نهب الذهب ودوره في تطور أوروبا
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب -

خلال العقد الأول من القرن السادس عشر، نُهبت كميات ضخمة من الذهب والفضة من "العالم الجديد" نحو إسبانيا، حيث قفز المخزون الأوروبي من الذهب والفضة إلى خمسة أضعاف ما كان عليه عندما أبحر كولومبس عام 1492. كانت الكميات ضخمة بحيث وصل عدد السفن في القوافل التجارية الإسبانية المسلحة إلى 60 سفينة، وإلى 100 في بعض الأحيان، تحمل كل منها حمولة 200 طن للسفن المتوسطة وما يقارب 400 طن للسفن الأكبر حجماً. وفي العام 1564 وحده، أفرغت 154 سفينة حمولتها من الكنوز في ميناء إشبيلية.
لقد أظهرت الحكومة الإسبانية فعالية وكفاءة استثنائيتين في تنفيذ تلك المهمة المعقدة، أي نقل الكنوز في بحر محفوف بالمخاطر، من ?يرا كروز (المكسيك) وتروجيللو (هندوراس) ونومبردو ديوز (بنما) وكارتاجينا (كولومبيا)، لتتجمع السفن في المياه الكوبية، ثم تنطلق بشكل أساطيل نحو مكانها الأصلي ميناء إشبيلية. لم تكن العواصف وحدها التحدي الذي يواجه أسطول الكنز الإسباني المثقل بالكنوز، بل إن القرصنة ترقّت في ذلك العصر إلى درجة تم اعتبارها أحد الفروع المفضلة في السياسة من قبل بريطانيا وفرنسا وهولندا.
على سبيل المثال، أصبح السير فرانسيس ديريك البريطاني بمنصف "خبير نهب الذهب" من كاثوليك شبه الجزيرة الأيبرية، وقدم خدماته ومنهوباته للتاج البريطاني لمدة 25 عاماً، وتراوحت كنوز السير ديريك التي قدمها للتاج البريطاني ما بين 200 ألف جنيه إسترليني في بداية نشاطه، وصولاً إلى 10 أطنان من الذهب والفضة والمجوهرات، عبر الحملة التي قادها على أحد الأساطيل الإسبانية بواسطة سفينته "غولدن هيند".
تبعاً لذلك تقفز معلومة تفيد بأن إسبانيا كانت أغنى الأمم الأوروبية في ذلك العصر نظراً للسيولة التي وفرها نهب "العالم الجديد"، لكن الحقيقة لم تكن كذلك، فقد كان تأثير هذه الإضافات الكبيرة إلى الثروة المالية ملموساً في عواصم أوروبا الغربية ما عدا إسبانيا، وقد دخل الذهب من طرف ليخرج من طرف آخر مثل جرعة من الأملاح المُسَهِّلة، أو كما يصف إدواردو غاليانو الموضوع بأن إسبانيا كانت كالبقرة، فمها في أمريكا الجنوبية يقتات على العشب وأضرعها تدر في العواصم الأوروبية.
ولكن قامت إسبانيا عام 1492 بارتكاب خطأ اقتصادي فادح، بالرغم من أنه خلق شعوراً بالبهجة والكبرياء، فقد قامت في السنة التي بدأت فيها فورة الذهب، بطرد طبقتها التجارية وتحطيمها وتشتيت شملها، وذلك من خلال طرد اليهود والمسلمين، في حين كان معظم الإسبان المسيحيين إما فلاحين أو جنوداً أميين لا يفقهون أدنى درجة في الحساب والمعاملات التجارية، أما النبلاء الإسبان، فكانت معيشتهم تعتمد على البطالة أو حياة المحاربين الرومانسيين.
أما اليهود والمسلمون، فكانوا على عكس ذلك، أصحاب ثقافة رفيعة، ورواداً في مجال الرياضيات والحساب، ومهرة في مجال الإدارة الحكومية، ورجال أعمال ممتازين. كما كان بعض المسلمين على وجه الخصوص، أصحاب إرث عريق في مجال التجارة والاستيراد والتصدير. وبطردهم من إسبانيا، خسرت الأخيرة معظم طبقة التجار المحليين، وهي الطبقة التي كان بقاؤها ليكون جوهرياً في زمن التطور الاقتصادي الديناميكي في كل أرجاء أوروبا.
وكانت الخسارة الأخرى لطرد الطبقة التجارية الإسبانية تتمثل في الموقع الجغرافي لإسبانيا، فهي لا تقع على طريق يقطعه التجار والمسافرون أثناء انتقالهم من مكان لآخر، إذ لم يكن هنالك حاجة للمرور بإسبانيا، إلا في حال قدوم المرء من أفريقيا، وحتى في هذه الحالة، لا تعتبر إسبانيا الوحيد المتاحة. ونتيجة لذلك، غلب على إسبانيا الطابع الريفي الانطوائي أكثر من باقي الدول الواقعة إلى الشمال والشرق منها، ولم يكن هناك ما يربطها بعلاقات بأوروبا سوى موانئ إشبيلية وبرشلونة بيلباو.
أما الصبغة الشمولية، فكانت نتيجة وجود اليهود والمسلمين الذين كانت لديهم صلات عديدة بالبلاد الأخرى لقرون خلت، وانقطعت حال طردهم، مما وضع إسبانيا في موضع الاعتماد على الأجانب من مرابين ألمان وتجارٍ ومصرفيين إيطاليين ومصنعين هولنديين مرتبطين بدولهم، أسهموا جميعاً بخروج المعدنين بكميات كبيرة من إسبانيا.
ويُضاف إلى كل ذلك سلسلة الحروب التي خاضها شارل الخامس من أجل الحصول على منصب الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهذا المنصب لم يكن ينتقل بالوراثة بل عبر الانتخاب، بحيث تقوم به مجموعة أمراء جرمان يعينهم البابا، ويسمون "المقترعين". فخاض شارل الخامس الصراع ضد فرانسيس الأول ملك فرنسا، وهو صراع اتسم بالحروب والرشاوى للأمراء الجرمان، مما جعل شارل الخامس مديناً بمبلغ 37 مليون دوقية للمصارف الأوروبية، أي بمقدار يفوق بمليوني دوقية حصة التاج الإسباني من كنوز "العالم الجديد".
لقد فتحت فورة الذهب الذي نُهب من العالم الجديد إلى إسبانيا، ثم تسرب منها إلى أوروبا، المجال أمام تجديدات اقتصادية ذات أهمية، ظهرت في القرن السادس عشر، وهي الأسواق التجارية الموسمية، وهي مؤسسة تجارية تقليدية أحدثت تحولاً هاماً في دور الذهب، فبدلاً من مبادلة البضائع، تطورت عمليات الشراء من جانب واحد، أي أنها اكتسبت الطابع المالي، وهكذا أخذت بنية هذه الأسواق تزداد دقة وتعقيداً، فظهر بقوة نظام "الكمبيالات" الحوالات في هذه المرحلة. ويذكر أحد المصادر 48 نوعاً مختلفاً من النقد الذهبي كانت قيد التداول في أوروبا، 11 نوعاً منها من إيطاليا و9 من الأراضي المنبسطة (هولندا وبلجيكا) و6 من إنجلترا.
ونتيجة لتلك العمليات المركزية في الأسواق، تم جذب عدد متزايد من الصفقات المالية، وتنوعت تبعاً لذلك الشركات التجارية، واكتسبت طابعاً عائلياً، ونمت وكبرت، مثل آل فاغر وآل ميدتشي، وبعد ذلك آل روتشيلد والأخوين بيرنغ.
بناءً عليه، إنه لمن الإجحاف أن يُردّ كل هذا النشاط الاقتصادي في أوروبا لتناقضات داخلية ونمو ذاتي، وأن يترافق ذلك مع إغفال إسهام عمليات نهب الذهب الأمريكي والدور الإسباني من مسرح التحليل، لاسيما وأن هذين العاملين قد شكّلا الممر نحو إحداث الثورة النقدية في أوروبا، وكل ما تبع تلك الثورة من نشاط تجاري واقتصادي.

أترك تعليقاً

التعليقات