أغرب غزو في التاريخ
 

د. حمزة الحسن

حمزة الحسن / لا ميديا -
«إنهم يريدون منا أن نعتبر فجأة أن الخنازير أصبحت خيلاً، وأن العذارى انقلبت ذكوراً، وأن الحرب هي السلام» (تشومسكي عن نفاق الخطاب الأمريكي).
كشف الرئيس الأمريكي في زيارته للمنطقة عن غباء رؤساء الولايات المتحدة السابقين، الذين كانوا يرسلون الجيوش وحاملات الطائرات وقصف المدن وآلاف القتلى، بل ملايين في فيتنام وكوريا والعراق وأفغانستان فقط، للسيطرة ونهب الشعوب بحجة الديمقراطية، وآلاف الجنود الأمريكان الجرحى والقتلى، مع صخب عالمي وضجيج وصحف وكوارث بشرية ويُتم وهروب شعوب ومخيمات فارين... إلخ.
في غزوة ترامب الأخيرة ارتدى أجمل ما يعجبه من ثياب وربطة عنق حمراء وبدلة بنفسجية. وبدل الذهاب للحصول على قرار حرب من مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، اتصل بزعماء المنطقة بموعد وصوله، وحدد ساعة الصفر: سلّم تسلم. مسك هراوة غليظة بيد وتكلم بشاعرية وغزل بزعماء المنطقة.
لم تسبقه حشود عسكرية ولا مظاهرات احتجاج في العالم، واصطحب معه كلاً من وزير الخارجية ماركو روبيو، وزير الدفاع بيت هيغسيث بثياب مدنية، وزير الخزانة سكوت بيسنت، وزير التجارة هوارد لوتنيك.
ليس هؤلاء فحسب، بل رافقه في حملة الغزو أبرز قادة التشليح في العالم، وهم رئيس شركة «تسلا»، إيلون ماسك، والرئيس التنفيذي لشركة «أمازون»، آندي جاسي، والرؤساء التنفيذيون لشركات «بلاك روك»، و»آي بي إم»، و»بوينغ»، و»دلتا إيرلاينز»، و»أميركان إيرلاينز»، و»يونايتد إيرلاينز»، و»أوبر»، و»كوكاكولا»، و»غوغل».
لم تُطلق رصاصة واحدة، بل مشى على السجادة البنفسجية، وحسب مصادر سعودية فـ»إن السجاد البنفسجي يتماشى مع لون صحارى المملكة وهِضابها في فصل الربيع عندما تتزيّن بلون زهرة الخزامى، ونباتات أخرى مثل العيهلان والريحان، التي تُشكّل في مجموعها غطاءً طبيعياً بلون بنفسجي».
في ساعات، وبعد فنجان قهوة، أخذ من السعودية وقطر والإمارات ما عجزت كل الحروب الأمريكية الخاسرة عن أخذه، بل العكس دفعت مليارات الدولارات مع آلاف القتلى والأرامل في عملية تشليح لمحارب أنيق.
قبل الزيارة أخبره مستشاروه، خبراء الشرق الأوسط وهذه الممالك، أن السلاطين العرب يحبون المديح وكانوا في مجالسهم يكرمون الشعراء على ذلك، ومن الأفضل أن تبيع لهم المديح، عكس ما تشعر وتفكر به، وعندها سيدخل هذا السرور إلى قلوبهم، وستدخل أنت إلى خزانات ثرواتهم وتغرف ما تشاء، بل ستصادف طابوراً من الفتيات بشعور محلولة يرقصن رقصة «النعاشات»، وهو تقليد بدوي لطلب الحماية وحث الرجال على القتال.
وخلال مرور ترامب بـ»النعاشات» التفت إلى رقصة ذوات الشعر الطويل الأسود، لكن تفكيره كان منصباً على عيون النفط السود ومقايضة المال مقابل الحماية؛ الحماية ممن؟!
لم يذكر ترامب كلمة «الديمقراطية» بالمطلق في نظم حكم عائلية؛ لأنه يعرف أن هذه قضية مستفزة وتجفل القلوب وميئوس منها في هذه المنطقة، بل ركز على قضية الحماية، اللعب على هاجس الخوف.
وفي جلسات الاسترخاء بعد أن حصل على كل ما أراد وأكثر، لم ينسَ توزيع المدائح مقابل المال. وصف ولي العهد السعودي بأنه «يتمتع بالكثير من الحكمة»، بل سأله: «كيف تنام بعد كل هذه الإنجازات؟».
وقال عن محمد بن زايد إنه «قائد قوي ورجل عظيم»، وعن أمير قطر إنه «رجل رائع وقائد كبير»، ولا يصح القول إنه عظيم بعد أن لصقها بالأمير الإماراتي.
ولم ينسَ أن يكيل المديح للجولاني ووصفه بأنه «شاب جيد جداً، جذاب وقوي البنية». وبما أن الجولاني ليس عنده المال ليعطيه، فباع له الجولان وحقول النفط السورية والتطبيع وإقامة دائمة للقواعد الأمريكية التي قرر ترامب قبل التحول العاصف سحبها من سورية.
ثم أعلن أنه «رغم الماضي ترفع العقوبات عن سورية، وسنراقب ما سيحدث»، وما سكت عنه الكلام وباطن النص يقول: «نعرف إنه إرهابي؛ لكن سنمنحه فرصة ونراقبه». كذلك هي فرصة حياة للشعب السوري، هدية الرئيس بعد خنق سنوات كلفت هذا الشعب البريء الكثير من الويلات والضحايا والتصدعات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية.
لم تطلق على ترامب رصاصة اغتيال، بل أطلقت الفتيات شعرهن الأسود، رمز الكرامة الوطنية والقبلية.
نهاية عملية الغزو الأنيقة قال ترامب في تصريح ليس من المؤكد إن كان مقصوداً أم لا: «سأعود لألتقي حفيدي»، بعد أن حقق كل أهدافه، ولم يعد لديه أي طموح في شيء ولا لقاء القيادة الأمريكية، بل لقاء حفيده.
أول محارب أمريكي يعود على طائرة دولة مبتزة هدية قطرية بقيمة 400 مليون دولار، قال عنها مسؤولون أمريكان إنها يجب أن تخضع للفحص، لأسباب أمنية، تعكس طريقة تفكير ونظرة هؤلاء إلى «هؤلاء»؛ لأن العرب جميعاً، حلفاء أو أعداء، مصنفون كإرهابيين: إرهابي وشيك، إرهابي محتمل، إرهابي متخفٍّ، إرهابي قد يظهر في ظروف غير متوقعة في منطقة لا وجود لمنطق وسياق وتسلسل وسبب ونتيجة، بل يتحكم فيها المزاج والعقيدة والرغبة والمصادفة وحتى الحماقة.
عادت النعاشات (من: أنعشه، أفرحه، حفزه، أيقظه، أطرب قلبه) إلى البيوت، وعاد الأمراء إلى القصور، وعاد الرئيس الأمريكي مع فريقه محملين بكل ما خسرته الولايات المتحدة في تاريخها في الحروب وفي الكوارث الطبيعية الأخيرة: المال مقابل الحماية.
لكن الحماية من أي عدو؟! مرة واحدة أفلت لسان باراك أوباما، وقال بالحرف الواحد يخاطب هؤلاء: «العدو في الداخل».
قامت الدنيا ولم تقعد على الرئيس الأسبق، وباراك أوباما ليس مفكراً ولا فيلسوفاً ولا قارئ كف، بل وضع معلوماته المخابراتية في صيغة وجهة نظر، ويعرف بدقة أن الواقع الظاهري ليس هو الواقع المخفي، وعلى هذه الممالك فتح النوافذ للهواء النقي قبل أن تكسرها يوماً رياح التغيير؛ لأنها آخر معاقل العبودية في العالم، التي حاولت تجنبها بإشعال الحرائق في بيوت العرب.

أترك تعليقاً

التعليقات