د.ميادة رزوق

د. ميادة إبراهيم رزوق - أكاديمية وكاتبة سورية -

عرف العالم عبر تاريخه عدة أجيال من الحروب، ولكل جيل سماته من حيث أنواع الأسلحة المستخدمة وطبيعة الخطط والتكتيكات والاستراتيجيات وميادين المعارك وغيرها. ووفقاً لرأي بعض المحللين الاستراتيجيين والعسكريين وأبرزهم ويليام ستركس ليند فإن معاهدة "صلح ويستفاليا" عام 1948 وارتباطها بنشأة الدول القومية وامتلاكها القوة والأسلحة العسكرية، كانت بداية نشوء الحروب الحديثة، حيث تميزت حروب الجيل الأول وهي حروب الحقبة من 1648 حتى 1860 بأنها حروب تقليدية بين جيوش نظامية وأرض ومعارك محددة بين جيشين يمثلان دولاً في حرب ومواجهة مباشرة، وتعتبر حروب القرون الـ17 والـ18 والـ19 ضمن هذا التعريف، ومن أمثلتها الحروب النابليونية في أوروبا 1815-1803.
أما حروب الجيل الثاني فهي حروب العصابات التي كانت تدور في دول أمريكا اللاتينية، وهي شبيهة بالحروب التقليدية ولكن تم استخدام النيران والدبابات والطائرات بين العصابات والأطراف المتنازعة. وتُعرف حروب الجيل الثالث بأنها الحروب الوقائية أو الاستباقية، والتي انطلقت من وحي نظرية "الردع بالشك"، وهي نظرية سياسية عسكرية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وتعني عملياً الضربة الاستباقية وشن الحرب ضد كل ما من شأنه أن يهدد الأمن القومي الأمريكي او السلم العالمي. وتشكل الحرب على العراق نموذجاً منها، علماً أن الألمان طوروا هذا الجيل من الحروب خلال الحرب العالمية الثانية باعتمادهم المرونة والسرعة في الهجوم فضلاً عن المفاجأة والحرب خلف خطوط العدو.
وبالانتقال إلى نوع آخر من الحروب الحديثة تدعى حروب الجيل الرابع، والتي هي حرب أمريكية صرفة طُورت من قبل الجيش الأمريكي وعرفوها بالحرب اللامتماثلة، حيث اعتمدت على أسلوب حرب العصابات والجماعات الإرهابية (مثل داعش والقاعدة والنصرة) لشن عمليات نوعية دون الحاجة إلى أرض معركة تقليدية كما في السابق ولا لنقاط التقاء بين جيشين متصارعين، أي حروب بالوكالة أهم أدواتها: الإرهاب، وقاعدة إرهابية غير وطنية أو متعددة الجنسيات تستخدم تكتيكات حروب العصابات والتمرد، حرب نفسية متطورة من خلال وسائل الإعلام الجديد والتقليدي والتضليل الإعلامي والتلاعب النفسي، منظمات المجتمع المدني والمعارضة، والعمليات الاستخباراتية والنفوذ الأمريكي في أي بلد لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات البنتاغون"، وتستخدم فيها كل الضغوط المتاحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، بالإضافة إلى إحداث حالة الفوضى Creative chaos في مواقع الصراع بين أطراف محلية تتيح للدول الكبرى التدخل وتوجيهها لمصلحتها. ومن التطبيقات العملية لهذه النظرية ما حدث في العراق عام 2003 إلى ما عُرف باسم "الربيع العربي" الذي اجتاح عدداً من الدول العربية من نهاية عام 2010. ويمكن ربط ذلك بتوصيات تقرير لجنة فينوغراد بعد العدوان الصهيوني على جنوب لبنان في 12 تموز/ يوليو 2006 بعد فشل الحروب المباشرة بترميم قوة الردع واللجوء إلى الحرب الناعمة والذكية التي تستخدم الإعلام وشذاذ الآفاق كأدوات أساسية في تفاصيل أجندتها لصناعة الفوضى والفتن في سبيل الوصول إلى شرق أوسط جديد، "إسرائيل" أحد أهم مكوناته يُسند إليها الدور الاقتصادي والعسكري والسياسي والأمني في إدارته.
ولكن مع إرهاصات الفشل والهزائم التي مُني بها محور حلف الولايات المتحدة الأمريكية بمكوناته (الأوروبية و"الإسرائيلية" والتركية والسعودية وبقية حكومات الرجعية العربية) بكسر المهابة وعدم قدرة الرد منعاً للتدحرج نحو حربٍ كبرى يخشون خوضها جميعاً، وذلك بدءا من الانتصارات التي حققها الجيش العربي السوري في الميدان إلى انجازات أنصار الله في اليمن باستهداف المحمية الاقتصادية العسكرية الأمريكية (منشأة أرامكو عملاق النفط السعودي)، إلى إسقاط إيران لدرة الصناعة العسكرية الأمريكية الطائرة المسيرة "درون"، إلى العملية النوعية التي قامت بها المقاومة الإسلامية "حزب الله" بتدمير آلية عسكرية صهيونية عند طريق ثكنة "افيفيم" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى انهيار القبة الحديدية "الإسرائيلية" تحت وطأة صواريخ فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، إلى تغيير قواعد الاشتباك مع العدو الصهيوني في لبنان وسورية وفلسطين، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاستمرار بسيناريوهات بديلة تعتمد جيلا أكثر حداثة من الحروب يدعى بحروب الجيل الخامس، جوهره استنزاف طاقة الدول الرئيسية وتشتيت تركيزها من خلال تهييج الشعوب وتفجير الساحات من الداخل لإسقاط الدولة الوطنية مستخدمة العقوبات المالية والحصار الاقتصادي ووسائل الإعلام والفضاء الإلكتروني من أجل الانفجار الاجتماعي والاقتصادي والذهاب إلى الفوضى للاستمرار بالابتزاز السياسي من تهويل وتهديد ومناورة أملاً بتحسين أوراق التفاوض عند التسويات لإرساء قواعد اشتباك جديدة تحفظ أمن الكيان الصهيوني المحتل، مستندة بذلك إلى إمكانياتها وقدراتها في الميدان الاقتصادي من خلال امتلاك والتحكم بالنظام المصرفي العالمي وأنابيب النفط والغاز والمال وشبكة العلاقات الدولية والدبلوماسية، فعمدت في الساحات اللبنانية والسورية والعراقية والإيرانية إلى العمل على تجويع الشعوب وتفجير التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تعميم نموذج الدولة الفاشلة التي لا تمتلك الإمكانيات لتلبية حاجات ونماء شعوبها، لتراهن بذلك على انتهاء التسويات بإعادة ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتقييد سلاح المقاومة وحرية حركته في مواجهة العدو الصهيوني، وخروج إيران وحزب الله من الأراضي السورية والعودة إلى قواعد اشتباك 1974 مع الكيان الصهيوني على حدود الجولان السوري المحتل، وإخراج الصواريخ الثقيلة من يد الحشد الشعبي إلى يد الجيش العراقي وإلزام قوى الحشد الشعبي بعدم التحرك خارج حدود العراق.
بزمن الانتصارات تؤول هذه السيناريوهات إلى فشل جديد، وخاصة بعد جريمة اغتيال القائدين قاسم سليماتي وأبو مهدي المهندس، التي وحدت كلمة وقرارات وطاقات الشعوب في محور المقاومة، وإلى تصاعد انتفاضات الشعب العربي في فلسطين وتأييد العديد من الساحات العربية للقضية الفلسطينية بأنها قضية العرب المصيرية و"صفقة القرن" ميتة قبل أن تولد، وحكومات عراقية ولبنانية خارج الإملاءات الأمريكية تعمل حثيثاً على إنقاذ البلاد من الانهيار المالي والاقتصادي والذهاب إلى الفوضى، وفي سورية دولة مؤسسات، دولة قوية وقائد حكيم مدرك ومحيط بتفاصيل المؤامرة بأبعادها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وشرائح شعبية موالية بقوة تعمل على عزل أية حركات لها وظائف سياسية، وجيش أسطوري يحقق انتصارات في معركة إدلب تلقن أردوغان درساً وترسي معادلات جديدة تؤكد صعوبة العبث بالداخل السوري، فيكتب التاريخ أن "صفقة القرن" إلى مزبلته، وأنه زمن إنجازات محور المقاومة بعد أن ولّى زمن الهزائم والنكسات والانكسارات.

أترك تعليقاً

التعليقات