كارلوس شهاب

كارلوس شهاب / لا ميديا -

سعت الصهيونية إلى خلق «شعب يهودي» ليس طموحه الحفاظ على التعاليم الدين المتوارثة من جيل لآخر، بل الاندماج في الأسرة العالمية كشعبٍ مثل بقية الشعوب. ولم يكن ليتحقق ذلك لزعماء الصهيونية «الأشكينازيين» (الأوروبيين) إلا بتحقيق فصل يهود الشرق «السافاراديم» عن جذورهم الدينية وتحويلهم من يهود إلى «إسرائيليين».
مصطلح الـ«سفاراديم»، كما مصطلح «المزراحيين»، الذي يعني "الشرقيين" تاريخياً، أي قبل بدء الهجرات الصهيونية، كان يشير إلى «الطوائف الشرقية» التي تكونت بشكل ديني وثقافي من اندماج يهود الأقطار الإسلامية مع اليهود المُهجّرين من شبه الجزيرة الإبيرية بعد الحملات الكاثوليكية ضد الأندلس التي أفضت إلى طرد المغايرين أو الأغيار (اليهود والمسلمين) عام 1492. وقد تمايزوا كـ«طوائف شرقية» في القرن السابع عشر ميلادي واتصلوا بالتيارات الأوروبية، ومنها المدرسة الليتوانية الحريدية.
أما كمصطلح سياسي فقد نشأ بعد بدء الهجرات الصهيونية، وما تلاها من نشوء الكيان الصهيوني بشكله الذي يشدد على توزيع العمل غير مستاوٍ بين الأعراق. وهو كمصطلح سياسي لا يشمل يهود أقاليم بولندا ورومانيا وروسيا، الـ(Ostjuden)، باعتبارهم يقعون شرق أوروبا، حيث إن دلالة هذا المصطلح تشير إلى مجموعة سكانية ذات مستوى ثقافي متدنٍّ ورأسمال بشري ضئيل، وتشمل يهود العراق واليهود الكرد على امتداد مناطقهم، ويهود المغرب ومصر وعدن وكامل اليمن بهذا الحصر.
بهذا الشكل، يُبنى التصنيف المهين الذي يجمع تحته كتلة بشرية من خارج العالم الغربي، ومن دون النظر إلى أصول كل منها على حدة، أو إلى موقعها الثقافي والاجتماعي، فتظهر الثنائية الضدية (غرب/ شرق) في مجتمع الثكنة الاستعماري عند أول لقاء حديث بين المستوطنين اليهود الأوروبيين (الذين وصولوا إلى الأرض المحتلة في الهجرتين الأولى والثانية 1882، 1904) والمستوطنين اليهود الشرقيين المتأخرين من خلال «المَشْرقَة» (Orientalisation)، وهي عملية إضفاء السمات الشرقية النمطية المطبوعة في الذهنية الأوروبية (منها الأشكينازية) على سكان الشرق (منهم السفاراديم)، فتتلخص هذه الصفات بأنهم غير متعلمين، قذرون، ذوو عائلات كثيرة الأولاد، ثرثارون، مشاغبون، ومهووسون جنسياً.
جُلبت هذه الجماعة من الأقطار الإسلامية بعد نضوب الخزان البشري اليهودي الأوروبي (الأشكيناز)، فبعد قيام المخفر الامبريالي الصهيوني عام 1948، خُطط لشغل المناطق التي اقتُلع منها العرب بالكامل (مثل اليافا واللد والرملة)، وكذلك خطوط التماس من قبل هذه «الجماعة الوضيعة».
عليه بدأت هجرات اليهود من اليمن، ففي العام 1949 افتتح الصهاينة عملية «مرباد هكسميم»، وتعني "بساط الريح"، وبموجبها تم نقل 38 ألف يهودي يمني بمعونة السلطات البريطانية والإمامية. وفي الفترة ذاتها، تم نقل كل يهود ليبيا تقريباً. تبعها في العام 1950 عملية «عزرا ونحمياه» في العراق بتعاون بين السلطات الملكية العراقية والصهاينة، حيث تم نقل 120 ألف يهودي عراقي، وتم تسهيل هذه المهمة بواسطة قانون «التخلي عن الجنسية» الملكي الصادر في العام ذاته، والذي بموجبه تقرّر احتفاظ حكومة العراق بالممتلكات اليهودية بحجة عدم تهريب رأس المال الوطني مقابل تعويض اليهود بممتلكات الفلسطينيين. كما شملت هذه العملية أيضاً نقل 21 ألفاً من يهود إيران.
في الوقت ذاته هاجر يهود شمال أفريقيا (الجزائر، المغرب، تونس) بخطوتين: الأولى: نحو فرنسا، والثانية: نحو الكيان الصهيوني، نظراً لربط المستعمر هذه الفئات به وتمييزها بشكل تناحري عن الأغلبية، خصوصا مع جلاء مستوطنيه بفعل الاستقلال وهجرة بعض اليهود معهم، كما الحال في الجزائر حيث هاجر يهودها مع المستوطنين الـ(Peids Noirs).
بلغ عدد اليهود الشرقيين الذين وصلوا إلى الكيان الصهيوني في تلك الفترة 678 ألف شخص، وكان وقع وصول هذه الجماعة على المستوطنين السابقين مهولاً، بحيث افتتحت صحيفة «هآرتس» الصهيونية عددها، بتاريخ 11 نيسان 1952، بعبارة: «إن هذه الهجرة بهذه التركيبة ستحول دون تطوّر إسرائيل». وتبع ذلك ما كتبه الصحفي الصهيوني آرييه غلبلوم بأن «هذه هجرة عرق لم نعرف له مثيلاً في البلاد. أمامنا شعب تبلغ بدائيته الذروة، درجة ثقافتهم أقرب إلى الجهل التام، والأكثر خطورة هو افتقارهم إلى قدرة استيعاب كل شيء روحاني".
الإقصاء
تبعاً لكل هذه الصفات التي اتصف بها يهود الأقطار الإسلامية بنظر اليهود البيض، كان لابد على الأُول من اجتياز مرحلة التمدّن، ثم التأهيل الاجتماعي والتربية والتعليم من جديد.
لذلك تم توجيههم إلى «معسكرات المهاجرين»، وهي مناطق مغلقة إغلاقاً تاماً، ليتم بعد ذلك انتقاء عددٍ منهم، ممن يظهرون تجاوباً مع «القيم الحديثة»، فيُنقلون إلى «المعبروت»، وهي تجمعات سكنية من الخشب أو الصفيح أو الخيام، بلغ تعداد اليهود الشرقيين من سكنتها 102 ألف شخص حتى العام 1953. من بعدها، ينقلون إلى الـ«موشافي عوليم»، وهي مستوطنات زراعية خاصة بالمهاجرين الشرقيين ترفد المدن والمستوطنات بالغذاء. أما الذين نقلوا لاحقا من المستوطنات الزراعية، فقد تم إسكانهم في الضواحي النائية أو في مناطق التماس التي لم يرغب اليهود الأوروبيون بشغلها. ووُصفت هذه السياسية من قادة الأحزاب الصهيونية بأنها «بيروقراطية بروسية إزاء أشخاص متخلّفين».
إثر ذلك، وجد يهود العراق والمغرب ومصر، من سكان الحواضر في البلدان الأصلية، أنهم أُقصوا في «أرض الميعاد» إلى الهوامش. وتعزز هذا الشعور كذلك عند مقارنة أنفسهم بأقرانهم، الذي اتجهوا صوب البلدان الأوروبية حيث استطاعوا الانخراط في مستوى طبقي رمزي داخل الثقافة الوسطى وشغلوا مواقع في أوساط النخبة الاقتصادية والفكرية، بينما هم مازالوا يكدحون في المستوطنات الزراعية التطويرية؛ وحتى من اجتازوا المستوطنات التطويرية منهم، وأصبحوا مؤهلين لشغل وظائف الياقات البيضاء، لم يجدوا عملاً، وحتى إن وجدوا، فقد دخلوا في مراتب متدنّية ولم يستطيعوا الحراك صعوداً، إذ إنه حتى المساعدات الغربية (من ألمانيا مثلاً) كانت تصب في جيوب الأوروبيين لا في جيوب الجميع... وهكذا نشأت حركات احتجاج شرقية مثل «الفهود السود» وبعدها في الثمانينيات حركة «هاوهيلم».
ختاما، ما أودّ أن أوجزه هو أن الأيديولوجيا الاستعمارية لا تستطيع تجاوز نفسها، فما طبّقته من تمركز عرقي وإيجاد دور فعّال للأبيض وعابر للتاريخ، ها هي قد عادت لتطبّقه على جنودها الذين هم في خدمة مشاريعها فعلياً، فتناقض الشرق والغرب الذي صاغته أوروبا وبعدها أمريكا لم يكن ليخفى في هذا المخفر الاستعماري المسمى "أرض الميعاد"، أو "جنّة الحقوق" في عُرف الليبراليين العرب، بل ظهر على أشدّه.
كما يأتي هذا الكلام في سياق إبطال سردية أنصار الملكيات العربية حول أن الحكومات الوطنية وشعاراتها الراديكالية هي السبب وراء هجرة اليهود العرب ورفد الكيان الصهيوني بخزان بشري، بحيث تظهر الإحصائيات حول هجرات اليهود العرب أن أكبرها كان في عهد الملكيات وبتعاون منها أيضاً، وذلك من مصادرٍ صهيونية مثل "الهجرة إلى إسرائيل"، 1948-1953، سيكرون، صادر عن معهد بالك للبحث الاقتصادي في "إسرائيل" ومكتب الإحصاء المركزي، 1957.
ويصب هذا البحث أيضا في تحطيم الأسطورة القائلة بتفوق اليهودي العربي وذكائه المتّقد مقارنة بالمسلمين والمسيحيين، إذ عُومل هذا العنصر المتفوق في «أرض ميعاده» معاملة غير آدمية من قبل الأشكيناز الأوروبيين غير الآبهين بـ«رأسماله اليهودي» ولا بـ«ذكائه المتقد» ولا بـ«مهاراته الحسابية» ولا بـ«هندامه الأنيق»، لأنه وفق الرؤية الاستعمارية ليس إلا ماتح مياه وقاطع أشجار وقاطف فواكه لسيده الأبيض الغربي.

أترك تعليقاً

التعليقات