أمريكا..بلد الحرية المكذوبة
 

عبدالملك المروني

عبدالملك المروني / لا ميديا -

في أواخر الثمانينيات شهدت الأجهزة الأمنية الأمريكية واليمنية حركة غير مسبوقة، طرفاها جهازا الانتربول في البلدين.
الحكاية وقعت عندما فاز مغترب يمني من المناطق الوسطى بجائزة كبرى من شركات اليانصيب المشهورة في أمريكا، وكانت قيمة البطاقة الفائزة كبيرة إلى درجة أن حدث حولها كثير من العك والاحتدام.
فقد رفض محامي الشركة إياها تسليم هذا المواطن القادم من بلد فقير اسمه اليمن هذه الجائزة الكبيرة، قبل التأكد من سلامة قواه العقلية ومدى تحمله الصدمة المالية العنيفة التي بانتظاره في خزينة الشركة.
وكحل مقنع أحيل هذا المواطن اليمني إلى طبيب الشركة الذي فحصه وأكد قدرته العقلية والنفسية على تقبل أي صدمة مهما كانت.
ومع ذلك يصر محامي الشركة على عدم تسليمه قيمة الجائزة حتى يعمل فحصاً آخر لدى طبيب مستقل لضمان حياة هذا المغترب الذي يحصل على بضع مئات من الدولارات لقاء عمله في محطة بنزين.. بينما تنتظره ثروة مقارنة بإمكانياته.
وعاد هذا المسكين مع زميله السوداني الذي يعمل معه وبعض الأصدقاء إلى إدارة الشركة يحمل تقريراً من الطبيب المستقل ينص على استعداد هذا المواطن اليمني لمواجهة أكبر الصدمات وأشدها ضراوة.. ولست أعلم ما إذا كان الطبيب قد أقسم على الإنجيل أو حلف على مرته بالثلاث أن هذا المغترب يملك قلباً صلباً لا يوجد لدى غيره في الولاية كلها.. ما لم يكن يمنياً بالطبع!
وهكذا اقتنع المحامي وحضرت إدارة الشركة حفلاً خاصاً لهذه الفعالية حيث تم تسليمه الشيك بقيمة الجائزة. وأطلق ضحكة مجلجلة وهو يلوّح بالشيك للحضور وسط تصفيق حار من الأصدقاء وموظفي الشركة. وما إن اختفت من فمه تلك الابتسامة حتى سقط على الأرض في غيبوبة أوصلته إلى صندوق الموتى.
لقد مات اليوم في ولاية جورجيا مواطن من العالم الثالث لحظة أن زبط الفقر وأوشك على الغنى بعد حياة حافلة بالفقر والحاجة.
وكما هو متوقع قامت القيامة على الشركة التي اتهمتها الصحافة والشركات المنافسة بقتل مواطن فقير من العالم الأكثر فقراً، دون مراعاة لإنسانيته وفقره... وبدأت رحلة من التعب والمشاكل مع الأجهزة الأمنية ومؤسسات حقوق الإنسان، وشركات اليانصيب المنافسة، وصحافة تبحث عن الإثارة. لم يشفع للشركة تلك التقارير الطبية من طبيب الشركة أو الطبيب الخارجي، وظل السؤال الأكثر سخونة وفعالية هو: كيف نصت التقارير الطبية على مقدرة هذا الرجل على مواجهة أكبر المعضلات وأشد المفاجآت، ثم يسقط بسهولة غداة أن استلم فلوسه وطرق باب المال الوفير؟!
لم يجدوا إجابة على هذا السؤال أبداً، حتى تدخل صديقه السوداني الذي كان يعمل معه ويعيش معه. قال هذا الزول إن الشركة معها حق وأن صاحبه معه الحق أيضاً، وأن المذنب طرف ثالث لا علاقة له بالشركة ولا بأمريكا كلها. 
وحين سئل: من هو المذنب إذاً؟! صرخ قائلاً: حكوماتنا هي صاحبة الذنب بكل تأكيد، فإنهم يكذبون دوماً، ونحن لا نثق بهم ولا نصدقهم، وهذا الزول الميت واحد من ضحايا هذه الأنظمة التي تكذب علينا دوماً، فقد كان حتى اللحظة الأخيرة يشك بأنه سيستلم فلوسه، وأنهم سيكذبون عليه، وهكذا سقط حين تأكد أن المال بات له وأن الشيك أصبح في يده! 
هذا التفسير لقي لدى الشركة والشركات الأخرى والرأي العام الأمريكي قبولاً، وقدمت له الشركة مبلغاً مالياً ممتازاً نظير اجتهاده في موقف حرج للغاية.. بدأ التواصل مع الانتربول اليمني لمعرفة أسرته في اليمن ومن يحق له استلام الجثة وحقوق المرحوم، غير أن الإجابة كانت سلبية من اليمن، فقد تردد أقرباؤه في الاعتراف به وخالجتهم الشكوك حوله، وما إذا كان قد ارتكب إثماً أو أقدم على جريمة ما. وبعد أسابيع تكررت المراسلات بين أجهزة الانتربول وكُشف عن ثروته التي ربحها من اليانصيب.. وبالطبع فقد حدث ما هو متوقع، واكتظ الشارع الذي يقع فيه انتربول صنعاء بالقبائل الوافدة والأهل والمحبين، وتسلم الأقرباء مال ذلك المسكين، وانتهى الأمر بسلام بعد فترة، ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه للقارئ العزيز قبل الختام: هل الأمريكان على هذا القدر من الأمانة والخلق الرفيع ليبذلوا كل هذا الجهد والعناء من أجل حقوق مواطن بائس من العالم الثالث؟
الإجابة الأقرب للمنطق أنهم كانوا كذلك، أو كذلك كانوا يفعلون حين كانت صحافتهم حرة ومستقلة وغير قابلة للرشوة. 
وكان الرأي العام الأمريكي يصنع حراكاً داخل المجتمع، وكانت لوسائل الإعلام أهمية وتأثير يعمل له ألف حساب. وكان أبسط مواطن أمريكي قادراً على التباهي والمفاخرة بالحرية الأمريكية والقانون الأمريكي أمام الخصم القوي الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية. ولكن مع سقوط هذا الخصم الكبير، على يد امبريالي مندس اسمه جورباتشوف، وانهيار المنظومة الاشتراكية في العالم، سقطت الأقنعة عن أمريكا وكشفت واشنطن عن ساقيها وكل جسمها، وكشرت الديمقراطية الغربية ومؤسسات حقوق الإنسان عن أنيابها، وظهر من أمريكا كل فعل قبيح، وعسكرت واشنطن نصف العالم أو أكثر من نصفه قليلاً، وتكدست الأسلحة الأمريكية في ما يزيد عن 150 بلداً وموقعاً في شكل قواعد عسكرية ومنصات هجوم متعددة الأغراض.. واكتظت السجون الأمريكية بالسجناء محققة أعلى نسبة سجناء عن أي بلد دكتاتوري بما يزيد عن 20%، وباعت كبريات الصحف والوسائل الإعلامية المعروفة مواثيق الشرف المهني والإنساني التي كانت تتغنى بها، باعتها لغلام ثري قدم من البداوة يدعى محمد بن سلمان! وعلى ذمة القيم والمبادئ بلغت الرشاوى السعودية مجلس الشيوخ ومجلس حماية الديمقراطية الأمريكية ومجلس إدارة البيت الأبيض... وكل مؤسسة ترفع العلم الوطني لأمريكا تسلمت رشاوى. وامتدت هذه الفضائح من الوول ستريت إلى مكتب الأمم المتحدة في أقصى الأماكن. وحدث كل شيء لا يصدق، واختفى من المجتمع الأمريكي المستحيل نهائياً، فكل شيء مباح مادام الخصم الأكبر الذي كانت أمريكا تخشاه لعقود واسمه الاتحاد السوفييتي قد سقط مغشياً عليه إلى زمن غير معلوم.
اليوم يتساقط كل حين أطفال وشيوخ وطيور وفراشات وحمائم وكتاكيت ونحل، وكل مخلوق وديع يموت في اليمن تحت سطوة القنابل الأمريكية، ولا يسمع أي صوت داخل أمريكا يندد بهذا الطغيان وهذه العربدة اللامحدودة.
ربما تسمع في بعض الحوارات صوتا يقول: اليوم مات في اليمن 30 طفلاً بصواريخ أمريكية! فيرد عليه أحدهم قائلاً: يا رجل، ليسوا سوى أطفال، فهل لذلك من أهمية؟!

أترك تعليقاً

التعليقات