مشيخات الخليج..«المُضحك المُبكي» على مسرح السياسة
- حسني محلي الأحد , 8 أغـسـطـس , 2021 الساعة 8:15:12 PM
- 0 تعليقات
حسني محلي / لا ميديا -
بعد اللقاء الأول بين الرئيس الأمريكي روزفلت والملك السعودي عبد العزيز في 14 شباط/ فبراير 1945، ولم تكن دول المنطقة الأخرى مستقلة آنذاك، كانت منطقة الخليج خندقَ الدفاع الثانيَ -بعد الأردن- عن الكيان الصهيوني، والذي كانت واشنطن تخطّط له مع لندن منذ فترة طويلة، وهو ما تَحقَّق لها في "وعد بلفور"، وقبل ذلك بعام في "سايكس بيكو"، ثم قرار التقسيم في الأمم المتحدة.
أدّت السعودية بعد عام 1945، ومعها إيران في عهد الشاه (حتى عام 1979)، وتركيا في عهد عدنان مندريس (1950 ـ 1960)، دوراً مهماً في حماية المصالح الأمريكية، وفي مقدّمتها ضمان الأمن الاستراتيجي لـ"إسرائيل".
مع استقلال دول الخليج أواسط الستينيات وبداية السبعينيات، تعدَّدت أدوات واشنطن في المنطقة، الأمر الذي ساعدها على تطبيق كل مخطَّطاتها ومشاريعها، واستنفرت من أجلها كل إمكانات الدول المذكورة، مادياً ومعنوياً، أي بما يشمل الدين والمذهب.
أرادت واشنطن من أنظمة هذه الدول أن تقدّم "الغالي والرخيص" إلى كل ما هو إسلاميّ، ما دام هذا الإسلام يخدمها بصورة أو بأخرى. وتحمّلت السعودية علناً مسؤوليةَ دعم كل الإسلاميين في المنطقة وتمويلهم، ما داموا ضدَّ كلّ من يعادي المصالح الأمريكية، أيّاً تكن التسمية: شيوعية، أو يسارية، أو قومية علمانية، بل حتى ليبرالية تحرُّرية، في حين كانت الأنظمة الأخرى تفعل ما تفعله داخلياً وخارجياً، في الخفاء والعلن، وكل بحسب الدور المطلوب منها إقليمياً ودولياً.
جاء انقلاب حمد آل ثاني على والده في حزيران/ يونيو 1995، ليضع الأنظمة المذكورة أمام تنافسات خفية وعلنية، بحيث تسابقت فيما بينها لإثبات ولائها لـ"صاحب الإرادة العليا" في واشنطن، وهي التي قرّرت وتقرّر مصيرها جميعاً. فكان "الربيعُ العربيُّ" الامتحانَ الأهمَّ بالنسبة إلى هذه الأنظمة التي استعجلت في تبنّي المقولات الأمريكية والغربية فيما يتعلَّق بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في دول هذا "الربيع"، ومن دون أن تتذكَّر أن القيّمين عليها "صُمّ بُكم، وهم لا يفقهون" هذه المقولات. التقت هذه الأنظمة معاً في تونس ومصر واليمن، ثم تهافتت على سورية وليبيا، ناسيةً أن ابن علي ومبارك وعلي عبد الله صالح كانوا جميعاً حلفاء لها، عندما كانوا معاً ضمن حدود الحلبة الأمريكية.
لم يبقَ هذا السباق في حدوده "المعقولة"، بل تنافست هذه الأنظمة واستخباراتها، فيما بينها، من أجل تشكيل أكبر عدد ممكن من المجموعات المسلّحة ودعمها وتمويلها، كي تستفيد منها في حساباتها المستقبلية، كما كان الوضع عليه في سورية. فبعد سنوات من الدعم والتبني لـ"طالبان" و"القاعدة"، خسر بنو سعود هذه الورقة، التي أصبحت الآن في أيدي آل ثاني، وينافسون إخوتهم في الدين والمذهب، لكن بدعم دولة مهمة كتركيا: العدو التاريخي والتقليدي لبني سعود. وكان ذلك كافياً بالنسبة إلى واشنطن كي تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، من خلال التحالف القطري ـ التركي، وخصوصاً بعد انقلاب السيسي في مصر، وانقسام المنطقة إلى قطبين:
الأوّل: تقوده السعودية والإمارات (يتفقان ويختلفان وفق المزاج)، والثاني: تتبنّاه قطر، وتقوده تركيا، كبلد غير عربي يُراد له أن ينافس إيران. في الوقت نفسه تتأرجح الدول الأخرى بين القطبين، وعدد قليل منها لا يريد أن يورّط نفسه في مشاكل لا طاقة له عليها، على الرَّغم من الأحداث التي يعيشها، كما هي الحال في انقلاب السودان، ومحاولة الإطاحة بالملك الأردني عبد الله، وأحداث تونس أخيراً. في المقابل، استمرّت التجاذبات والتنافسات والصراعات بين أطراف القطبين، كما هي الحال في ليبيا واليمن ولبنان وتونس، على أن تبقى سورية جمرةَ النار التي لا يريد أحد أن يقترب منها ما دامت تركيا موجودة فيها.
لم تمنع كل هذه التناقضات الأطراف المذكورة من التمثيل في مسرحيات متعددة ما دام كاتب السيناريوهات راضياً على الجميع. ويفسّر ذلك المصالحةَ القطرية ـ السعودية بعد قطيعة دامت أربع سنوات (بعد حزيران/ يونيو 2017)، ووساطةَ الدوحة من جديد بين أنقرة والقاهرة، وحنينَ الأردن والعراق (زيارة الملك عبد الله ورئيس الوزراء العراقي الكاظمي للبيت الأبيض) ومصر إلى زمن الأحلاف في الخمسينيات، وإصرارَ الإمارات على مزيد من الاستسلام أمام "إسرائيل"، الرابحِ الوحيد ربما من كل هذه التناقضات.
وآخر مثال على ذلك، قَبولُ "إسرائيل" عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي، في حين تشهد علاقات مصر والسودان -المطبّع بـ"تل أبيب"- أخطر أزماتها مع إثيوبيا، الحليف القوي لـ"إسرائيل".
لم يمنع ذلك الرئيس التركي أردوغان من الاتصال برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ليعبّر عن دعمه له من دون تحديد هدف هذا الدعم، وفق بيان الرئاسة التركية. واتصل أيضاً، بعد يوم من ذلك، برئيس الحكومة اللبنانية المكلَّف نجيب ميقاتي، ليعبّر له أيضاً عن دعمه وتأييده مساعيَه لتشكيل الحكومة، التي تريد لها واشنطن وحليفاتها أن تكون ضد حزب الله وسورية وإيران. وهو ما تفعله أنقرة منذ بدايات "الربيع العربي"، على الرَّغم من حوارها غير المجدي مع طهران في أستانا، وهو ما قد ينعكس سلباً على علاقاتها المستقبلية بها، بسبب الدور المحتمل لتركيا في أفغانستان.
تريد واشنطن لهذا الدور أن يُحرج روسيا والصين معاً، ما دامت أفغانستان تحدّ الصين ودول آسيا الوسطى الإسلامية، الحديقة الخلفية لروسيا. وفي المقابل، يستمرّ الخلاف الجِدي والمؤجَّل بين أنقرة وموسكو في سورية، التي يراقب أردوغان تحركات الصين المحتملة فيها، بعد أن وقّعت بكين في 27 آذار/ مارس الماضي اتفاقيةَ التعاون الاستراتيجي مع إيران لمدة عشرين عاماً، مع أهمية التذكير بوجود الآلاف من مقاتلي الإيغور والشيشان في إدلب. وقد تضع مثل هذه المعطيات الرئيس أردوغان أمام حسابات جديدة، ليس فقط في سورية والجغرافيا العربية، بل في مواجهة الصين وروسيا، العدوّين اللدودين لواشنطن، وهو ما يحتاج إلى مزيد من التنسيق والتعاون، والتحالف لاحقاً مع الرئيس بايدن (وهو في حاجة إلى أردوغان). والمؤشّرات إلى ذلك متعدّدة، بعد لقائهما في 14 حزيران/ يونيو الماضي.
إن صحّت التوقعات، فستعود تركيا خندقاً أمريكياً أمامياً في مواجهة روسيا والصين، وامتداداتهما في كل المناطق ذات الاهتمام الدولي، وفي مقدّمتها سورية. ومن ينتصر فيها سيتفوق على الآخرين.
يدفع مثل هذا الاحتمال، وسيدفع الجميع إلى مزيد من "الحساب والكتاب" في الساحة السورية. ويبدو واضحاً أن معاناتها لن تنتهي إلاّ في حالات شبه مستحيلة:
1 ـ الاتفاق الروسي- الأمريكي، وهو مستحيل.
2 ـ الاتفاق العربي، وهو أكثر استحالة بسبب المسرحيات المضحكة المبكية لمشيخات الخليج.
3 ـ المعجزة، أو المعجزات، التي تَحقَّق البعض منها حتى الآن. والأمل في ما تبقّى منها قليل، لكنه ليس مستحيلاً، إذا وعت دمشق ذلك، وعملت على تحقيقه بإرادة حقيقية وأساليب جديدة. وهو ما يجب أن تقرّره سورية اليوم، وليس غداً؛ أي قبل فوات الأوان. فالواقع أخطر كثيراً ممّا يتصوّره ويُصوّره البعض. والسبب دائماً هو نفسه: الخيانة والتآمر للمشيخات، ومَن في فلكها يدور.
باحث علاقات دولية ومتخصص بالشأن التركي
المصدر حسني محلي
زيارة جميع مقالات: حسني محلي