اليد الجلية
- عبدالرحمن هاشم اللاحجي الثلاثاء , 17 ديـسـمـبـر , 2019 الساعة 5:49:48 PM
- 0 تعليقات
عبدالرحمن اللاحجي / #لا_ميديا -
المتأمل في الفكر الاقتصادي العالمي ومراحل تطوره التاريخية بدءاً من مذكرات أفلاطون في الفلسفة الاقتصادية، مرورا بالمدرسة الميركانتلية، والكلاسيكية، والكينزية، ووصولاً لأفكار فولتمان بشأن النقود، وحتى أزمة عام 2008 يجد أن النظريات الاقتصادية على خلاف أمكنتها وأزمنتها، وبصرف النظر عن ثقافات وأيدولوجيات روَّادها وفطاحلتها، لا تخلو من مصطلح "اليد الخفية".
تُعد "اليد الخفية" القوة الغيبية التي تمنح المعاملات الاقتصادية -حسب اعتقاد العلماء- الاتساق والتحقق. في نهاية المطاف -وبحسب رأي المدرسة الكلاسيكية- يعود الفضل في إيجاد طلب حقيقي على العرض الإنتاجي بغض النظر عن نوعه وكمه إلى "اليد الخفية". هذه اليد التي كان لها حضور كبير في مذكرات المفكر الاقتصادي الشهير آدم سميث والذي أفرد لها باباً كاملاً في كتاب "ثروة الأمم" سقطت في أول اختبار حقيقي لها خلال أزمة الكساد العظيم 1929.
كان سقوطها مدويا وفاضحا حد الإعياء، فبعد 300 عام تقريباً من الإيمان المطلق بأسسها ومرتكزاتها الفلسفية- العلمية البحتة وقف عباقرة الاقتصاد الأشد إيماناً وتعصباً لها مذهولين مطأطئي الرؤوس وأصبح من كانوا يُطلِقون عليهم "المعاتيه" بسبب عدم قناعتهم بها هم المنجبين الفحول، بينما ظهر أولئك العباقرة الأذكياء في موقف مخزٍ للغاية!
من أجل هذا حاول المفكر الاقتصادي جون كينز أن يعيد الاعتبار لأسلافه، فسارع لتخليد النظرية بعد أن نقدها على استحياء وأضاف عليها نوعاً من البهارات الفلسفية والعلمية الذائبة لتكون محلا للقبول العام في أوساط المجتمعات المتباينة وقضى معظم وقته في إثبات رؤيته بالطرق الرياضية والبيانية المعقدة وكيف أن "اليد الخفية" تعمل على إضفاء التوازن الآني للأسعار في جميع الأسواق الاقتصادية، وأن أسعار الفائدة هي السبب الرئيسي وراء الانتعاش والرفاه.
على كل حال، فقد أسهمت الظواهر التي مرت بها البشرية في تعرية الأفكار التي ذهب إليها الاقتصاديون والتي كانت ربما تصلح للزمن الذي عاشوا فيه، مع تحفظنا على ثقافة "اليد الخفية" التي كان لها حضور روحاني لافت في جميع النظريات كما أسلفنا، فالأزمة المالية التي عصفت بدول العالم في 2008 والتي ماتزال آثارها الارتدادية مستمرة حتى الآن مهددة بانهيار اقتصادي حتمي، أسقطت النظرية النقدية القائمة على أنقاض نظرية كينز. كما أن الحروب التي عصفت بالقارة الأوروبية والأمريكية منذ مطلع القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت السبب الأساس وراء تساقط النظريات الاقتصادية وقيام نظريات أخرى على أنقاضها.
وإذا كانت هذه الظواهر والأحداث قد أسهمت في نشوء نظريات اقتصادية هشة اتضح فيما بعد مدى ركاكة أساسياتها وخلوها من عوامل التوفيق والاستمرارية، فإن الظاهرة الاقتصادية اليمنية المعاصرة قد كشفت حتى الآن عن توفيق (مذهل) في التحكم بمسارات المعاملات الاقتصادية بكفاءة عالية... لقد خسرت ألمانيا الحرب العالمية الأولى رغم إنفاقها أكثر من 100 مليار فرنك على التجييش والاستعداد المبكر لتلك الحرب المتكافئة كمّاً ونوعاً، وخسرت الحرب العالمية الثانية رغم إنفاق 5 أضعاف إنفاقها في الحرب السابقة. ونحن دخلنا هذه الحرب غير المتكافئة كمّاً ونوعاً بميزان مدفوعات منهار وبنية اقتصادية مسحوقة وببندقية يعود تاريخها للحرب العالمية الأولى. ومع ذلك حققنا الانتصارات تلو الانتصارات. إن لم يكشف هذا الأمر عن يد جلية في الموضوع فعن ماذا يكشف إذن؟!
لقد كشفت الأيام بأن اليد الخفية التي عناها المفكرون الاقتصاديون الأوائل لم تكن سوى يد الطبيعة أو يد الشيطان - على نحو أدق... فاذا كانت هذه اليد البائدة قد كُسرت وخفت بريقها فلماذا لا تجرب البشرية اليوم يداً برّاقة من نوع آخر؟!
إنها يد (الله) الحكيم، اليد الخارقة الجلية التي لامسناها في الواقع المعاش ومازلنا نلامسها حتى الآن ملامسة فعلية واقعية لا مجرد تخيلات أو تكهنات قد تصح أو لا تصح!... اليد العظيمة المؤسسة لقيام نظرية اقتصادية موفقة تعيد للبشرية اعتبارها وتخرجها من بؤرة الفساد التي وقعت فيها بفعل تلك الإيمانيات الخرقاء.
إن المفترض بل والواجب علينا كأمة نبيهة ساعية لتحرير البشرية من براثن الإفساد بأنواعه أن ندين لهذه اليد المباركة بالفضل والنعمة علينا. على أن الفضل مقرون هنا بالبحث عن الكيفية التي صنعت المعجزة... إن المعرفة الإلهية الحقيقية توجب علينا طرق أبواب الحقيقة طرقا رياضيا - هندسيا من جانب، وفلسفيا- ثقافيا من جانب آخر، وبقليل من الإلهام الإلهي الداعم سنتمكن من إيجاد البدائل المناسبة لأسعار الفوائد ومضاربات الفوركس.
اليد التي مدتنا بعوامل البقاء حتى الآن لن تبخل علينا بالمعرفة العلمية الدقيقة عن الكيفية التي منحتنا التوفيق كل هذه المدة ومازالت تمنحناه حتى الآن، وهذه ثقتنا المطلقة بها، مثلما هي ثقتنا أيضا بالجهات المسؤولة في الدولة -وإن كانت لا تقارن- بتوفير البيانات والمعلومات المساعدة لتحقيق الهدف المنشود.
المصدر عبدالرحمن هاشم اللاحجي
زيارة جميع مقالات: عبدالرحمن هاشم اللاحجي