عن أخلاق اشتباك في أقدم معركة «حديثة» مشتركة.. مع النبي في ساحة الحرب
- محمد الفرح الأحد , 1 نـوفـمـبـر , 2020 الساعة 6:07:02 PM
- 0 تعليقات
محمد محسن الفرح / لا ميديا -
انطلاقا من ضرورات المرحلة ومقتضيات الرؤية القرآنية فطبيعة المعركة اليوم تتطلب الاستفادة من الأساليب والفنون العسكرية التي أدخلها الرسول إلى الميادين والعلوم العسكرية. ومقتضيات الرؤية القرآنية تحث على دراسة شخصية الرسول العسكرية، ومعرفة تكتيكه وتخطيطه ومشاعره وتقييمه وبالتالي اتباعه والتأسي به.
وبناء على ذلك سأحاول الإجابة على استفسارات ملحة تتعلق بعبقرية الرسول العسكرية وأخلاقه في الحرب والفنون والأساليب التي أدخلها إلى المجال العسكري، ومستوى تأثيرها في أدبيات وتكتيك الجيوش العسكرية الحديثة.
وما يبعث على تلك التساؤلات أننا اليوم نقف في مواجهة قوى عالمية عديمة الأخلاق ومفلسة من القيم وتزداد بطشا وشراسة وإجراما يوما بعد آخر، وتتسابق بلا كلل في إنتاج الأسلحة الفتاكة والمحرمة، وبيعها، وتشجيع المستهلكين على استخدامها، واختلاق المشاكل والحروب لاستثمارها. وقد أصبحت الحالة اليمنية، بكل مأساويتها، مسرحا لعرض آخر ما توصلت إليه هذه القوى من أسلحة محرمة، مما يفتح الباب واسعا للتساؤل عن الحروب وأخلاقياتها ودمويتها وأهدافها وما هي القيم والمبادئ التي انطلق منها الرسول صلوات الله عليه في معاركه ضد أعدائه؟
الشيء الآخر أننا عند قراءة التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول صلوات الله عليه وعلى آله، ومقارنتها بواقع الأمة اليوم وما تعيشه من التراجع والتخلف أمام القوى العالمية، يرتسم في ذهنية القارئ استفهامات متعلقة بماضيه وتاريخه العسكري، وما هي الإسهامات العلمية والحضارية المرتبطة بالفنون والعلوم العسكرية؟ فيا ترى هل عرفت جيوش الرسول بعض هذه المفاهيم الحديثة من تطور العلوم العسكرية؟ وما هي الوسائل والتكتيكات التي وضعوها لأنفسهم لتحقيق أهداف الحروب؟ وكيف كانت عقيدة الجيوش في ذلك التاريخ المتقدم من عمر حضارتنا؟ وكيف تعاملوا مع ما يعرف في عصرنا بالمدنيين؟
وبالنظر إلى قيادة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والفكر العسكري الحديث، نجد أن كثيرا من تلك الأفكار هي استنساخ لما حدث في زمان النبي صلوات الله عليه وعلى آله ومحاكاة لتلك التجارب التي أدخلها الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وسلم إلى الميادين العسكرية، حتى اندهش أعداؤه من مستوى النجاحات التي حققها على الصعيد العسكري والأخلاقي والإنساني، والقرآن والتاريخ وواقعنا المعاصر يشهدون بذلك.
يقول مونتغمري وات، أحد قادة الحرب العالمية المشهورين: "كلما فكرنا في تاريخ محمد وتاريخ أوائل الإسلام، تملكنا الذهول أمام عظمة مثل هذا العمل. ولا شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصا للنجاح لم تتحها لسوى القليل من الرجال، غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تماما. فلو لم يكن نبيا ورجل دولة وإدارة، ولو لم يضع ثقته بالله ويقتنع بشكل ثابت أن الله أرسله، لما كتب فصلا مهما في تاريخ الإنسانية" (مونتغمري: محمد في مكة، 517).
فمنذ هجرة الرسول وتأسيس الدولة الإسلامية عمل الرسول على بناء المقاتلين معنويا وجسديا وبناء القدرات والمهارات القتالية، بحيث تصب في قناة واحدة: (رجل قوي، يجيد فن القتال، ذو روح معنوية عالية).
لذا وانطلاقا من قوله تعالى "وَأَعِدٌّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ"، [الأنفال: 60]. فإن الرسول - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم - كان يوصي رجاله بالاهتمام بالقوة الجسمانية وممارسة الرياضة البدنية، ويحثهم على إتقان استخدام السلاح بمداومة التدريب عليه وبالذات التدريب الجيد للرماية، فكان يقول للمؤمنين: «ألا إن القوة الرمـي، ألا إن القـوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» وقوله: «علِّموا أولادكـم السباحة والرماية وركوب الخيل». كما أنه كان يتمتع بالفروسية ويمتلك الخيل ويقيم المسابقات بين المسلمين في حضرته على مختلف فنون القتال والرمي، وكان يمتطي الخيل بلا سرج وهو من دلائل فروسيته.
وكان يحضَّ على اقتناء الخيل كسلاح يتميز بخفة الحركة والمناورة والهجوم في العمق، وقد تطور هذا السلاح إلى أن أصبح حديثا يطلق عليه سلاح الدروع والمجنزرات.
وتطورت الفنون القتالية والفكر العسكري على يد النبي - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم - من الإعداد للمعركة، إلى الاهتمام بالرصد والاستطلاع، وتنظيم التعاون، والتموضع والانتشار والاستراتيجيات المتنوعة للحرب كالحرب النفسية وحرب الشوارع (خيبر وفتح مكة)، والحرب الوقائية (السرايا عموما) لدرء خطر قبل وقوعه، حرب العوائق (حفر الخندق)، الحصار (غزوة الطائف).... إلخ. ما يدلل بوضوح على أن رسول الله القائد العسكري هو من ابتكر أساليب القتال وقوانينه وفنونه قبل خمسة عشر قرنا.
وفي الجانب المعنوي نجد أن الرسول قدم الجهاد في سبيل الله، بأنه من أعظم الفرائض والقرب إلى الله وبه تتحقق الحرية والعدالة وتصان الأعراض وتحفظ الحقوق ويزول الظلم والظالمون، فضلا عن الترغيب بالشهادة وخلق حالة من الاستعداد للتضحية، وقد تطورت قوة الجيش العددية، فكانت في أول غزوة له وهي غزوة بدر (300 مقاتل)، وفي تبوك وصلت إلى (30 ألف) بقوة فرسان وعتاد كبير.
وبالتأمل في فنون القتال لدى الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقارنة بما عليه الجيوش اليوم نجد التالي:
1 ـ تشكيل المسير:
ترصد السير أن أول تشكيل مسير للمعركة كان في غزوة بدر حيث خرج المسلمون من المدينة في تشكيل يعبر عن رقي في تطور فنون القتال لا يختلف كثيرا عن التكتيكات الحديثة، فقد قسم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قواته إلى حرس مقدمة، وقوات رئيسية، إحداهما بقيادة الإمام علي بن أبي طالب والأخرى بقيادة سعد بن معاذ، وكلتا الكتيبتين تُعدّان القوة الرئيسية، ثم نجد على الجوانب ما يسمى بحرس الجوانب وحرس خلفية الجيش.
ونلاحظ أن التحرك كان بفواصل تكتيكية في مأمن من المفاجأة والوقوع في الكمائن، وقد تم دفع دوريات استطلاع أمام القوات وعلى جوانبها، ومهمة تلك القوات رصد أخبار العدو وإعطاء الإنذار المبكر في الوقت المناسب حتى يتسنى للقوات فتح التشكيل للاستعداد للاشتباك.
2 ـ إدارة المعركة واختيار النقاط الحاكمة:
وذلك من خلال الاختيار الصحيح للنقاط الحاكمة والمناطق الإدارية، بحيث تكون في منأى عن العدو، ويظهر ذلك من خلال اختيار الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لموضع مهم جدا في بدر بعد أن جعل مصدر المياه خلف خطوط المسلمين، وبذلك تم تأمين النقطة الإدارية، حتى يستخدم الماء في الشرب والطهي والتطهر وتضميد الجراح، وما زالت تلك المناطق الإدارية حتى يومنا هذا تقع خلف الخطوط. فضلا عن اختيار النقاط الحاكمة ومناطق السيطرة والاستخدام الجيد للأرض والاستفادة مما قد توفره بعض التضاريس من مميزات تكتيكية، ففي غزوة «أحد» اختار جبل عينين مكانا للرماة، حيث إنه نقطة مسيطرة على ميدان المعركة، وذلك لتـأمين الجوانب ومنع فرسان العدو من الالتفاف لضرب خلفية المسلمين وتطويقهم.
3 ـ هندسة الميدان:
كانت غزوة الخندق (الأحزاب) من أنجح المعارك الدفاعية، إذ تمكنت قوة صغيرة من الدفاع عن المدينة ضد قوات متفوقة عددا وعدّة. وقد استخدم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الخندق ليكون مانعا هندسيا منيعا يخدم الخطة الدفاعية، فقام بحفر خندق طوله 8 كيلومترات وعرضه 6 أمتار وعمقه 5 أمتار.
ومثّل حفر الخنادق تطورا كبيراً في تكتيكات المعركة الدفاعية، حيث لم يكن معروفا في شبه الجزيرة العربية، وقد كان هذا الخندق أول تجهيز هندسي لموانع عسكرية في ذلك العصر، ثم أصبح أحد أعظم التجهيزات الدفاعية في العصر الحديث، وخاصة أن ذلك الخندق تم اختيار موقعه في عنق المواجهة على طـريق الاقتراب إلى المدينة. وقد كان لرسـول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضل في اختيار المكان والأبعاد الهندسـية التـي أمر بها بحـيث لا يستطيع الأفراد ولا الفرسان اختراق ذلك الخندق.
4 - عنصر المفاجأة:
وذلك بمفاجأة العدو في الزمان والمكان غير المعتادين، وبأسلحة وقوة غير متوقعة، وتتمثل أهمية هذا العنصر في العمل على شلِّ حركة وتفكير العدو وإرباكه وبث الذعر بين قواته.
وقد اشتهر الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بذلك، فدائما ما كان يفاجئ أعداءه بأساليب وفنون غير متوقعة، ساعد على ذلك السرّية ومنع التسريبات إلى العدو، وبالتالي يباغتهم وهم في حالة من عدم الجهوزية والاستعداد، ففي معركة بدر فاجأهم بالقتال بالصف، وفي أُحد باحتلال النقطة الحاكمة. أما في غزوة الأحزاب فكانت المفاجأة للعدو تكتيكاً حديثاً وهو حفر الخندق. وفي فتح مكة فاجأ المشركين بعشرة آلاف مقـاتل، بعد أن سار بهم ليلا.
5 ـ تنظيم التعاون والتموضع:
كان الرسول صلوات الله عليه وعلى آله يقوم بتحديد المهام للقوات وأسلوب التعاون مع الجوار. ولو أعدنا النظر إلى تعليمات القتال لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في غزوة أحد يتضح لنا مدى إلمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخواص الأسلحة المشتركة في المعركة والمتيسرة له في ذلك الوقت، ومن ذلك وضع الرماة في جبل أُحد وتحديد تمـركـزهـم وأسـلوب الرشق، وهـو ما يماثل في يومنا هذا إدارة النيران، وتلك التعليمات على إيجازها وبلاغتها تمثل نظام التعاون بين القوات المسلَّحة المشتركة في المعركة.
6 ـ الهجوم:
"الهجوم خير وسيلة للدفاع". هذه الجملة مستخدمة حاليا في كتب ومراجع التكتيك الحديث، إلا أنها كانت أحد مبادئ الرسول القائد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي استخدمها في أغلب غزواته، رغم تفوق العدو، فكان ينطلق من مبدأ حسم المعركة، ولا تحسم المعركة إلا بالهجوم، وأصبحت الآن أحد المبادئ الحديثة في قانون القتال.
7 ـ الحرب النفسية:
وهي إحدى أهم الحروب المستخدمة اليوم ومثلت أبرز الأساليب التي كان يستخدمها النبي في صراعه مع أعداء الإسلام، ومنها استخدام الصف للمسلمين بحيث يظهر العدد كثيرا ويهزم العدو قبل بدء المعركة. وكذلك استخدم هذا الأسلوب أثناء فتح مكة عندما أمر بإشعال النار حتى يلقي الفزع والخوف والرعب في قلوب قريش، ما ينبئ عن عبقرية سبقت عمالقة التكتيك الحديث.
8 ـ أساليب القتال:
لقد طور الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أسلوب القتال من الكر والفر إلى القتال بالصفوف، واستخدم الأنساق القتالية، وكذلك اتخاذ احتياطي خفيف الحركة في يد القائد، وذلك لتطوير الهجوم، وضرب الجوانب، ما يعرف بـ"الالتفاف والتطويق" ومحاصرة العدو.
كما أن الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - استخدم أساليب القتال التعطيلي، والسرعة وخفة الحركة ورتل المسير والتحرك الليلي، كما حدث في فتح مكة وتبوك، حيث كان يسير في الليل ويكمن بالنهار لتحقيق عامل المفاجأة.
وقد استطاع إلى جانب شجاعته أن يزن حجم المعركة ويختبر مناخها ودراسة الأرض من جانب القوات الصديقة ومن جانب العدو. وكان يختار القادة بما يناسب المعركة، وينظم الصفوف ويستعرضها، ويقوم بالمرور على تلك القوات والتفتيش عليها، إلى جانب وضع خطة الهجوم وخطة الدفاع حسب نوع المعركة، ويقوم بتنظيم المواقع. وأهم تلك الخطط خطة الإمداد والتموين، علاوة على إرساله عناصر الاستطلاع، وتأكيد المهام لكل وحدة، ثم يتولى مكانه في القيادة ويأمر بالمسير والقتال. وكان يعرف الوضعيات ويقيمها ويعرف المكان المناسب لمنازلة العدو، فبعد أن فتح الرسول الكريم مكة وبعد خمسة عشر يوما، بلغه أن قبيلتي هوازن وثقيف قد جمعت في حُنين جمعا كثيرا وتريد قتال المسلمين، فأعطى درسا في الرؤية والحكمة، عندما أخذ قرارا بالخروج إلى مكان متوسط بين هوازن ومكة لمقاتلة العدو بدلا من الانتظار بمكة، والتي كانت تشهد حالة من الارتباك وعدم الاستقرار الكامل، فكان الحل الأفضل هو الخروج، وهو ما يعكس الحكمة والرؤية العسكرية للقائد محمد (ص) وإلمامه بالأوضاع الداخلية، ومعرفة الأماكن وتقدير الوضعيات.
وبالتالي فإن الرسول القائد محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هو المثل الأعلى في القيادة والشجاعة والعبقرية العسكرية، وهذا ما أكده القرآن الكريم وشهد به التاريخ واعترف بذلك الكثير من أعداء الرسول وأعداء الإسلام، ممن أقروا بأنه أعظم قائد عرفه التاريخ.
مبادئ وأخلاقيات الحروب:
قبل 1400عام، وبأمر من الله تعالى، أرسى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أسس ومبادئ القـتال وجسد أخلاقها وقيمها قبل أن تضعها الأكاديميات العسكرية الحديثة وقبل أي قائد عسكري ذكره التاريخ، وماذا تتوقع من إنسان قال عنه الله "وإنك لعلى خلق عظيم"، ويقول عنه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"؟!
ومن تلك المبادئ والقيم وتطبيقاتها في معارك وغزوات الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لم يقاتل أشرا ولا بطرا ولا عابثا ولم يخرج ظالما ولا متجبرا في غزوة من غزواته، بل كان الهدف من جميع حروبه هو إنهاء الظلم والطغيان والاستعباد، والقضاء على الشرك، وإعادة الناس إلى عبادة الله، فلم يستكبر بقوته أو يغتر بانتصاراته، ولم يكن في حروبه باحثا عن جاه أو مبتغيا مالاً أو ساعيا إلى منصب، وهذا ما شهد به حتى أعداؤه. يقول الكاتب واشنطن أيرفنج، أحد المستشرقين المهتمين بسيرة النبي: "إن الانتصارات العسكرية التي حققها محمد لم تصبه بالغرور، لأن الدوافع التي كانت تدفعه لم تكن دوافع شخصية وإنما كانت إلهية، لم يكن محمدا ساعيا إلى الجاه أو السلطان؛ فقبيلته التي كان ينتسب إليها قبيلة معروفة في مكة وبعهدتها إدارة البيت الحرام، وبالفراسة التي كان يتمتع بها والمكانة التي يحتلها في النفوس كان سيصل لما يريد، ولكنه سار لتحقيق أهدافه واضطر إلى الهجرة في سبيل الله من بلده مكة إلى المدينة، وفي نهاية المطاف استطاع العودة إلى وطنه، وكسر شوكة المشركين، وأقبلت الدنيا عليه بمغرياتها، ورغم ذلك لم يغير سلوكه وأخلاقه، ولعل تواضعه ازداد، وعزوفه عن أهواء الدنيا، وهذا مما يدفع عنه أي مجال للتهمة" (واشنطن إيفرنج، حياة محمد، بتصرف).
أما النزاهة فقد ظل رسول الله طيلة حياته قائدا لجيش جرار وصل إلى حدود الشام وأسقط أعظم الإمبراطوريات ودانت له قبائل العرب. ورغم تمكنه إلا أنه لم يغل شيئاً من الغنائم، ولو كان شيئاً بسيطا، بشهادة من الله تعالى: "وما كان لنبي أن يغل، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة".
كما عرف بالصفح الجميل، إذ لم يشهد التاريخ رجلا امتلك زمام العفو كما فعل النبي مع أعدائه. وكان ممن عفا عنهم عتاة الشرك في قريش، ومنهم أبو سفيان و"كعب بن زهير" أشد من هجا الرسول، وذلك عندما منَّ الله على المسلمين بفتح مكة ودخلوها بقيادة الرسول دون إراقة دماء أو أعمال نهب وسلب أو التعرض بالإيذاء، حيث أمَّنهم الرسول على حياتهم وممتلكاتهم. ويروى أنه بعد النصر كان يعفو عن زعماء القبائل، ويعيدهم إلى مناصبهم مرة أخرى إذا صدقوه، فقد أعاد الأقرع بن حابس إلى زعامة بني تميم، وأعاد عيينة بن حصن إلى زعامة بني فزارة، والذي كان من المحاصرين للمدينة المنورة يوم الأحزاب، كما أنه كان يعذر أولئك الذين أكرهوا على القتال في جيوش المشركين.
ويشهد هذا للرسول بحسن الخلق وفن التعامل في وقت الحروب، سواء عند الانتصار أم حتى الهزيمة، فلا تطغيه حلاوة النصر ولا تنسيه مرارة الهزيمة، فكان يقول: "اغْزُوا جمِيعا فِي سبِيلِ اللهِ، فقاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، لا تغُلُّوا، ولا تغْدرُوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدا، فهذا عهْدُ اللهِ وسِيرةُ نبِيِّهِ فِيكُمْ". كما تظهر رحمة نبي الإسلام أثناء الحروب في التعامل مع الأطفال والنساء والمرضى والشيوخ، وتجنب قتل الولدان والنساء، فكان شديد الحرص على حقن دمائهم.
وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق كل المواثيق الدولية والقوانين الدولية التي تتشدق بها الأمم المتحدة، وتدعي السعي من خلالها لوضع القواعد والمبادئ والنظم التي يمكن أن تخفف عن البشرية ويلات الحرب، رغم أنها لم تفلح في ذلك والواقع اليوم يشهد ببطلانها، وما يحدث في اليمن من قتل وعدوان وحصار يشهد على زيفها، إلا أن تاريخنا وحضارتنا وتعليمات القرآن وسيرة الرسول هو نقيض كل ذلك.
ومن هنا فإننا معنيون كمسلمين بأن نعود إلى دراسة حياة الرسول وفق الرؤية القرآنية، وأن نتعرف على أساليبه العسكرية وفنون الحرب التي ابتكرها. ولعل من أكبر الإشكاليات التي تعترض الأمة اليوم هي أنها لم تعرف شخصية الرسول من خلال القرآن الكريم ولم تعطه المكانة اللائقة التي يستحقها ولم تستلهم منه الدروس والعبر والتعليمات العظيمة والحكيمة.
وفي الأخير نجد أن من المهم أن نعرف عظمة الرسول كما قدمه القرآن، كضرورة يفرضها الواقع اليوم وتحتمها طبيعة المعركة مع أعداء الأمة من اليهود والنصارى، وحتى نستلهم من مواقفه وأساليبه والطريقة التي سلكها الدروس ونأخذ الهدى والحلول لمشاكلنا العويصة.
يقول الشهيد القائد رضوان الله عليه: "... وما يحصل الآن هو أن العرب يتجهون إلى أمريكا لتفكهم من إسرائيل! ولو أن أمريكا هي المحتلة وإسرائيل هناك للجؤوا إلى إسرائيل تفكهم من أمريكا! يلجؤون إلى أمريكا وروسيا راعيتي السلام أن تفكهم من إسرائيل. وكذلك الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) جردوه من شخصيته، لم يعطوه المكانة اللائقة به في أيام حياته، لم يفهموه كقائد عسكري محنك وقدير وحكيم، فحولوه إلى مجموعة كتب ملئت بالكذب عليه، وهذا مما يجعل الأمة في وضعية مختلفة عما يريد الله لها في هذا القرآن الكريم أن تكون عليه في مواجهة اليهود، لأنهم لم يرتبطوا بالرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) شخصيا، ولم يدرسوا حياته، ولم يتفهموا حياته كإنسانٍ حكيم وقدير وإنسانٍ كامل ورجل قرآني، يتحرك بحركة القرآن، ويعرف ماذا يريد القرآن أن يصل بالأمة إليه في مناهجه التربوية وهو يربي نفوسهم كيف تكون كبيرة، كيف تكون معتزة بما بين يديها من هذا الدين العظيم فلا تحتاج إلى أي قوى أخرى. لو يرجع المسلمون في مواجهتهم للغرب ولليهود إلى غزوة تبوك وحدها في السيرة، وإلى "سورة التوبة" التي توجهت نحو هذه الغزوة، لكانت وحدها كافية لأن يأخذ المسلمون منها دروسا كافية في معرفة مواجهة اليهود, ودول الغرب بكلها" (محاضرة يوم القدس العالمي رقم (1)، ألقاها السيد حسين بدر الدين الحوثي في 28 رمضان 1422هـ).
المصدر محمد الفرح
زيارة جميع مقالات: محمد الفرح