ترصيد موازين القوى في حروب المنطقة
- ناصر قنديل الثلاثاء , 14 يـنـاير , 2025 الساعة 12:08:26 AM
- 0 تعليقات
ناصر قنديل / لا ميديا -
شكّل استشهاد السيد حسن نصر الله صدمة تفوق طاقة جمهور المقاومة ومؤيّديها في العالمين العربي والإسلامي على الاحتواء والخروج من دائرة الشعور بالخسارة الكبرى. وجاء التغيير الذي لحق بسورية وسقوط النظام الذي كان يمثل حلقة هامة من حلقات محور المقاومة، ويحظى بدعم إيران والمقاومة وروسيا، ليحدث صدمة إضافية في الجمهور ذاته..
وحجم الصدمتين كبير وهائل يفوق طاقة أي بيئة شعبية على الاحتواء، بحيث صار أي حديث عن تحقيق انتصار للمقاومة معاكساً لما يتقبّله سلفاً مزاج هذه البيئة، وسوف تحتاج هذه البيئة إلى شهور وربما سنوات حتى تتأقلم مع تقبّل خسارة واحدة بهذا الحجم فكيف الحال مع الخسارتين معاً بفارق زمني ضئيل، والحدثان في سياق الحرب التي يفترض ترصيد الأرباح والخسائر فيها. فما هي الأرباح التي يمكن أن تعادل هاتين الخسارتين، فكيف تكون تعويضاً عن الخسارتين وتزيد؟
إذا قاربنا مشهدية الحرب بعقل بارد، وجب علينا النظر لكل من الخسارتين في إطارها وسياقها، وفهم حقيقة أن حدوثها لا يلغي حقيقة استمرار الصراع، ولا يلغي الحاجة إلى فهم قواعد النصر والهزيمة في هذا الصراع، رغم الأثمان التي يفرضها والتضحيات التي تترتب عليه. ومشهد هذه الحرب الكبرى يبدأ من أنها أضخم حروب المنطقة على الإطلاق، فلم يسبق أن خاضت عدة جبهات عربية حرباً بهذه الضراوة وواجهت حلفاً تنخرط فيه مباشرة كل القدرة العسكرية الأمريكية ويقاتل فيه كيان الاحتلال بروح البقاء متجاوزاً كل تقاليد حروبه من حيث المدة ومن حيث حجم الخسائر.
وفي هذه الحرب المليئة بالمفاجآت، فوجئ الأمريكي و«الإسرائيلي» بالكثير، مثل مفاجأة «طوفان الأقصى» نفسه، ومفاجأة اليمن بكل ما تحمل وما تمثل، ومثل مفاجأة صمود المقاومة في لبنان بعد قتل قادتها وتفجير بنيتها وتدمير بيئتها. وبالمقابل فوجئت المقاومة بما دُبّر لها من اغتيالات وأعمال أمنية قاتلة، وفوجئت بالسقوط السريع للنظام في سورية، وفوجئت بحجم الصمت العربي الرسمي والشعبي أمام محرقة مفتوحة تبث على الهواء بحق أطفال فلسطين ونسائها ومستشفيات غزة ومدارسها، بما فجّر مواقف في الشارع الغربي والحكومات الغربية دون أن يترك أثراً يذكر في الشارع العربي والحكومات العربية، وفوجئت المقاومة بأن الكيان يقاتل لأكثر من سنة ويتحمّل قتلى وجرحى بالآلاف، وقصفاً يطال عمقه وتهجيراً يمتدّ على عمق عشرات الكيلومترات.
فوجئ الأمريكي و«الإسرائيلي» وفوجئت المقاومة، وخسر الأمريكي و«الإسرائيلي» وخسرت المقاومة، وربح الأمريكي و«الإسرائيلي» وربحت المقاومة. والسؤال هو بعيداً عن مشاعر الفقدان والخسران المعنوي والعاطفي والنفسي: كيف يمكن ترصيد موازين القوى مع اقتراب هذه الحرب من نهايتها؟
لم تنجح المقاومة في إثبات ما كانت تعتقده من ردع ناري لكيان الاحتلال بقوتها الصاروخيّة، ولم تنجح بتحقيق وعودها على هذا الصعيد، لكنها نجحت بما وصل من صواريخها وطائراتها المسيّرة أن تخلق معادلات ضاغطة على الكيان جيشاً وقيادة ومستوطنين، ما كان وقف إطلاق النار على جبهة لبنان ممكناً بدونها، ونجحت بإنشاء ردع من نوع جديد، فبقيت العاصمة بيروت ومنشآت الكهرباء والمطار والميناء وخزانات النفط بمنأى عن الاستهداف لأن الكيان تحقق من حتميّة استهداف عاصمته «تل أبيب» والمنشآت الموازية إن فعل. وبينما نجح الكيان بتدمير معظم المنشآت المدنية في الضاحية والبقاع والجنوب إضافة الى غزة، إلا أنه فشل في تحقيق الهدف من ذلك، فلا تركت الناس مقاومتها ولا تراجعت قيادة المقاومة عن خياراتها، في لبنان كما في غزة، رغم عظيم التضحيات.
يشكل جوهر الاستنتاج الاستراتيجي الذي خاض الكيان الحرب على أساسه، اعتبار وجود مقاومات مسلّحة على حدود فلسطين المحتلة تهديداً وجودياً للكيان لا يمكن احتمال بقائه. وبالرغم من كل محاولات تجميل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان والمنتظر في غزة، لتظهير الاتفاقين انتصاراً للكيان، يعرف قادة الكيان وجيشه أن الاتفاقين يقومان على بقاء المقاومة في لبنان وغزة تهديداً وجودياً، وأنه لن تكتب للكيان في أي حرب مقبلة فرصة تحقيق امتلاك أوراق قوة كالتي تيسّرت له في هذه الحرب، وأنه عاجز عن حماية نفسه بنفسه، وأنه لولا المشاركة الأمريكية الكاملة في الحرب لكانت حالته مختلفة جذرياً، وأن ليس هناك من ضمانة لعدم وقوع جولة مقبلة لا تكون أمريكا قادرة خلالها على المشاركة الكاملة كما فعلت هذه المرة، ولذلك فإن خسارة الكيان ما فوق الاستراتيجية بل الوجودية غير القابلة للتأقلم أصلاً فكيف بالنسبة للإصلاح والترميم، بينما خسائر المقاومة التي لم تسقط بسببها هي خسائر قابلة للتأقلم، طالما بقيت وبقي سلاحها وبقي ناسها معها.
ترتب على هذه الحرب إنهاء أي فرصة لخوض جيش الاحتلال حرباً برية، وقد ظهرت مشاهد ويوميات الحرب في غزة وجنوب لبنان، مساحات تهيمن على مسارحها قوى المقاومة، حيث لم يترتب على نجاح الكيان باحتلال غزة أي نجاح في امتلاك بقعة واحدة تم فيها إنهاء نشاط المقاومة، بينما كان الفشل ذريعاً في جبهة لبنان بتحقيق أي تقدم بري جدي وحقيقي، فيما حشد الكيان كل جيشه وخسرت ألوية النخبة في جيشه الكثير من قوامها البشري، وفشل ترميمها من الاحتياط باستعادة فاعليتها القتالية حتى تحدّث رئيس حكومة الكيان عن الحاجة لوقف إطلاق النار لإعادة ترميم الجيش، لكن الفشل البري ليس عائداً لأسباب قابلة للترميم، وجوهرها الروح المعنوية التي ظهرت في كل تفاصيل حربي لبنان وغزة.
قدّم اليمن نموذجاً فذاً لحضور عسكري نوعي غير قابل للكسر وغير قابل للاحتواء، فأخرج بصواريخه الفرط صوتية منظومات الدفاع الجوي لدى الكيان من الخدمة، ولاحقاً أخرج معها منظومة «ثاد» الأمريكية المتطورة، ونجح خلال أكثر من سنة بتحدّي قوة الردع الأمريكية في البحر الأحمر الذي يمثل بالنسبة للبنتاغون قلب استراتيجية للسيطرة على الممرات المائية، وفشلت الأساطيل وحاملات الطائرات في استرداد هذه السيطرة، وفرض اليمن إرادته على السماح والمنع للسفن التجارية بنسبة مائة بالمائة، وفشلت واشنطن في اختراق واحد لهذه الهيمنة، وتفوّق اليمن بالشجاعة والتقنية وبالحضور الشعبي المميز الذي منح القوة لقرارات قيادته.
إذا وضعنا هذه المعايير أمامنا ونظرنا الى الحرب سنقبل فكرة أن ما جرى كان ارتطاماً تاريخياً لقوتين كبيرتين، تحطّم بسببها الكثير، لكن تاريخاً جديداً يطل بعد هذا الاصطدام، ظهرت معه المقاومة صانعة للتاريخ، حيث فلسطين قضية لا طريق لتجاوزها ولا لتصفيتها، وحيث المقاومات قوى جبارة وأسطورية غير قابلة للإلغاء والاستئصال.
كاتب لبناني
المصدر ناصر قنديل
زيارة جميع مقالات: ناصر قنديل