حسني محلي

حسني محلي / لا ميديا -
بعد أشهر من التلويح بتغيير العقيدة النووية الروسية وقّع الرئيس بوتين، الثلاثاء الماضي، مرسوماً رئاسياً يحدّد شروط استخدام الأسلحة النووية الروسية مستقبلاً.
واعتبر المرسوم "الردع المضمون لأيّ عدوان محتمل على الاتحاد الروسي أو حلفائه من أهم أولويات الدولة، وذلك لاحتواء العدوان من خلال القوة العسكرية الروسية، بما في ذلك الأسلحة النووية". وبرغم أن العقيدة النووية الجديدة تؤكد أن "سياسة الدولة في مجال الردع النووي هي سياسة دفاعية بطبيعتها"، إلا أن الجديد هو أن روسيا يمكن أن تردّ باستخدام الأسلحة النووية إذا تعرّضت هي أو حلفاؤها لعدوان من جانب أي دولة أو تحالف عسكري، حتى لو كان مصدر هذا العدوان دولة غير نووية ولكنها مدعومة من دولة أو تحالف يمتلك أسلحة نووية أو تكون عضواً في تحالف معادٍ لروسيا.
وبحسب العقيدة الجديدة، قد تفكّر روسيا في توجيه ضربة نووية إذا تعرّضت هي أو حليفتها بيلاروسيا لعدوان ما باستخدام أسلحة تقليدية، كالطائرات والصواريخ الموجّهة بعيدة المدى والطائرات المسيّرة التي تهدّد سيادتهما أو سلامة حليفاتها.
واكتسب إعلان العقيدة النووية الجديدة أهمية إضافية بتوقيته الزمني الذي سبق قرار الرئيس بايدن السماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى (صواريخ "أتاكمز") ضد الأهداف الروسية في العمق الروسي؛ وهو ما أعلنت عنه لندن أيضاً (صواريخ "ستورم شادو") في حكومة حزب العمال "اليساري"، مع المعلومات التي تتوقّع لباريس أيضاً أن تتخذ قراراً مماثلاً، رغم تهرّب برلين من اتخاذ موقف مماثل بعد المكالمة الهاتفية بين بوتين والمستشار الألماني شولتز الذي سبق له أن اتخذ منذ اليوم الأول للحرب الأوكرانية أشدّ المواقف ضدّ روسيا.
في الوقت نفسه لم يتذكّر الكثيرون أن تركيا قد تكون ضمن مجموعة الدول التي استهدفتها العقيدة النووية الروسية الجديدة لأسباب عديدة.
فالتاريخ يذكّرنا بحادث إسقاط طائرة التجسس الأمريكية (U-2 Dragon Lady) التي أقلعت من قاعدة إنجرليك الأمريكية جنوب تركيا في مهمة استطلاعية تشمل المنطقة الممتدة من باكستان وحتى النرويج، بحسب اعترافات الطيار فرانسيس جيري باورز الذي ألقي القبض عليه بعد أن اسقطت الدفاعات الجوية الروسية طائرته.
كما اعترف بأنه كان يقوم بمثل هذه المهمة منذ العام 1956، حيث توجد في قاعدة إنجيرليك مجموعة خاصة مكلّفة بهذه المهمة السرية.
وعلًق الرئيس الروسي خروتشوف على الحادث في 3 أيار/ مايو 1960، أيّ بعد الحادث بيومين، قائلاً إن العملية كانت تهدف لنسف مساعي القمة المرتقبة بينه وبين الرئيس الأمريكي آيزنهاور، وتوعّد الدول التي تسمح للطائرات الأمريكية بالانطلاق من أراضيها (من دون أن يسمّي تركيا بالاسم)، وقال: "لن نتردّد بتدمير القواعد الأمريكية والأطلسية التي ستستخدم ضدنا"، وكان عددها آنذاك في تركيا أكثر من مائة قاعدة ومحطة تجسس ومراكز تنصّت بحرية وجوية وبرية منتشرة في عموم تركيا لمراقبة مجمل التحرّكات العسكرية السوفييتية وخاصة في البحر الأسود حيث كانت جميع الدول التي تطلّ عليه أعضاء في المعسكر الشيوعي.
حالها حال دول أوروبا الشرقية المجاورة لتركيا ومنها بلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا، جاءت أزمة الصواريخ الروسية في كوبا لتؤكد أهمية مكانة تركيا في مجمل الحسابات والمخططات الأمريكية المعادية للاتحاد السوفييتي، ولاحقاً روسيا بعد سقوط وتمزّق الاتحاد المذكور.
ففي 15 نيسان/ أبريل 1961، وبعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 1961، أعطى جون كنيدي الضوء الأخضر لتنفيذ غزو خليج الخنازير للإطاحة بحكم كاسترو، ولكن قوبل الهجوم برد عنيف من كوبا التي حقّقت انتصارها الأول على أمريكا في 19 نيسان/ أبريل 1961.
ومع تزايد المخاوف الكوبية من عمليات عسكرية مستقبلية، وافق خروتشوف على تزويد كوبا بصواريخ أرض-أرض وأرض-جو، وبالتالي إرسال صواريخ نووية إلى كوبا، رداً على نشر الولايات المتحدة صواريخ "جوبيتر" في كل من إيطاليا وتركيا في العام نفسه.
واتسمت عملية نقل الصواريخ بالسرية التامة، حيث استخدم السوفييت نحو 60 سفينة تجارية ترافقها ثلاث غوّاصات لإيصال هذه المعدات إلى كوبا. ونجح السوفييت حتى نهاية تموز/ يوليو في إيصال وتسليم 24 منصة إطلاق صواريخ، وأكثر من 40 صاروخاً باليستياً، وعدد مماثل من الرؤوس النووية، إضافة إلى ما يزيد عن ألف عسكري وخبير لتدريب الجيش الكوبي على استعمال هذه الأسلحة.
وفي 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1962 اكتشفت طائرة تجسس أمريكية اماكن منصات إطلاق الصواريخ، فجاء الرد سريعاً على لسان الرئيس كنيدي الذي فرض في 22 تشرين الأول/ أكتوبر حصاراً بحرياً على كوبا، وأمر بتفتيش السفن المتجهة إليها وتسيير طلعات جوية استطلاعية فوق مواقع المنصات باستمرار بعد المعلومات الاستخباراتية التي توقّعت للمنصات السوفييتية أن تكون جاهزة في غضون أسبوع واحد فقط.
ورغم ردّ الرئيس خروتشوف العنيف على قرار الرئيس كنيدي مهدّداً إياه بالردّ على أيّ استفزاز أمريكي، إلا أن الرسالة التي بعثها إلى كنيدي في 26 تشرين الأول/ أكتوبر ساهمت في إنهاء التوتر وتحقيق الانفراج، أولاً العسكري ثم السياسي، بين واشنطن وموسكو، وقرّرتا إنشاء أول خط هاتفي أحمر مباشر بين الرئيسين.
ووفقاً للاتفاق تعهّدت واشنطن بعدم غزو كوبا، وبرفع الحصار عنها وسحب صواريخ "ثور" و"جوبيتر"، ويصل مداها إلى 3000 كم وتحمل رؤوساً نووية، من قواعدها في تركيا وإيطاليا وبريطانيا، مقابل إزالة الصواريخ السوفييتية ومنصاتها من كوبا.
هذا الحوار السوفييتي - الأمريكي لم يمنع واشنطن من الاستمرار في الاستفادة من قاعدة إنجرليك والقواعد الأمريكية الأطلسية التي تراجع عددها الآن إلى نحو 20 قاعدة ومحطة تنصّت ومراقبة تستهدف سورية والعراق وإيران وروسيا بالدرجة الأولى.
وسبق لأمريكا أن استخدمت هذه القواعد في العديد من المناسبات، وأهمها حرب السويس 1956، والتدخّل العسكري في لبنان 1958، ومحاولة التدخّل في سورية والعراق ضد الانقلاب الذي أطاح بالنظام الملكي هناك 1958، والأهم من كل ذلك خلال سنوات ما يسمّى بـ"الربيع العربي".
في الوقت ذاته تستمر واشنطن بالاستفادة من قاعدتي إنجرليك وكوراجيك ضمن مخططاتها ومشاريعها في سورية والعراق وإيران، وكل ذلك بالتنسيق مع قواعدها الرئيسية في قطر، وهي أيضاً على اتصال دائم مع القواعد الأمريكية في دول المنطقة، بما في ذلك قواعدها في شمال شرق سورية.
وربما لهذا السبب سبق للرئيس بوتين أن قال إن موسكو لن تتردّد في إرسال كلّ أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية للدول الحليفة لها في حال وقوع أي مواجهة مباشرة بينها وبين المعسكر الأطلسي.
وجاء خطاب الرئيس بوتين، الخميس الماضي، ليعكس مدى جدية الموقف الروسي، حيث قال بوتين إن "الصراع الإقليمي الذي أثاره الغرب في أوكرانيا قد اكتسب طابعاً عالمياً". وأضاف: "في حالة تصعيد الأعمال العدوانية، سنردّ بشكل حاسم وبطريقة مماثلة، وإنني أوصي النخب الحاكمة في تلك الدول التي لديها خطط لاستخدام قواتها العسكرية ضد روسيا أن تفكّر بجدية في هذا الموضوع".
وأكد بوتين أن "موسكو تعتبر نفسها صاحبة الحق في استخدام أنواع الأسلحة كافة ضد المنشآت العسكرية في الدول التي تستخدم أسلحتها ضد روسيا أو تسمح لأمريكا والحلف الأطلسي باستخدام أراضيها".
وكشف الرئيس بوتين النقاب عن نظام صاروخي جديد متوسط المدى أجرى الجيش الروسي اختبارات ناجحة عليه يحمل اسم "أوريشنيك"، تم تصنيعه رداً على الأعمال العدوانية لدول الحلف الأطلسي تجاه روسيا، وقال إن "أنظمة الدفاع الأمريكية في أوروبا لن تكون قادرة على اعتراض صواريخ أوريشنيك السريعة جداً".
وتضع العقيدة النووية الروسية وحديث الرئيس بوتين تركيا ضمن أهداف الصواريخ الروسية في حال انفجار الوضع العسكري مع استمرار الاستفزازات الأمريكية - البريطانية ضد روسيا من الأراضي الأوكرانية، ولاحقاً بولندا، لتكون تركيا المحطة الثالثة في حسابات الرئيس بايدن قبل أن يغادر البيت الأبيض.
في الوقت نفسه يراهن الكثيرون على الموقف المحتمل للرئيس أردوغان، وله علاقات شخصية ورسمية مع الرئيس بوتين، وهو ما كان كافياً لعدم التزام أنقرة بالعقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا منذ الحرب الأوكرانية، ورغم الموقف التركي المؤيد لكييف.
يبقى الرهان الأخير على جنون الإدارة الأمريكية التي قد تضع تركيا، وريثة الدولة العثمانية، وجهاً لوجه مع العدو التاريخي، روسيا، التي لن تتردّد في استهداف القواعد الأمريكية في تركيا، وأهمها قاعدة إنجرليك وفيها ما يزيد عن خمسين قنبلة أو رأساً نووياً لن تتردّد واشنطن في استخدامها ضدّ روسيا طالما أن تركيا والأتراك سيكونون ضحية مثل هذه المغامرة الجهنمية التي كانت اليابان ضحية لها عام 1945.
ولم يخطر على بال أحد أن الخطر الأكبر من كل ذلك هو ما يملكه الكيان الصهيوني من هذه الأسلحة النووية وحصل عليها خلال الأعوام 1955- 1957 بمساعدة فرنسية، ولاحقاً من دول غربية أخرى ما زالت تقف إلى جانب هذا الكيان الإجرامي في فلسطين ولبنان وقبل ذلك ضد سورية وإيران.
في الوقت نفسه يستمر تعاطف أنظمة التواطؤ والعمالة العربية والإقليمية مع هذا الكيان المستفيد الوحيد من جميع القواعد الأمريكية والأطلسية في المنطقة. "إنجرليك" هي الوحيدة التي فيها صواريخ نووية، وتبعد عن قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين نحو 200 كم فقط، في حين لا يعرف أحد هل وكيف ومتى وضد من ستستخدم تركيا صواريخ (إس- 400) التي اشترتها قبل ثلاث سنوات من روسيا!

أترك تعليقاً

التعليقات