السيّد حسن.. هل وقَعَ في «خطأ» جدّه؟!
- تم النشر بواسطة «لا» 21 السياسي

«لا» 21 السياسي -
يُبيّن لنا تراثنا العربي والإسلامي كيف حاول أعداء الإمام عليّ بن أبي طالب تشويه صورته والمساس بسمعته، على مرّ السّنين والعصور. وما يُجمع عليه الأكثرون ربما من العارفين بهذا التّراث التاريخي والنقلي أن أقصى ما استطاع هؤلاء تصويره حول عليّ بن أبي طالب لا يتعدى الأمور السطحية. ومن مثل ذلك: شكله الجسدي أو إكثاره من الاختلاء بنفسه في المقابر، أو ما يحاولون تقديمه على أنه «طيبة قلب» زائدة في مواضع أخرى أيضاً... وصولاً، بالطبع، إلى الطرح الرئيسي الذي تكون، بسبب هذه الحملات، وبسبب دسِّها في تراثنا التاريخي على الأرجح، وهو الطرح الذي ناقشناه مطوّلاً، وبما استطعنا من موضوعية، خلال العام الماضي. إنه الطرح النموذجي التالي عموماً: في النهاية، أحبَبتَ عليّاً أم أبغضتَه، وأكثر المُسلمين يُحبونه طبعاً، ولكن الأكيد هو أنه كان رجلاً مُستقيماً ومَبدئياً كما نُعبّر بمصطلحاتنا الرائجة في هذا الزمان.
ولكن الأكيد أيضاً، بحسب هذه النظرة النّموذجية ذاتها والتي يتبناها كثير من المُفكرين والباحثين المعاصرين وحتى اليوم للأسف: الأكيد، أيضاً، أن أبا الحَسَن والحُسَين لم يَكنْ «مُحنّكاً» بما يكفي، لاسيما في السياسة، ما قاده إلى انتكاسات دنيوية معروفة، وصولاً إلى استشهاده، ووصولاً إلى التراجيديا التي عرفها أهلُ بيته وأصحابُه وأتباعُه وشيعتُه في العالمين. ودون لُزومٍ للعودة إلى تفاصيل هذا النقاش، فمن الواضح بالنسبة إليّ أن كثيراً من ناقدي سيرة الشهيد الإسلامي والأممي الكبير، سماحة السيد حسن نصر الله، قد بدؤوا بالذهاب في هذا الاتجاه (بلا حاجة للتشبيه أو للمساواة، لا سمح الله، بين الشخصيتين طبعاً). فمنهم من بدأ يقول إن السيد الشهيد العاملي كان مُجاهداً ومُقاوماً صلباً؛ ولكنّه لم يَكن «مُحنّكاً» بما يكفي، خصوصاً في السياسة الداخلية اللبنانية. ومنهم من ينتقد سيرة سماحته من زاوية بعض الرهانات الإقليمية وربما الدولية وما إلى ذلك. ومنهم من يقول سراً أو جهراً: إن هذا الرمز المقاوم العربي والإسلامي وضع نفسه في موقع هو «أكبر من حجمه» العسكري والأمني والسياسي حقيقةً، أو وضع نفسه بين دُهاة السياسة اللبنانية، بمختلف طوائفهم ومشاربهم، حتى وقع ضحية لمؤامراتهم عملياً... إلى آخر قائمة النقاط الشبيهة، واقعاً، إلى حد بعيد، بما يُنتقدُ به أبو الحَسن وزوجُ فاطمة بنت مُحمد (ص).
ولكن النقطة التي صارت تبرز أكثر فأكثر، خصوصاً منذ ما بعد استشهاد السيد حسن نتيجة عملية أمريكية - «إسرائيلية» - دولية استهدفته بأكثر من 80 طناً من المواد المتفجرة، النقطة التي صارت تبرز بشكل تصاعدي إذن، متعلقة باتخاذه قرار شن حرب الإسناد لغزّة ولشعبها ولمقاومتها، أي يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. عملياً، هذا هو القرار المُباشر، بحسب الكثيرين، الذي أودى بحياة السيد نصر الله في نهاية المطاف، أي أنه القرار الذي أودى بحياته المؤقتة على هذه الأرض طبعاً.
وبمعزل عن صحة هذا التقييم من عدمها، يعتقد البعض إذن أن «أبا هادي» وقع في «فخٍّ ما» غداة «الطوفان» المُبين. لقد وقع السيد الشهيد إذن في فخٍّ أكيد، بحسب هؤلاء. ولقد دفع ثمنه، في حين كان يُمكن أن يكون «أدهى» من ذلك فيتجنبه، ويتجنب كل عملية الإسناد هذه، والتي أوصلت من بين ما أوصلت إليه: استشهاده، واستشهاد عدد كبير من إخوانه القادة والمُجاهدين والمُقاومين... ناهيكم بتدمير أجزاء كبيرة من بلده، وتهجير وجرح وتجريح أوساط واسعة من شعبه ومن بيئته. أخبِرْني، بأمانة، يا قارئي العزيز؛ أليس هذا الرأي الظاهر والباطن لدى كثير من نُّخب وزعماء هذا البلد وهذه المنطقة من العالم؟ ألا يُصرحُ بهذا الرأيِ بعضُهم، أو هو لا يَبوحُ به إلّا في مجالس خاصة؟ إذن، يُمكن قول ما يلي في هذا السياق: إن مُلخَّصَ الفرضية النموذجية هذه يَكمُن في ادعاء أن سماحة السيد لم يتنبّهْ إلى «الفخّ» هذا أبداً، كجدّه الهاشمي -والمعنوي- الإمام عليّ بن أبي طالب، فذهب، بالتالي، ضحيةً لهذا «الفخّ».
وكما يُقال في نقد نموذج الامام عليّ عموماً، يُقال في نقد نموذج السيد نصر الله عموماً وعملياً (بحسب الرأي العام نفسه طبعاً): كان السيد مُستقيماً على ما ظهر لأغلب الناس، وكان زاهداً، وكان مُجاهداً، وكان مبدئيّاً. ولكن طريقة تعامله مع «حرب الطوفان» تُثبت أنه لم يكن، بما يكفي، من «أهل السياسة». وهؤلاء «الناقدون» يفهمون «أهل السياسة»، في الغالب على أنهم «أهل الحنكة والدهاء» طبعاً (وضمنياً: أهل الكذب والتذاكي والنفاق). فعشية تشييع هذا القائد اللبناني والعربي والإسلامي والثوري - الرمزي الكبير. هل يُمكن القبول بصحة نقد كهذا؟
في ما يخص قضية «نقد» سيرة عليّ بن أبي طالب، يُمكن القَول إن أبا الحَسَن، لو فَعَلَ ما يطلبُهُ منه «ناقدوه» في السياسة، أي لو أنه قبل بولاية من كان يعتبر أنهم مُنحرفون أو دخلاء على الإسلام، أو أنهم يستخدمون هذا الأخير بهدف إقامة مُلك وبهدف تجميع أموال، لو قبل هذا «الـ - عليّ» بمسايرة ما كان يعتبره طريقَ انحراف وطريقَ نفاق، ولو قبل بأن يكون ككثير من السياسيين في زمانه وفي زماننا (وفي لبنان)، لما كان هو «عليّ بن أبي طالب»، أي لما كان إمام المتقين ومِثَال المؤمنين ومَنَار قلبِ الزاهدين والعارفين. هل يقبل عليّ بن أبي طالب أن يقدمَ بعض التنازلات أو المساومات من أجل أهداف دُنيوية، ثم يقف بذلك أمام الله، وبَين يَدَي مُحمَّدٍ رَسولِ الله؟!
إذن، وباختصار، وكما رأينا سابقاً، فإن نقد البعض للسلوك السياسي لعليّ بن أبي طالب، مناقضٌ لجوهر التصور الذي بين أيدينا عن عليّ بن أبي طالب. ولذلك، اعتبرتُ وأعتبرُ أن هذا النوع من النقد ليس في محله أيضاً؛ فلا يُمكن الحُكم على سلوك أهل الباقية من خلال معاييرِ أهلِ الفانية! ولا يُمكن الحُكم على سلوك أهل الله من خلال معايير أهلِ الدنيا ومالِها وسلطانِها! وكذلك بالنسبة إلى نقد بعض السلوك السياسي والاستراتيجي لسماحة السيد نصر الله، لاسيما في ما يخص قرار خوض حرب الإسناد لغزّة انطلاقاً من جنوب لبنان أواخر 2023. بلا ضرورة للقياس أو للتشبيه بين مقام الرجلين كما أشرنا، فوَجهُ نقدِ النقد، أو وَجهُ نقضِ النقد إن أردت، قريبٌ جدّاً. نعم، يُمكننا ادعاء ما يلي، مع التبسيط وبالطريقة نفسها عموماً: لو أن السيد حسن وجدَ نفسَه أمام لحظة انخراط حركة «حماس» في حرب كهذه الحرب، وأمام لحظة استعداد الكيان «الإسرائيلي» وحلفائه لشن حرب شاملة على غزّة ومقاومتها وشعبها، خصوصاً بعدما دخلنا -واقعاً- في حرب إجرام غير مسبوقة وفي حرب إبادة موصوفة، لو أن السيد حسن وجدَ نفسَه أمام لحظة جهادية وثورية وإنسانية وإسلامية كهذه، ثم حاول «الهروب» من نصرة إخوانه وأهله، ومن الوقوف بشكل واضح مع الحق مهما كانت التضحيات، لو أن السيد حسن وصل إلى لحظة كربلائية كهذه اللحظة، ثم لم يقمْ بما قام به، ولو من خلال الأخذ بالأسباب وبالتوازنات قدر الإمكان وحتى آخر لحظة، لما كان هذا السيد هو السيد حسن نصر الله، أي القائد الجهادي الثوري الحُسيني الإسلامي الرمزي الكبير، أَوَيسمعُ من هو مِثلُ هذا الرجل نداءَ «أما من ناصرٍ ينصُرُني؟!» يأتي من غزّة، ثم يُولي مع إخوانه الأدبار؟! أَوَيترُكُ من هو مِثلُ هذا الرجل إخوانَه في الدين وفي القومية، وحدَهم، وهو الذي صار يحملُ شعار «فلسطينهم» أمام المنطقة، بل وأمام العالَم؟! أيصلُ مِثلهُ إلى لحظة كلحظة عشية يوم استشهاده، فلا يتبادر إلى ذهنه ولا يسمَعُ قلبُهُ صوتَ مُحمّدِ بنِ عبدِ اللهِ القُرَيشي (ص) يومَ التقى الجمعان في بَدرٍ، وكما سمعتْ أُذُنا جدّه عليّ بن أبي طالب هذا النداء بشكل مباشر يومَها: «والذي نَفسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه، لا يُقاتلُهُم اليَومَ رَجُلٌ فيُقتَلُ صابراً مُحتسِباً، مُقبلِاً غيرَ مُدبِر، إِلّا أَدخلَهُ اللهُ الجَنّة!». بهذا المعنى إذن، نعم، يُمكن الادعاء وبِيَقين أن الشهيد الكبير السيد حسن نصر الله قد مات في هذه الدنيا على «خطأ» جدّه الشهيد العظيم الإمام عليّ بن أبي طالب. ولذلك لا أستبعد أن يكون قد نطق لحظة استشهاده بعبارة تشبه عبارة جدّه المشهورة نفسها: «فُزتُ وربِّ الكَعْبة!». لا شك عندي في أن لحظةً كلحظةِ نيل السيد مقامَ الشهادة هي لحظةُ فوزٍ عند أهل الله، بل هي لحظةُ الفوزِ العَظيم، كما تراها وكما تمنّتها روحُهُ الطاهرة. ومع الخروج قليلاً نحو الخطاب الشخصي؛ ولكن الصادق إن شاء الله تعالى، أدعو لنفسي ولكل من أحب أنْ: اللّهمّ أمِتنا جميعاً على «خطأ» حبيبك وحبيب نبيك، أَبِي الحَسَنِ عليِّ بنِ أَبِي طَالب. آمين!
مالك أبو حمدان
خبير ومدير مالي باحث في الدراسات الإسلامية
المصدر «لا» 21 السياسي