شَدْو البنادق
 

مجاهد الصريمي

مجاهد الصريمي / لا ميديا -

على وقع نبض قلوب المجاهدين المستمسكين بعروة الله الوثقى، ومع تناغم مارشهم العسكري الناتج عن دوي خطو أقدام هامات موصولة الدروب بكنه الخلود وموجبات الوجود، تم لنا أن نعرف ذواتنا من خلال شاهد ما قدموه ولا يزالون على امتداد خطوط المواجهة، نستدل على عظمة عقيدة اعتقدوها، ومسيرة انتهجوها، وقيادة تولوها، كيف لا والقيم النابعة من أصالة الهوية لم تجد وعاءً يحتويها سواهم، فتجلت بظلهم قمماً على رؤوس الجبال الشامخات، وفوق هام كل العوالي المنيفات؟! كيف لا ودماهم التي تهمي على الأرض تكسبها القداسة وتكسبنا الحياة والحرية والسيادة؟! لأن الدورة الدموية في أجساد اليمنيين ما كان لها أن تكون تامة الحدوث ووافية الدلالة على معنى الحياة إلا حين يقترب الأحياء المحاصرون بالفناء والمهددون بالزوال من واقع الأحياء الذين أرغموا الموت على الاستسلام أمام مبدعات ولاداتٍ توفرت لهم وفق ما انبنت عليه قواعد معرفتهم لأنفسهم والغاية من وجودهم ومَن خلقهم وما هو مصيرهم. 

وعلى أساس من الحكمة وحظ وافر من السكينة وسعة أفق ورحابة صدر مدعمة بالثقة بالله، والاستجابة لأمره، واستشعار عنايته المحيطة بهم ورعايته الشاملة لهم، سطروا في صفحات أيامهم إلمامهم بمترتبات البدايات ومصاحباتها، فكانت النهاية بالنسبة لهم انتقالاً من حياة مُزمنة إلى حياة خارج دورة الزمن ومقاييسه فقط، لأنهم عاشوا حياتهم مع الله، ومعية الله تلازمت مع عميق معرفتهم به، وعظيم قربهم منه. ومن هنا عرفوا كيف يجعلون من الموت صلة وصل بحياة أعم من حياة كان الموت يتهددها. 
وباختصار نقول إنهم عاشوا جنوداً لله وسلكوا صراطه المستقيم وقاتلوا ويقاتلون في سبيله. فإن استشهدوا حلوا ضيوفاً على ربهم يبسط لهم من نعمائه ويجري عليهم من رحماته ورزقه. ومع بقاء أجسادهم لدينا لنقيم عليها طقوس الموتى، يتوجه الله إلينا بالحديث عنهم ليقطع الشكوك والظنون باليقينيات والمسلمات القطعية التي تفصلهم عن عالم الموتى، فإن قال الإنسان لقد ماتوا، يجيبه القرآن: (بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون). 
لذلك ليس الحديث عن مجاهدينا وعن البنية التي تقوم عليها مؤسستنا العسكرية بالحديث الذي ينحصر على ما قامت عليه النظريات العسكرية وأبرزته الأبحاث والدراسات الصادرة عن الكليات والأكاديميات الحربية، بل هو الحديث الذي يتناول كوامن النفس الإنسانية، ومكونات الذات البشرية، وأبعاد وميزات الآدمية التي بدأت من الله وستنتهي إليه. 
ودعونا في هذه العجالة نستنطق شَدْوَ بنادقهم المستوعبة لنبضات قلوبنا ومضمون عقيدتنا وكمال فكرنا. ولسنا هنا بصدد متابعة الرصاصة باعتبارها شحنة بارود وقطعة معدن، بل نتقصاها حصيلة إيمان، ومقام مسؤولية، ونتاج قضية، وانعكاس مظلومية، فصوت البندقية هو مستقر ما بلغه الأدب، وتمام ما توصل إليه الفكر. ونحن حين نبحث في المعارك وثمراتها والملاحم وإنجازاتها نجد الرصاصة قبل أن تكون رصاصة كانت كلمة، ونجد الإنجاز العسكري قبل أن يكون إنجازاً كان خُطى متسارعة نحو القضاء على العدو، ثابتة في ميدان مواجهته. وإذ نسعى لتعميق الوعي بالعقيدة العسكرية المخالفة لأي عقيدة بنت عليها الجيوش جاهزيتها في كل العالم، لا شك أن المجاهدين الأوائل قد وضعوا لنا معالم الطريق التي توصلنا إلى الإحاطة بجوهر المقاتل اليمني ومستوى القوة التي يتمتع بها، القوة التي لا تعتمد على المادة كأساس، بل تنطلق من الروح التي هي نفخة من روح الله تعالى وصمام أمان الكرامة الإنسانية.
يمكننا عزيزنا القارئ أن نفصل كل ما تقدم ونبسط كل ما سيأتي من خلال عدة جوانب: 
أولها: أن المجاهد عندما انطلق إلى جبهات القتال انطلق بكامل وعيه للدين وعظيم معرفته للخالق واستعداده المطلق لأن يقدم روحه من أجل الحق وفداءً للرسالة. ولعلنا نجد ذلك من خلال الكلمات التي خلدها التاريخ حين انطلقت من أفواه المجاهدين فمازجت خلجات القلوب، وصوبت نظرنا إلى ما سيبقى، وأبعدتنا عن الضبابية والوهم. فهم لا يقبلون بأنصاف الحلول ولا يرضون الإمساك بالعصى من المنتصف، بل يتعاملون مع الأحداث والقضايا والتوجهات بجانبين: إما مؤمن صريح، وإما منافق صريح. 
فهذا «أبو حرب الملصي» يتحدث عن كيف أن المسلم يمكن أن يستوطنه يهودي فيتصرف بتصرفات اليهود، وينطلق من حيث انطلقوا، يزعجه ما أزعجهم ويبهجه ما أبهجهم.
ثانيا: إن الروحية التي عاشت الكمال الديني ووصلت إلى مستوى كبير من القرب من الخالق سبحانه وتعالى باتت تتعامل مع كل واقعها ومع كل ما تلاقيه من مشكلات وآلام باعتباره خيراً كله، المهم ألا تفقد نفسك وألا تضيع البوصلة في نهاية الطريق. وبعبارة أدق إن العقلية المنفتحة على الله استطاعت أن تحول الخسائر إلى أرباح. فتعالوا بنا نبحث عن تفسير ذلك من خلال ما تحدث عنه أبو حرب الملصي. في بداية العدوان السعودي الأمريكي على بلادنا، والذي جاء بعد هيكلة الجيش وتمزيقه وتفتيت قواه، فلم يقف أبو حرب موقف المتفرج الذي يندب حظه، بل انطلق بروح الواثق الذي يستمسك بحبل ربه، فالجيش المنهك والمفكك أصبح في نظره نواة تشكلت خلالها ثلاثة جيوش.
ثالثاً: لقد علمنا المجاهدون أن من يحمل معرفة الله تعالى، ويعيش المسؤولية تجاه ما فرضه الله عليه، لا بد أن ينعكس ذلك على مستوى معايشته لقضايا الناس واهتمامه بأحوالهم وحمله لمظلوميتهم، فسبيل الله هو سبيل الناس، ألم يقل عز من قائل في كتابه العزيز: (ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا)؟! ونجد هذا الملمح متجسداً في مجاهدينا في أول انتصار مدوٍّ حققه أولئك الصناديد في جبهة نجران، حيث وقف أبو حرب وهو يزف إلى الشعب البشارة معززاً ديمومة لواء النصر، مستذكراً صورة ذلك المكلوم الذي وصل على بيت قد هدمت أركانه وقتل سكانه، فلا بنوه باقون ولا فصيلته التي تؤويه كتبت لها النجاة، فأخذ يديه غارزاً إصبعه في عينه وهو يقول: «بعيني يا سعودي!»، فرسخت هذه الصورة في ذهن «أبو حرب»، وخصوصا عندما رأى النساء والأطفال في ذلك البيت عبارة عن قطع متناثرة، حيث قال من على تخوم نجران كلمته هذه: «نقول لذلك اليمني الحر الذي قال بعيني يا سعودي،. إننا اليوم قلعنا عيناً من عيون السعودية، وماضون في قلع العين الأخرى».
رابعا: إن ما راهن عليه المجاهدون ومنذ بداية العدوان هو الله وحده، بعيداً عن الماديات وحسابات القلة والكثرة، فقبل المنظومات الصاروخية والمسيرات التي منَ الله علينا بتصنيعها وإدخالها دائرة المواجهة كان المجاهد يتحرك كمنظومة إلهية شاملة تختزن في داخلها كل معاني القوة وسياقات تشكلاتها، مع أقدام حافية والأجساد ترتدي الأسمال البالية، وعلى الأكتاف بنادق موغلة في القِدم مفعمة بالبدائية. كل هذا اكتسب الجدة والحداثة والقدرة على تغيير موازين المعركة عبر امتزاجه بالسلاح الفعال وذي الجدوائية. إنه سلاح الإيمان الذي جعل من المقاتل اليمني سلاحاً يتسلح به السلاح. فهذا «أبو حرب»، ومع بداية العدوان وبلوغه الذروة من الغرور والكبر والعنجهية، وآلة الدمار والخراب للمعتدين تطال كل شيء، والطابور الخامس المكون من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وعبيد الدنيا في أوج نشاطهم التفكيكي والتخذيلي؛ لقد حد هؤلاء ألسنتهم بكل مجلس، وسلقوا بها المجاهدين بكل محفل، وفي كل مقام ومقيل وأشاعوا الرعب، أثاروا الخوف، وبثوا الشعور بالعجز بين الناس، ونادوا بالاستسلام، وتبنوا الدعة والهوان، ودعوا الناس إلى التخلي عن شرف الدفاع عن أرضهم وأعراضهم... فكان «أبو حرب» وسائر المجاهدين الذين هبوا لمواجهة العدوان يخوضون حربين على مسارين في الوقت نفسه: حرباً عسكرية، وحرباً فكرية نفسية كلامية، ومع ذلك كانوا جديرين بسحق الباطل وإبطال سحر الضلال، بجدارة ومن وازع ديني وبناء عقائدي قوي ومتين، ذي معطيات ثابتة مرجعها القرآن، ورافدها في إيجاد الخطط والبرامج وتوفير الأرضية الخصبة التي تهيئ لنمو الروحية العالية القوية والصلبة في مواجهة كل التحديات.
لقد حارت في رحاب المجاهدين عقول الحكماء، وتضعضعت أمام كمالهم موازين البيان وفنون البلاغة وبدائع الكلام، لأنهم بلغوا مبلغ استحقاق الاتصاف بالآدمية المتجسدة بعنصر تكوين ذواتهم المستحقة لتكريم الله تعالى، والحاصلة على رحماته، والمستنزلة بركاته، والوافدة إليه سيراً على الصراط المستقيم بلا ميل، واستمساكاً بالدين عن يقين ينعكس بتصرفاتهم وأساليب تعاطيهم مع واقعهم ومحيطهم.
والمتتبع لحاصل ما أنجزوه، ومستوى ما سينجزونه، يدرك تمام الإدراك أنهم سبروا غور الحقيقة، وشكلوا كنهها، لأن مقام تحصيلهم للقوة ومدى توحدهم بالعزة كان ولا يزال وسيبقى القرآن الكريم، فبكتاب الله تحركوا، ومنه تزودوا، وعلى أساس هداه اهتدوا إلى سواء السبيل.
لقد قالوا "ربنا الله" مقرين بعبوديتهم له، واضعين خطوطاً عريضة تلتقي فيها مواثيق الاعتقاد القلبي الداخلي في النفس والوجدان، متبعين ذلك الاعتقاد الواقع موقع النظرية بقول ينتج عن قناعتهم ويفسح المجال لمنغلقات الواقع والحياة من حولهم أن تخضع لنور الحق الناسج لاعتقادهم، والحاكم لأقوالهم. ولم يقفوا في كنف النظرية، بل انطلقوا بما تعنيه الكلمة ليُتبعوا القول العمل وينزلوا النظرية منزلة التطبيق. وهم حين يعملون يعضدون العمل بالاستقامة والتقدم بالثبات.
كثيرة هي الروايات والخوارق الأسطورية التي تعاقدت عليها مسافات الزمن بما تم لها مما دونه التاريخ بحقها وبحق صانعيها عبر العصور، لكن عند الوقوف مع رجال الجيش واللجان الشعبية واستقراء بطولاتهم، ومحاولة مقارنة ملاحمهم وبطولاتهم بسابقاتها من الملاحم والبطولات، نجد التاريخ خالياً من أمثالهم، مشدوهاً بهم، منجذباً إليهم، فهم الناشئون في كنف القرآن والمعتصمون بحبل ربهم الرحيم الرحمن، بانقيادهم لأوليائه وهداة عباده والقائمين بأمر دينه، المكملين لتمام الرسالة ببعث حق محمديٍ تجلى من صعدة مران وامتداد ولاءٍ علوي احتضنه جرف سلمان، فكانت ملازم الشهيد القائد باعث أجسادهم كيمنيين من موات معنوي، وتسلسلت كلماته كنفحات ربانية ونفخة من روح الله، فتحررنا من ربقة الاستلاب وأثرة التبعية.
فما أزكى منبت المترعرعين في أحضان المسيرة الذين أغدقتهم بدفء الروح، وتغذيهم بجرعات الأخلاق، وتمحور ذواتهم على حب الجهاد وعشق التضحية والاستشهاد، ومن انهمار أمزان التوجيهات الربانية المحفوفة بطابع الرسالة، وأنهر الهوية الإيمانية المتدفقة من خطابات وكلمات السيد القائد رعاه الله، بتنا نرى "مالكاً" في كل جبهة و"عماراً" في كل ميدان.
نعم، أولئك الحاملون للإسلام كاملاً غير منقوص وهم يقولون:
ولست أبالي حين أُقتلُ مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي

فهناك "عبد القوي الجبري"، ذلك الأسير الذي لم يجف عرقه من التنكيل بآسريه حين وقع في أسرهم ودفنوه حياً! وأنت ترى لحظاته الأخيرة في مضمار الدنيا ومشوار العاجلة والحياة الفانية كيف ختم رحلته معها مستحقاً لوسام الشهادة وحائزاً لشرف الخلود وموجبات التغلب على الامحاء والزوال. 
سترى ليثاً يزأر في عرينه الترابي جاعلاً من الموضع، الذي أراده الأعداء ومرتزقتهم قبراً، مهداً يخرج منه 1000 عبد القوي الجبري، إذ واجه الموت كجبل لا تهتز أوتاده، حين عزم على تقديم موقف كافٍ يترجم عقيدة المؤمنين وسمات الكرارين ومنطلقات المجاهدين الحسينيين.
لقد تحلقت حوله أذيال العدوان ملوحةً بإنزال العذاب بجسده وهي تطلب منه ما يحقق لها الغلبة على المجاهدين، وقد ظن شذاذ الآفاق أن "عبد القوي الجبري" سينيلهم ما يبتغونه ويحقق لهم ما أرادوه، لكن سرعان ما تواردت عليهم الهزات والنكسات وتعاقبت على وجوههم الصفعات ووجدوا أنفسهم هم الأسرى في ظل أسير عاش حراً في لحظات أسره من قبل المرتزقة والعبيد، وكذلك وضعهم أمام حقيقة موتهم مع وجودهم على قيد الحياة حين جعل من لحظات حياة دنيوية أخيرة معركة محتدمة وشاملة تمكن فيها الشهيد الحي والحي الشهيد "عبد القوي الجبري" من أن يهزم الموت، وأبان وجه القضية وبنيتها.
لله ما أعلى مقامات الذين توثبوا حمماً على الحلف المغامر
لله در أولئك الأفذاذ هدوا كل كافر
لله ما أمضى سيوفهمُ وما أنقى المعابر
المبديات بقلب عتمتنا شعاع النور
الناسجات بكون أمتنا خيوط الفجر
الحاكيات ملاحم الأبطال صناع المآثر
الموحيات بخطوهم
المبدعات لمجدهم
الناثرات بدربهم
ورد الحياة المستظلة بانسياب الدم كي تبقى الحقيقة...
لا نبض قلبٍ يشير إلى وجود الآدمية بيننا
إلا الذي عُزِفت بنبضهِ أمنيات التوق للآتي الذي يوليه شريان الزناد
المستقل بأصبعٍ ظلت تسبح في رحاب الله
تتلو الذكر
تورق من محيط جوانح الذات التي انطلقت
جهاداً في سبيل الله والمستضعفين
حدائق ازدانت بمعطى التضحيات
مَشيدةً بالصبر موسِمَها الفداء
تلوذ في آثارها الأجيال
ينتحر الزوال
يُهدُّ ما يدعى الفناء
فنلتقي بالخالدين
لنستهل مسيرةً أزليةً
معراجها الإيمان
موثقها الهدى
عنوانها الإسلام
والقرآن نهج حياتها
تستشعر المعنى المراد من الخلافة في رحاب الأرض
حين تسير في خط الولاية
ومع قرين كتاب ربي
بدر ثورتنا
المقيم العدل
ماحي الظلم
يعسوب الرسالة
مكنون حيدرة
سليل أبي محمدٍ الحسن
الماد روح الطف
نفس حسينها ووريث نبعٍ بالكرامة يزدهي
ويزلزل الدنيا بصوتٍ هاتفٍ
هيهات منا ذلةً
ولزيد فيه مهابة ومقام ثورة 
تنشد الإصلاح في شأن الجميع
على أساس الامتداد لخط أحمد
والثبات على خطى ختم النبوة
وعليه يا مران خذني فيك جلمد صخرةٍ أو حصاة
 شهدت بتقبيلٍ لأقدام الحسين البدر أو حست خطاه
يا جرف سلمان اتخذني صاحبا
أرجوك قص عليّ كيف قطعت آلاف السنين
لتلتقي أبدا بأهل الكهف منسجماً مع القرآن
ممتزجاً بأعلام الهدى
مستنداً لقوة صبرهم وعظيم بلواهم
لتبقى شاهداً في كل عصر
عن حسين البدر وارث آدم وتمام مرحلةٍ تجلى الحق فيها ظاهراً
تداعت في مواكبه العصور
وأُحيلت الأجداث روضات وباتت كل مقبرةٍ
بهذا العصر مهداً للوجود الآدمي وللقضية!

إننا اليوم في رحاب مجاهد بلغ بجهاده شرف المعالي ووفى بصبره وتفانيه وإخلاصه ذروة العزة وقمة الشجاعة. إنه القائد الميداني الشهيد "أبو خليل المؤيد" رحمه الله، الذي استزاد بنهج القرآن منذ صباه والتزم بتولي علم الهدى، فرضي عنه وأرضاه ربه ومولاه.
وكيف لا نستجمع حطام النفس ونستوعب قداسة الحق ونحن نلتقي بمآثر الذين ارتقوا إلى رياض النعماء الإلهية وحازوا الخير والفوز والفلاح من ربهم وأضحوا نجوماً يستدل بها السالك في ظلمة السرى على صراط العزيز الحكيم، وباتوا كذلك سياج منعة أكسب المستضعفين قوةً قوضت كل قوى المستكبرين وقضت على كل رهانات الفراعنة الظالمين؟!
مع أبي خليل تضعنا بدايات الوصول لعالمه وملاذات الحصول على موجبات الاتحاد بذاته محطة طفولته المفعمة بالنباهة والذكاء المتقد الذي نستوحيه من خلال سجع ألحان غِريد في طابور صباح مدرسته وهو يسلسل كلمات الهدى ارتجالاً بين يدي أقرانه وبحضور معلميه. وليت الزمن يستطيع مد طرفه إلى ما بعد تلكم المرحلة فيرى ذلك الطفل وقد بلغ مقتبل شبابه وكيف صار كل ما يقال عن الرجولة والنجدة والشجاعة حفنة تراب تتهيأ لاحتضان قدميه.
كيف لا وحصاد بندقيته لرؤوس الغزاة ممدٌ بفيض أحاسيسه المستخرجة بانهمار مداد قلمه شعراً يغذيه انسياب دم على كل خلية من خلايا جسده الذي بات كل جزء فيه متبوأً لتولي أبي جبريل وباتت كل ومضة يجلوها بمشاعره فعلاً أيقاظياً ومورد وعي ومشهد نفير مع الحق وتلبية لداعيه، وهكذا أصبح القلم موفود البندقية إلينا وصارت الكلمة رسول رصاصة أطلقها مجاهدونا؟!
وهنا يلتقي "لطف القحوم" رحمه الله بأطياف روح "أبي خليل المؤيد" مصوباً بصوته لظى الكلمة الهادّة لقوة الباطل، معتنقة بوح المغارد، ومقومة لمسار الزوامل، موحية بسرعة الاستجابة، ومتحلية بروح المبادرة. وهل هنالك أبلغ من "أبي خليل" الذي يقول في مستهل زامله الآخذ بنواصي الذوق إلى عذوبة اللحن الجهادي وصدق الأداء الإنشادي لدى لطف القحوم:
ألف لبيك أبو جبريل يا نجم عالي
رمز للحق غالي
ألف لبيك يا من هد عرش الضلالي؟!

ودعنا عزيزي القارئ نورد بين يديك شاهداً شعرياً آخر اختطه شهيدنا "أبو خليل" رداً على زامل أرسله إليه أحد المجاهدين يطلب إجازة كي تنطفي في قلبه لواعج الشوق التي باتت شديدة الوقع على نفسه وباتت من دواعي الخطر المهدد لمقامه الجهادي، قال هذا المجاهد برسالته:
عاصفات الشوق أشد من الطواير
خلت الأشجان نار
تعصف الأفكار من كل المحاور
ما خرب ما له عمار
ويل من مثلي محاصر في قراره!

فرد عليه الشهيد "أبو خليل" بهذه الأبيات التي توظف كل كيانها لله وتوجه كل نوازعها في سبيله ولإعلاء كلمته تعيش وجدها النضاح بالحب لله وتعيش الوله الشديد المزدان برغبة جامحة لاجتثاث الطاغوت والتنكيل بجحافله، يقول:
شوق يتحول جحيم لكل كافر
والحنين إعصار ثار
والعواطف أصبحت بركان ثاير
والمشاعر خط نار
والسلاح الحب والكاشف انارة
قلبي القناص والنبض الذخاير
في شراييني الشعار
والحواس الخمس تتحدى المخاطر
والمتارس لي ديار
في سبيل الله عشقي والإثارة!

أترك تعليقاً

التعليقات