د.ميادة رزوق

د. ميادة إبراهيم رزوق / لا ميديا -

برزت الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية وقوة عالمية دخلت مرحلة السيطرة والسعي نحو الهيمنة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتمثل ذلك بقوتها العسكرية التي بلغت ذروتها مع تفجير القنبلتين النوويتين الشهيرتين، وكان هذا الحدث بمثابة الإعلان عن ميلاد تلك الإمبراطورية وضرورة تنبه دول العالم المؤثرة فيه تحديداً للانصياع لإرادتها دولياً، حيث كانت أول من صنع أسلحة الدمار الشامل، وأكثر دولة تمتلك انتشارا للأساطيل الحربية في البحار والمحيطات، والقواعد العسكرية الثابتة في أرجاء المعمورة، بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية التي تجسدت من خلال إنشاء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وفرضها الدولار كعملة دولية أولى غير قابلة للمنافسة ومهيمنة على التجارة الدولية والاقتصاد العالمي، كما أنشأت الأمم المتحدة مع الحلفاء، وأصبحت هذه المنظمة أداة لتنفيذ السياسات الأمريكية بغطاء دولي.
تغولت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال القطبية الثنائية، فتصرفت بغطرسة منفردة مع دول العالم، وحاولت أن تفرض على الجميع ثقافتها وأسلوبها بنظام جديد يعتمد على العولمة، يتنكر للأديان ويهدد الهوية الثقافية والوطنية لشعوب العالم الثالث بغزو فكري ثقافي اقتصادي.
ورغم مرور أكثر من 100 عام على خطاب الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" الذي ألقاه في 1916، بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث ينسب إليه مقولة أن "علم أمريكا ليس علمها وحدها، بل هو علم الإنسانية جمعاء"، إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، لم يصبح علم الولايات المتحدة الأمريكية علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشر وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول، صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز والتوحش.
وظل هاجس السياسة الأمريكية في الحفاظ على تلك الإمبراطورية، وتوسيع الهيمنة والسيطرة الاقتصادية على العالم، مع اعتبار أن كلاً من روسيا الاتحادية والصين يشكلان الخطر الأكبر على الأمن القومي الأمريكي، واستمر النزاع والتصادم بين المعسكرين البارزين (الولايات المتحدة الأمريكية ـ الليبرالية من جهة، وروسيا الاتحادية والصين ـ الاشتراكية من جهة أخرى)، وكانت السمة الأساسية لهذا النزاع هي المصالح الاقتصادية والسياسية والتنافس على النفوذ على مناطق واسعة من العالم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى أوروبا الشرقية، وضمن هذا النزاع يتموضع الصراع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية على منابع النفط وتأمين طرق الملاحة وأمن الكيان الصهيوني إحدى أهم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الحيوية في الشرق الأوسط، دون تجاهل النهج الأيديولوجي الذي يتبناه كلاهما بخطابهما السياسي المعادي بالضرورة لبعضهما.
وصل هذا النزاع والصراع ذروته مع بداية هذا العام بتكسر العديد من أنياب ومخالب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق بحروبها المباشرة، أو في سورية وإيران ولبنان عبر الحرب الناعمة والذكية، وعجزها مجدداً عن الدخول في أية حرب غير قادرة على تحمل أكلافها، باختلال ميزان القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالح روسيا والصين وإيران، وتفكك حلفها الذي ينوء تحت أزماته الاقتصادية والسياسية بدءا من المملكة العربية السعودية الغارقة في المستنقع اليمني وصراعاتها داخل الأسرة الحاكمة، مرورا بالكيان الصهيوني وأزماته الداخلية، وليس انتهاء بدول الاتحاد الأوروبي، وحرب أسعار النفط وجائحة كورونا التي أرست قواعد ركود وكساد اقتصادي عالمي، وعرّت مجموعة من الحقائق المستترة لدول الغرب النيوليبرالي الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد سبق ذلك الهروب الأمريكي إلى الوراء على قاعدة الانعزالية والحمائية من خلال الانسحاب من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية كمنظمة التجارة العالمية، واتفاقية المناخ، والاتفاق النووي الإيراني، وتمويل حلف شمال الأطلسي لانتهاء دوره الوظيفي المطلوب، والتحول من الاقتصاد الافتراضي المعولم باتجاه الاقتصاد التقليدي الذي يعيد فرض الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية، وكل ذلك وفقاً لشعار دونالد ترامب الانتخابي "أمريكا أولاً".
ومع الوصول إلى وباء كورونا وتفشيه في العالم، بدأت الدول تفصح عن كينونتها وروائزها وحقيقة دورها وعقائدها بين النيوليبرالية الغربية المتوحشة التي فضلت المنطق المادي على المنطق الإنساني، وبين دول الشرق التي أولت أهمية للحياة والروح البشرية، بين شريعة الغاب الرأسمالية التي تبغي الربح دون اعتبارات إنسانية وتستمر في ممارسة سياسة الحصار والعقوبات والإرهاب ضد الدول التي تعارض سياستها، وخصوصاً إيران وفنزويلا وكوبا، لمنع وصول الخدمات الطبية التي تساعدها في مكافحة الوباء، وبين روح الشرق الإنسانية التي تمثلت بروسيا والصين وإيران التي قدمت المساعدات والمعدات والخبرات الطبية لأكثر من 80 دولة في العالم للسيطرة على هذا الوباء ومكافحته دون النظر إلى اعتبارات مادية أو خلافات سياسية.
ـ فهل نحن بعد كورونا أمام عالم جيوسياسي جديد تسيطر عليه المفاهيم الروحانية والإنسانية والبعد القيمي الأخلاقي؟
ـ هل نحن أمام تفكك الاتحاد الأوروبي كما ظهر حاله خلال فترة مكافحة وباء كورونا، بالإضافة إلى تبعيته للقرار والهيمنة الأمريكية؟
ـ هل نحن أمام إفلاس العديد من الشركات الأمريكية المالية والصناعية؟
ـ هل نحن أمام أفول الإمبراطورية الأمريكية وانكفائها نحو تطبيق شعار "أمريكا أولاً"؟
تساؤلات برسم قادم الأيام بعد زمن كورونا...


* أكاديمية وكاتبة سورية.

أترك تعليقاً

التعليقات