حقائق الربح والخسارة في اتفاق وقف إطلاق النار بين صنعاء وواشنطن
- محمد محمد السادة الأثنين , 19 مـايـو , 2025 الساعة 7:38:24 PM
- 0 تعليقات
السفير محمد محمد السادة / لا ميديا -
أثناء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقاً)، اجتمع الرئيس الأمريكي حينها جون كينيدي بمستشاريه العسكريين، وطرح عليهم تساؤلاً رئيساً حول إمكانية إصابة الصواريخ النووية السوفييتية المُنصبة في كوبا أهدافاً في الأراضي الأمريكية. الرد أكد إمكانية إصابة الصواريخ السوفييتية أهدافاً أمريكية؛ لذا ولاعتبارات الأمن القومي الأمريكي قرر الرئيس كينيدي الدخول في مفاوضات مع الجانب السوفييتي أفضت إلى اتفاق أنهى الأزمة.
دوافع القرار الأمريكي في إنهاء أزمة الصواريخ الكوبية لا تختلف كثيراً عن دوافع القرار الأمريكي ومتطلبات الأمن القومي بإنهاء الضربات العسكرية المتبادلة بين واشنطن وصنعاء؛ فقد نجحت صنعاء -من خلال ما تمتلكه من إرادة وقدرات وتكتيكات عسكرية متقدمة- في إظهار الإرهاق والتفسخ العسكري الذي تُعاني منه الولايات المتحدة، الذي يتضح في عدم قدرتها على ردع اليمن في موقفه المساند لفلسطين، وفشل حملتين عسكريتين على اليمن في الحد من قدراته العسكرية، الأولى خلال فترة الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن، والثانية التي قادها الرئيس الحالي دونالد ترامب، والأهم من ذلك هو أن فشلها الاستخباراتي في اليمن زاد مخاوفها من احتمال توجيه ضربة يمنية قاصمة لهيبة الولايات المتحدة العسكرية كقوة أولى عالمياً، من خلال إصابة مباشرة لحاملات الطائرات الأمريكية والمجموعة المرافقة لها، أو إنهاء التفوق الجوي الأمريكي، خصوصاً وأن الدفاعات الجوية اليمنية -كما سبق أن أشار قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، وبشهادة مسؤولين أمريكيين- كانت على وشك إسقاط مقاتلات "إف 16" و"إف 35"، وهما فخر الصناعات الجوية الأمريكية.
خلال شهر ونصف من حملتها العسكرية الثانية على اليمن، والتي كان مُقرراً لها أن تمتد لعشرة أشهر، خسرت الولايات المتحدة مقاتلتين من طراز "إف 18"، و7 طائرات مسيّرة من طراز "إم كيو 9"، بالإضافة لخسائر عسكرية كبيرة تُقدر بأكثر من 4 مليارات دولار، مع استنزاف مخزون الذخائر الاستراتيجية الأمريكية المخصصة لمنطقة "الأندو-باسفك". لذا لا غرابة أن يصف الرئيس ترامب اتفاق وقف إطلاق النار مع اليمن بالنصر، وأن تصفه المتحدثة باسم البيت الأبيض، أنا كيلي، بقولها: "لقد نجح الرئيس ترامب في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وهو اتفاق جيد لأمريكا وأمنها".
المعطيات السابقة هي الدافع الرئيس للإدارة الأمريكية لإعادة تقييم حساباتها والتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، لاسيما في ظل تأثيرات تلك المعطيات على الاستراتيجية الأمريكية في منطقة "الأندو-باسفك" المخصصة لاحتواء الصين، بالإضافة إلى حرص الرئيس ترامب على المحافظة على صورته لنفسه كشخص مهووس بالبطولة، وعدم تدهور شعبيته في الداخل الأمريكي، الأمر الذي دفعه لاتخاذ قرار إنهاء الحملة العسكرية الثانية على اليمن بعد سبعة أسابيع.
الربح والخسارة في اتفاق وقف إطلاق النار
بغض النظر عن شكل اتفاق وقف إطلاق النار المُعلن في 6 أيار/ مايو الجاري بين صنعاء وواشنطن، من حيث كونه مكتوباً أو شفوياً، المهم أن من أعلنه بشكلٍ رسمي هي سلطنة عُمان، وهي وسيط محايد ومقبول لدى الطرفين. والمهم أيضاً الالتزام بهذا الاتفاق الذي صُمّم من أجل وقف الضربات العسكرية اليمنية على البحرية الأمريكية في البحر الأحمر، وحفظ ما تبقى من الهيبة العسكرية للولايات المتحدة، وعدم تعميق مأزقها في اليمن بعد فشل عمليات الردع.
من الواضح أن جوهر الاتفاق المُعلن بين صنعاء وواشنطن يُعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل شن العدوان العسكري الأمريكي على اليمن في 15 آذار/ مارس الماضي. وهذا يعني أن موقف صنعاء المُعلن بفرض حصار بحري على العدو "الإسرائيلي" ظل دون تغيير، ويعني أيضاً تراجع عن الأهداف الأمريكية المتمثلة برفع الحصار البحري عن الكيان "الإسرائيلي"، وما سماه الرئيس ترامب "سحق الحوثيين"، وتدمير قدراتهم العسكرية، وإجبارهم على وقف عملياتهم العسكرية المساندة لفلسطين، وبالتالي فصنعاء هنا هي الرابح الأكبر، لاسيما أن الاتفاق صُمم من أجل مصالح الولايات المتحدة وبحريتها، دون اعتبار لـ"إسرائيل" ومصالحها، ما يُعزز موقف اليمن في حصاره البحري والجوي على العدو "الإسرائيلي".
إن افتراض صحة ادعاءات الرئيس ترامب بأن من يُسميهم "الحوثيين" استسلموا، وأنهم سعوا للاتفاق، يُضاعف مكاسب صنعاء، ويدحض ادعاءات الاستسلام، فكيف لمن يستسلم عدم تغيير موقفه وأهدافه؟! وكيف لمن ينتصر التراجع عن موقفه أهدافه؟! أما بالنظر إلى معايير الربح والخسارة لكل طرف، وفق معاييره وما يراه من مصالح، يُعد الاتفاق ربحاً ونصراً لكلا الطرفين، مع فارق أن خسائر الولايات المتحدة كقوة عسكرية أولى على مستوى العالم هي خسائر كبيرة جداً معنوياً وعسكرياً ومادياً، مقارنة بخسائر اليمن وتضحياته المستعد والمُهيأ لتحملها في إطار معركة "الفتح الموعود والجهاد المقدس" التي سبق أن أعلنها.
إضافة لما سبق، فمديح الرئيس ترامب لمن يُسميهم "الحوثيين" بالشجاعة والتحمل، هي حقيقة، وإن كانت لتبرير فشل الحملة العسكرية، وشرعنة اتفاق وقف إطلاق النار معهم، كما تدحض ادعاءه بأنهم استسلموا، أو حتى سعوا لوقف إطلاق النار. وهنا تحاول صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في مقال لها بعنوان "لماذا أعلن ترامب فجأة النصر على الحوثيين؟"، التخفيف من شطحة ترامب قائلة بأن الوسيط العُماني هو من اقترح على المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف مخرجاً للوضع، فيما الحقيقة التي تنكرها الولايات المتحدة، رغم اتساقها مع منطق وسياق الأحداث، وستُكشف لاحقاً، هي أن الولايات المتحدة طلبت من العُمانيين التواصل مع صنعاء من أجل التوصل لإيقاف متبادل لإطلاق النار.
ختاماً، فقد مثلت عمليات اليمن البحرية والجوية في مواجهته العسكرية مع الولايات المتحدة وكيان العدو "الإسرائيلي" تجربة هامة على مستوى اليمن والمنطقة والعالم، كشفت عن معطيات وتحولات جديدة، عززت مواقف الدول الكُبرى والإقليمية المناوئة للهيمنة الأمريكية، كالصين وروسيا وإيران، كما كشفت عن تحول اليمن إلى قوة إقليمية ناشئة، وجزء لا يتجزأ من معادلة الأمن والاستقرار على المستوي الدولي، ورقم لا يُمكن تجاوزه في حسابات القوى الكُبرى تجاه المنطقة العربية وقضاياها، وفي المقدمة القضية الفلسطينية. كما أكدت مصداقية موقف اليمن المتقدم الذي يتجاوز الحسابات والمصالح في دعم الحق الفلسطيني؛ كونه موقفاً دينياً وأخلاقياً وإنسانياً أولاً، وليس موقفاً طارئاً، وهو ما سبق تأكيده قبل عملية "طوفان الأقصى" بست سنوات، عندما أعلن السيد عبدالملك الحوثي عام 2018، أن اليمن يتطلع ومستعد للمشاركة في أي حرب قادمة يشنها الكيان الصهيوني على أبناء فلسطين أو لبنان.
إن ما قام به اليمن من إسقاط لهيبة الولايات المتحدة كقوة أولى عالمياً، وكشفه لهشاشة كيان العدو "الإسرائيلي" الذي ينظر إليه البعض كقوة عسكرية أولى في المنطقة، يُشكل درساً عملياً لشعوب الأمة العربية والإسلامية وحُكامها في حتمية النصر على أعداء الأمة، وفي مقدمتهم كيان العدو الصهيوني، الذي يحاول فرض "معادلة الاستباحة" على المنطقة العربية وشعوبها الحرة، وأن ذلك النصر يستوجب تحمل أبناء الأمة لمسؤولياتهم الدينية والاخلاقية والإنسانية، والالتحاق بموقف اليمن المشرف ومعركة الفتح الموعود والجهاد المقدس لإنهاء حالة الهوان والذُل، واستعادة المكانة والدور الحضاري المشرف للأمة.
المصدر محمد محمد السادة
زيارة جميع مقالات: محمد محمد السادة