عبدالملك المروني

عبدالملك علي المروني / لا ميديا -

رجعت للتو من مقيل عزاء لشهيد من أولادنا، يتميز عن سابقيه بحالتين، الأولى موقعه في منتصف دائرة جهادية تشاطرها مع اثنين من أشقائه سبقاه للشهادة، واثنين يقتعدان مواقع المواجهة في محرابهما القتالي بإحدى الجبهات.
والأمر الثاني أن هذا الأخير كان يشكل لوالدته حالة من العشق والحب المفرط.. ولهذا وجدت نفسي بعد سماعي خبر استشهاده في حالة من البكاء والوجل الشديد ليس حسرة على الراحل بل الخشية على أمه.
لقد كانت أختي تحبه بدرجة لا يمكن تصورها أبداً.. نهضت من فراش المرض واتجهت صوب بيت أختي وزوجها لأقف بجوارهما في محنة أخالها عظيمة.
وكانت الدهشة تعصف بي حين وجدت أختي في حالة من الثبات والتماسك والتسليم المطلق. وتوجت هذا الثبات والقوة بزخات من دعوات مباركة كانت موجهة للسيد القائد.
يا إلهي ماذا فعل هذا السيد بأبناء هذا المجتمع..؟ بل ماذا عمل داخل المجتمع بأكمله؟ هكذا سألت نفسي، وفكرت أن أتخذ من هذا السؤال مادة لكتابة هذا العمود، وأن أبسطه أمام الكل.
في الواقع لقد كنت ومازلت أعتقد أن أكثر أعداء هذا الشعب وهذه الأمة ليسوا من حملوا البنادق وقاتلونا، بل من هجروا عقولهم وباعوا بثمن أو بدونه وعيهم وما بقي لديهم من فتات العقل، وذهبوا في قتالهم لهذا الشعب إلى حد الرهان على تجريده من كل معنى يرتبط بشكل أو بآخر بهذه المسيرة المباركة وقيادتها الروحية والثورية، وأرادوا سلخ المجتمع عن هذا الكيان المتجدد أو عزل الكيان نفسه عن مجتمعه ومحتوياته أو آثاره من داخل البنية المجتمعية بأكملها، ليتم عقب هذه القطيعة، أو هذا الحجر الصحي، إن صح التعبير، التسلل إلى أهدافه ومراميه.. يا له من غباء فاحش ومكر ساحر لا يفلح حيث أتى!
كيف تفكرون بنزع لباس ألبسه الله قوماً يستحقونه؟ وكيف تحاولون انتزاع روح اخترقت أجساداً طاهرة، وأنبتت داخل هذه الأجساد سبع سنابل مضاءة كل سنبلة بها مائة حبة، كل حبة تسبح الله بلسان واحد ولهجة واحدة ومفردات موحدة مصدرها مران والحوثي؟
الناس في كل مكان يتحدثون بلسان الحوثي ويرتدون ملابس الحوثي ويعتمرون قبعاته وشيلانه ومعاوزه، وعلى أكتافهم يرفعون زيناتهم من أسلحة منقوشة بشعارات ورموز ثورية.
ولو فتشت جعبة أحدهم أو حقيبته الصغيرة المربوطة على خصره، ستجد الحوثي يسكن جوف كل حقيبة، فالمصحف والملزمة والسبحة وكتيب الأدعية وكل أدواته بلون الحوثي، ورائحته وثقافته، فكيف تخلع عن إنسان روحه ووعيه وعقيدته ومنهجه الذي بنى عليه حاضره ومستقبله؟
الناس هنا جميعهم حوثي، فهل لديك اعتراض؟ وهل مازال لديك ذرة من أمل في محو هذا الواقع أو الحد منه وتقليصه وإن أنفقت ما في خزائنك وسراديبك وما في الأرض جميعا.
انت محاط بزمن يمني لم تصنعه حضارات العالم ولم يخلق مثله في أي بلد من بلدان المعمورة.
حيثما ذهبت وفي أي اتجاه تسمع صوتا واحدا يسمعه الجميع، هو صوت ترانيم وابتهالات عيسى الليث ورفاقه العظماء، وهي الأصوات التي تسمعها في السيارة والدراجة النارية والمحال التجارية، وفي كل قطعة متحركة أو واقفة تشع هذه الصلوات وتمطر الناس بهجة وألقا وعنفوانا وإيمانا.
البلاد كلها ترقص على هذا الإيقاع، وتشحذ أسنانها وعصيها وأسلحتها به. فإن لك أن تستبدل بغيره وهو أساسا حالة استبدال إلهية أكرم الله بها هذا الجيل وجعله عنوانا لزمانه، ومحا له آثار من سبقوا وجعله من خلال أبنائهم حالة تطهر وتكفير عن ماضٍ.
وما يجعل المسألة حالة استثناء بكل المقاييس، أن هذا السلوك وهذه الثقافة انتقلت إلى الجانب الآخر، وطرقت أوكار العدو ومخابئه، فتسمع داخل خيمهم وثكناتهم ومتاريسهم عيسى الليث كأنهم بعض من المجاهدين.
فلا تحاول أن تكذب على نفسك وعشيرتك المانحين، فليس لك من سلطان على المؤمنين، وليس من قدرة لديك لفعل شيء غير التسليم بعحزك وظفر الآخرين.. تلك مشيئة الله.. وتلك إرادته التي أراد.. وتلك معجزة هذا الزمن الذي قيل إنه أفقر ما يكون إلى المعجزات.
تلك ثقافة ومنهج أنصار الله، ذلك وعيهم الذي قذفوه إلى صدور قوم مؤمنين فزادهم إيمانا ورفعة.. إنها حالة التغيير التي أرادها الله لهذا الشعب، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد أراد القوم تغيير أنفسهم فكان لهم ما أرادوا. ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، فالله وحده من يصنع هذه الألفة وهذه المحبة.. تلك هي العصمة الحق، وهو الإمساك بحبال الله والثقة المطلقة برعايته.
حين راهن الأعداء على الإمكانات والتسليح والمال اللامحدود، راهن أنصار الله على الأنفس، وجعلوا من النفس ميدان الجهاد الأول، وأحسنوا بناء الأفئدة، والتزموا بمنهج ثابت ومحدد جاء مرارا على لسان القائد العلم عبدالملك بدر الدين الحوثي، حيث قال: "إن الله يريدنا أن نعبده كما يريد هو، لا كما نريد نحن..".
وبهذا الوعي المنهجي تحقق لهذه الأمة ما لم يتحقق لسواها في زمن الرسالات والكتب السماوية.

أترك تعليقاً

التعليقات