وائل إدريس

وائل إدريس - كاتب يساري ليبي -

التناقض مع الرأسمالية الغربية والكيان الصهيوني ليست علاقة مبادئ مجردة. هذا الكلام فخ، لأن أغلب الناس تهتم بمصالحها فقط. التناقض مع الإمبريالية، ومخفرها الصهيوني كأداة متقدمة لها، هو تناقض من أجل مصالحنا وتطورنا بالدرجة الأولى.
يتحدث أميركال كابرال عن تجربة التحرر في غينيا بالقول بأن "الاستعمار البرتغالي ترك لنا الأرض ولم يصادرها كما شردوا شعب أنغولا مثلا، فمعنى الفلاح في الجزائر والصين غير معنی الفلاح عندنا، فالنهب كان في الاستغلال بين الأسعار والقيمة الحقيقية للمنتجات الزراعية لذلك عندما أردنا تعبئة الجماهير ناحية الكفاح ضد المستعمر شرحنا لهم بطريقة أخری:
"لماذا أنت ذاهب للقتال؟! ما الذي عليه أنت؟! كيف هو والدك؟! ماذا حدث لأبيك حتى الآن؟! ما هو الوضع؟! هل دفعت الضرائب؟! هل دفع والدك الضرائب؟! ما الذي رأيتموه من هذه الضرائب؟! إلى أي مدى ستحصل على الفول السوداني؟! هل فكرت في مقدار ما ستكسبه من الفول السوداني؟! ما هو مقدار العرق الذي كلفته عائلتك؟! أي منكم تم سجنه؟! أنت ذاهب للعمل على بناء الطرق: هل تقدم لك الأدوات؟! أنت تجلب الأدوات، من الذي يقدم وجباتك؟! تصنع وجباتك بنفسك، لكن من الذي يسير على الطريق؟! من لديه سيارة؟! وابنتك التي اغتصبت، هل أنت سعيد بذلك؟!...".
فالمسألة برمتها تدور حول مصالحنا في البناء، في الصناعة، في الإنتاج، في تطور كل هذا، في امتلاك التكنولوجيا، في الحمائية التي ندافع بها عن تطور منتجاتنا وإبقاء رساميلنا في أسواقنا، في منع نهب مواردنا، في عدم فرض أسعار لا تناسب قيم عملنا، في تأسيس ثقافتنا الخاصة، في أن يكون لدينا ذاتنا الخاصة التي نراهن عليها في تقدم المجتمع البشري، ليس ناحية الهمجية البربرية السائدة اليوم، بل في حق الإنسان في الحياة والرفاهية والمعرفة والعيش الكريم.
طيب، القذافي منذ نهاية التسعينيات وفشل المشروع العربي وانتشار الرجعية فضلا عن أن المسألة ليست إرادوية فقط، جعلته يتوجه إلى أفريقيا لبناء وحدتها، وتحققت أولی خطوات ذلك في تأسيس الاتحاد الأفريقي في سرت عام 1999، مع ذلك نهبت ليبيا ودمرت بعيدا عن فلسطين، بل لأن التناقض بين مصالحنا ومصالح الغرب ظل قائما في ليبيا أو فلسطين أو في أفريقيا، وهذا ما تؤكده الرسائل الإلكترونية (الإيميلات) المسربة لهيلاري كلينتون نفسها في أسباب الهجمة الأميركية والأوروبية علی ليبيا.
فعندما استعمرتنا إيطاليا لم تكن فلسطين مستعمرة بعد، ولم تستعمرنا من أجل قضايا لنا أو مصالح لشعوبنا في خارج رقعة ليبيا، بل لكون الاستعمار حاجة ملحة للرأسمالية الغربية في كل مساحة جغرافية يتساقط فيها المطر وتتواجد فيها الأرض وفي باطنها الموارد وفيها الإنسان المنتج للقيمة والذي يشتري الفائض الغربي. هذه احتياجات الاستعمار، التي تجعل أميركا مختلفة عن فيتنام.
الارتباط بالكيان الصهيوني لا يبني دولاً، فالسادات جرب ذلك وارتد علی كل البناء الناصري، وبدأ بفتح الأسواق للغرب وتدفقت الأموال الخليجية وقام بالتطبيع مع الصهاينة، فماذا صنع بالنتيجة؟!
صنع مدن العشوائيات المصرية، صنع حوادث سكك الحديد وغرق العبارات، وناساً قدرتهم الوحيدة علی التكيف مع الواقع هي البانجو، وسيناء مفقودة السيادة وينتشر فيها الإرهاب... فهل جلب له التطبيع مع الكيان الصهيوني شيئاً ذا قيمة ومصلحة؟! وهل جلب للأردن التطبيع مع الكيان الصهيوني شيئاً ذا قيمة ومصلحة؟!
فالذي يربط التطبيع بالتطور الذي عليه الكيان الصهيوني فهو ضائع في أكثر من جانب. وبالرغم من كل ما سبق فحتی تطور الكيان ليس ذاتيا، بل التطور الذاتي له شروطه في دول الوحدة القوية اليوم، وليس في الدول الصغيرة كالكيان الصهيوني (حتی تطور كوريا الجنوبية وتايوان ليس ذاتيا، ولا يختلف عن الحالة الصهيونية) الذي يجب أن يفهمه في سياق واحد فقط، وهو أنه جزء من الدول الغربية، لكونه أداة امبريالية متقدمة في المنطقة، قدمت له الصناعة والتقنية بشكل مباشر، كما قدمت له فرنسا ابتداءً التقنية النووية، وقدمت له الرساميل والحماية لكونه يشكل رادعاً لأي إقليم صاعد، وقاعدة نحو دولة الوحدة، التي في إنجازها تمنع سوقاً يقارب النصف مليار نسمة - هو أكبر من السوق الصيني الذي شنت ضده بريطانيا وفرنسا حربها وأطلقت عليه أميركا جيشها وفرضت عليه بقية الدول الأوروبية معاهداتها التي كانت تستغل الشعب الصيني بعد حرب الأفيون، ولأنها ستحمي مواردها التي تنتج معظم مصادر الطاقة في العالم، ولأنها ستبني إنتاجها وسوقها وبالتالي ستكون شريكا في حركة التجارة مع الأسواق الأخری، وهذا سيضيق علی الإمبريالية بالدرجة التي يستحيل أن تعيش معها الرأسمالية في الغرب دون الإطاحة بها بالثورات المحلية، لافتقاد الداخل الغربي حينها للفائض من الرساميل، الموزع علی هيئة رعاية صحية واجتماعية وحد أدنی للأجور وفرص عمل متدفقة وغيره، مما يستحيل العيش بدونه، وتنفجر تلك الدول بثورات علی غرار ثورات القرن التاسع عشر في أوروبا.
لذلك فهذه النفقات علی الكيان الصهيوني توفر للإمبريالية كل ما سبق، فهذه قيم زهيدة مقابل جني تلك الأرباح، فقوة شركات على شاكلة "بوينغ" و"إيرباص" تأتي من ريع النفط الآتي من أبوظبي ودبي والدوحة والرياض بالدرجة الأولی، وقس عليهما الكثير من الشركات. 
نحن نتناقض مع الكيان الصهيوني والغرب ليس لأجل حماس أو كفاح، بل لأنه يتناقض مع لقمة عيشنا، مع حاجتنا للسكن، مع حاجتنا للرعاية الصحية، مع حاجتنا للتعليم الأفضل، مع حاجتنا للعمل الذي يؤمن دخلنا، مع حاجتنا للدولة التي نستند عليها والمجتمع الذي يحني صدره لمواطنيه، مع حاجتك للزواج وأنت شاب، مع حاجتك لتلبية طموحاتك في الحياة والقدرة السهلة علی ذلك، مع حاجتنا للحياة نفسها، مع حاجتنا لضحايا المرض، مع حاجتنا لأبنائنا وأحبابنا من ضحايا الهامش والطرقات والخطف.
لا يجب أن نضيع الطريق أبدا.

* كاتب يساري ليبي.

أترك تعليقاً

التعليقات