قمر بني هاشم... البدر مكتمـلاً
- تم النشر بواسطة «لا» 21 السياسي

«لا» 21 السياسي -
لا يحتمل المشهد القادم من بيروت الكثير من الحذلقة الكتابية البديعية، ولا حتى القليل من الحذاقة البلاغية الإبداعية محاولةً لوصفه صوتاً وتوصيفه صورةً، أو لوصله رسماً وتوصيله إحساساً ومعنى.. المجازفة بأن أفعل معلقةً بين الرغبة في التعبير والرهبة من التقصير، ومتعلقةً بين القدرة على البكاء والعجز عن الرثاء، ومتعالقةً بين حكاية الضحية وقصة الضاحية، وعالقةً بين كافي الذهاب إلى كربلاء والإياب إلى حارة حريك وبين نون الحسن والحسين.. وبين صيد الفكرة وقيد الكتابة يقفُ السيد على متنِ الخلود شهيداً، ويصطف العبيد في هامش المحميات شهود زورٍ.
«يطل عليكم السيد حسن نصر الله....»، هكذا تعودنا وهكذا اعتدنا وهكذا سنظل في انتظار إطلالة الرجل الذي نصرَ الله فنصرهُ الله وانتصر له حياة عزٍة وشهادة غزة.. إطلالته هذه لن تكون الأخيرة وإن صمت في مكانه صداه، فإن صوته ممتد من زمانه حتى الأبد مردداً لسانه في مشيعيه «هيهات منا الذلة»، متردداً من حناجر شيعته: «لبيك يا نصر الله».. هو من رفع الراية الصفراء لعقود، وهم من لم ولن يرفعوا الراية البيضاء لليهود.. هو من وعدهم بالنصر وجاء به إليهم، وهم من تعهدوا له بالانتصار وسيأتون به إليه.. هو من هز ورجز بيت العنكبوت، وهم من سيقطع رأس العنكبوت.. هو من واجه وجابه الإمبراطورية، وهم من سيهزمونها.. هو من ذهب ليصلي بهم في القدس، وهم من سيصِلُون ويصلُّون بعده فيه.. هو من صنع لهم المعجزة، وهم المعجزة.
«ما أشبهه بأبيه... ما أشبهكم بـ(زياد بن أبيه)». بهذا وهكذا عنونتُ مقالة أولى غداة تأكيد نبأ استشهاد السيد نصر الله، حكيتُ فيها: «قبل أكثر من عقدٍ من السنين كان لي زميل في العمل (سلفي - سروري)، زارني ذات مقيل وأنا أستمع وأشاهد كلمة متلفزة مباشرة للسيد الشهيد حسن نصر الله، وكان الصوت مرتفعاً للغاية كعادتي مع خطابات السيد الشهيد، وكان تنظيم القاعدة يحكم رداع حينها..
انتظر الزميل مني تخفيض الصوت، إن لم يكن (إحراجاً) منه وله فخوفاً من مكحلي المناسح، لكني لم أفعل حتى أنهى السيد الشهيد خطابه، ودار بعدها بيني وبين ذلك الزميل نقاشاً ساخناً أتذكر خلاصته بقوله: «كم نتمنى أن يكون لنا قائداً ذا كاريزما ومصداقية وفصاحة وشجاعة حسن نصر الله، ولولا عقيدته الباطلة لجعلت منه قائداً لي».
ضحكتُ ساعتها على تعليقه، لتمر الأيام والليالي ويصبح ذلك الزميل بعدها إعلامياً مرتزقاً مع العدوان على اليمن، وفي العدوان على سوريا، ومن ثم عميلاً ناطقاً بلسان الصهاينة من بعد طوفان الأقصى..
تذكرت ما سبق وأنا أقرأ وأستمع وأشاهد ذلك الزميل وأشباهه وهم يتشفون في استشهاد السيد نصر الله، ويوزع أطفالهم الحلوى في مناطق سوريا المحتلة، ويعلقون لافتات كتب عليها «شكراً نتنياهو».. ظل السيد حسن لسنوات معرضاً لتهم التدخل في سوريا، وهي التهم التي أراد منها الدواعش وأسيادهم الصهاينة زرع المزيد من الشقاق والانشقاق الطائفي بين السنة والشيعة، لينصف الله السيد بأيدي هؤلاء أنفسهم، والذين تكشَّف عنهم غطاء الجهاد وافتضحت دعاواهم وظهرت صهيونيتهم في ما يقولون ويفعلون، وذلك بعد أن كان الله سبحانه قد أنصف الرجل باستشهاده على أيدي أشد أعداء الله وأكثرهم عداوة: اليهود، دافعاً ثمن مواقفه العظيمة مع فلسطين والقدس وغزة، وجميعها كان يحسبها ذلك الزميل من السُّنة، وأني لأكاد أراهُ (ذلك الزميل) يعض أصابع الندم والحسرة والحسد من عظمة ممات السيد نصر الله، كما كان يفعل من عظمته في حياته».
لم تكن مشكلة السيد الشهيد مع خصومه في الداخل وأعدائه في الخارج مجرد مشكلة سياسية، وإن بدت في ظاهرها كذلك.. الخلاف أساساً أخلاقي وقيمي، والاختلاف أصلاً بنيوي وهرمي. «خصومة هؤلاء مع السيد الشهيد كانت أعمق من خصومتهم مع أيّ طرفٍ آخر، فهو لا يطرح برنامجاً سياسياً يعارضونه، بل يمثِّل نظاماً للحياة والعيش يتناقض بالكامل معهم ومع أسباب وجودهم».. شكَّل الرجل - ذاتاً وموضوعاً شخصاً ومقاومة خطاباً ومشروعاً - تهديداً مباشراً وخطيراً لمصالح بل ولوجود المنظومة الإمبراطورية الإمبريالية القذرة الممتدة مجاريرها من الغرب الاستعماري إلى براميل نجد واليمامة، مروراً بـ»البلاعة» الاستيطانية المسماة «إسرائيل».
ينقل الصحفي غالب سرحان عن السيّد الشهيد قوله حرفياً: «سأعمل على مسألتين: الثقافة والأخلاق». استوضحته: داخل الحزب أم خارجه؟ رفع أصبعيه وقال: «الاثنان». سألته: هذه قناعة أم حاجة أم ضرورة؟ قال: «الثلاثة». وضحك ضحكته المتهادية على موجاتها الصوتية ونشيج البحة الحنونة ليضيف: «هي كل هذا». سألتُه: سماحتك ترى ذلك أولوية؟ فوراً أجاب بكلمة واحدة: «تماماً». قلت: لماذا؟ قال: «لأنهما ركيزة الحزب وأساس بيئة المقاومة، ولا يجب أن تتوقفا أو يطغى عليهما الهمّ التنظيمي الذي نغرق فيه وفي تفاصيله يومياً وحتى الجهادي، لأنه بدون الثقافة والأخلاق يفقد الحزب ميزته وهويته وخصوصيته فيضيع».
اختار السيد طريقه دون أن يضلّ، فلم تُغْرِه سلطة، ولم تُخِفْه أساطيل إمبراطورية الشر، طريق بدأ مع المستضعفين ووصل به قائداً لهم في وجه مستكبري العالم، وشهيداً للإنسانية في مواجهة الإمبريالية. صنع السيد مصيره، وبذلك فرض على عدوه أنه حتى حين يتمكن من قتله أن يفعل ذلك، وفق شروطه كما يقول حسام مطر.
لم يكن أمام العدو إلا أن يقتل السيد في ذروة الصراع وأكثر لحظاته نقاء ووضوحاً، الحق كله في مقابل الباطل كله، قتلاً استلزم إسقاط 85 طناً من المتفجرات على رجل واحد!.
بذلك تحقّق للسيد أن يكون «حسين عصره»، فاتحاً وشهيداً وروحاً ثورية ستؤرق قاتليه لسنوات طويلة مقبلة، وإرثاً حياً يتجدّد مع كل دورة للظلم والطغيان، وتكبيرة حرية مع كل صلاة. عمّة سوداء لرجل مهاب ستخرج فوق الشمس غداً، خروج يريده القتلة اكتمالاً لنهاية يظنونها، ونريده عهداً وميثاقاً لقيام متجدّد.
حسناً.. ليس هذا رثاءً يا سيد البلاغة، فأنا أعجز أن أبكيك ببعض ما يليق بك.. أو كما فعل الشاعر والصحفي الكبير صلاح الدكاك:
ولو في الخلق جمعاً قد أُصِبنا
سوى «نصرٍ» لما عَظُمَ المصابُ
فما جدوى الخليقة بعد «نصرٍ»
وجدوى الخلق إن حضروا وغابوا.
إنما هي دمعات عشق مجاهدٍ يسير بينك وبين عيتا الشعب بندقيةً وعهداً ودعوات شوق أرملة شهيدٍ تحنِّي ضفائرها صُفرة العديسة وحُمرة بنت جبيل وصلوات صدق مرابطٍ بين الجليل والخليل، وكلمات في سِبحة ثائرٍ يركع في غزة ويسجد في صنعاء، وبعضٌ من خالدات المجد في عشم بلوغ سفينة النجاة معك.. وداعاً قمر بني هاشم.
علي عطروس
المصدر «لا» 21 السياسي