلى الحج سنة659هـ ، وقلده أغلب أعيان عدن في ذلك الوقت.  
  اما بالنسبة لصنع المدرهه فقد كانت المداره قديما تؤخذ من أخشاب تتسم بالقوة والمتانة والطول ويشترط أن تكون الأخشاب من أشجار الطلح أو الرمان لقوتها ومرونتها، وقد أشار الشاعر الشعبي إلى ذلك بقوله: 
• يا المدرهة يا المدرهه وما لصوتش واني       قالت: أنا وانية وما حد(ن) كساني 
• وكسوتي رطلين حديد                         ( لا ) والخشب رماني  
 ويتم إقامة المدرهة ونصبها، وتشد أخشابها بحبال يتم اختيارها من أقوى الألياف الطبيعية التي يتم فتلها بقوة ومتانة تعرف في اللهجة الصنعانية الدارجة بحبال ا(لسلب)، وربما استعيض عنها   بسلاسل شديدة تصنع من الحديد. 
ومن عجيب دقة حرصهم على ارتباط عادة المدرهة بالحج، أنهم يتعمدون عند نصبها، أن يكون اتجاهها، إلى الجهة الشمالية في الساحة التي تخصص لها، لكي تكون حركة المدرهة إلى الشمال في ذهابها وهو موقع الأراضي المقدسة والى الجنوب في إيابها وهو موقع الوطن.  
ومن جميل ما تبرزه (مدرهة الحجاج) أنهم يتعاملون معها كما لوكانت كائن حي فيقدمون لها كسوة يلبسونها إياها ،عبارة عن قطع رمزية من ملابس الحاجة أو الحاج أو هما معا  فالحاجة يضعون نماذج من ملابسها الثمينة كأن يكون (زنة أو قميص من الجرز والستارة  التي اعتادت أن تلبسها عند خروجها من البي،ت إضافة الى بعض حليها ومصوغاتها وذلك أعلى المدرهة الى اليسار وإن كان الحاج (رجلا) فإنهم يضعون ثوبه وعمامته وجنبيته  أعلى الجهة اليمنى.  
ولا بد أن يتم  تزين المدرهة بأغصان من الشذاب  والريحان والعنصيف، وغيرها من النباتات العطرية، إضافة إلى تعليق جرس نحاسي على أحد جانبيها، ليصدرا أصواتاً ذات رنين موسيقي ، مصاحبا لحركة المدرهة في ذهابها وعودتها، ولعلهم بذلك يذكرون أنفسهم بتلك الأجراس التي كانت تعلق على أعناق قوافل الجمال، التي كانت أفضل وسيلة للسفر. 
 كما تحرص أسرة الحاج، على نثر قدراً طيباً من مختلف أنواع الحبوب المتوفرة لديهم، على الأرض حول جوانب المدرهة، ليكون من نصيب الطيور وخاصة الحمام. تيمناً وتبركاً بالفضل الذي يرجونه من الله 
ووتحمل كل مدرهة اسم صاحبها الذي أقيمت لأجله أو اسم أسرته و تبدأ فعاليات المدرهة، مع بداية صوت المسبح المرافق للحاج من لحظة إنطلاقه من منزلة حين يبدأ بالأذان إيذانا ببدء الرحلة المقدسة ثم يرافقه في طريقه إلى نقطة انطلاقه وهو يؤدي بعض الموشحات الدينية الشجية التي تتحدث عن رحلة الحج والدافع لها والحنين لرؤية مكة المكرمة ويضل يردد تلك الموشحات بمقامات صنعانية متميزة حتى لحظة توديع الحجاج وحينها يعود الأهل لإقامة المدرهة بالمواصفات التي ذكرت وتبدأ عملية التدره الصباح والعصر للنساء وفترة الظهيرة للأطفال والليل لرجال   وتنتهي تلك الفعاليات  بمجرد أن يعلن ذلك الصوت الرخيم، عودة الحجاج عودا حميدا بغفران الذنوب فيقومون بإزالتها بعد استقبال الحاج بالزغاريد ومزاهر الشذاب وبخور التثوير وبهذا تكون فترة عمل المدرهة قديما حوالي أربعة أشهر قبل تطور وسائل المواصلات 
هذا بالنسبة للمدرهة نفسها أما نص الْتَدْرِيْه أو التدروه وهي التسمية الشعبية التي تطلق على الأهزوجة الشعبية التي يقوم بترديدها المتدرهون أثناء (تدرههم) فوق المدرهة فهو اسم مشتق من فعل التَدَرِهْ نفسه وهو من النصوص التي تدخل ضمن النصوص الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بالمجتمع وعاداته وتقاليده 
و النص بالطبع مجهول المؤلف، شأنه في ذلك شأن الكثير من نصوص الأدب الشعبي، وأن كنت أكاد أجزم بأنها قصيدة تنتسب إلى الغناء الشعبي النسوي، سواء من حيث طابعها العام الذي يغلب عليه طابع الحزن التراجيدي الذي اشتهرت به المرأة والذي كثيرا ماعبرت عنه بشكل غنائي عفوي : مثل قولها: (يا هل علمي يا أخوتي وما لقلبي غاثي) أو حين تقول متسائلة  (مابش خبر من حجنا) و (وما رزتش أكبادي) وغيرها من المفردات التي تميزت المرأة باستخدامها في المحكي اليومي دون الرجل 
ويتكون نص المدرهة من عدة مقاطع شعرية، قد يختلف تسلسلها وترتيبها  اختلافات طفيفة من رواية إلى أخرى  لكنها في مجملها بقيت محافظة على إطار كلي يروي حكاية هذه الرحلة المقدسة، التي يقوم بها الحاج، منذ استعداده وعزمه على السفر، فيقوم بكتابة وصيته وتوديع أهله وجيرانه، وطلب المسامحة منهم، قبل مغادرته لبيته مبتدأ رحلته للحج  كجزء من العادات والتقاليد الاجتماعية التي يتداخل فيها الديني مع الشعبي والتي يعتقد أن صحة الحج لا تتم بدونها وقد عبر عن ذلك المقطع الذي يقول:- 
وابي عزم مكة يحج وسامح الجيراني  
ووصى بما يملك معه الله يوديه سالي  
 
إلى أن تنتهي الرحلة باستقبال الحاج العائد:-  
ويا أخو الحاج الكبير قوم القف الضيفاي 
قوم اذبح الثور الكبير واضرب الطيساني 
وفرش الديوان سوى ووضع المداكي 
 
يتبع

أترك تعليقاً

التعليقات