هاشم أحمد شرف الدين

هاشم أحمد شرف الدين / لا ميديا -
نحو 25 كيلومتراً يبلغ طول الطريق الاسفلتي الذي يربط مدينتين في إحدى المحافظات اليمنية، وممتداً في منطقة منبسطة، وبعرض يقارب 25 متراً، تتخلله مفترقات طرق ومداخل إلى عدد من القرى البعيدة والقريبة نسبياً، ويقع عليه عدد من الأسواق الشعبية المتفرقة، ويعتبر شرياناً تجارياً هاماً لتدفق المنتجات الزراعية، فامتداد الطريق ذاته يوصل إلى منفذ حدودي مهم.
أجزم أن من عرف هذا الطريق أو سبق له عبوره سيوافقني الرأي بأنه من أخطر الطرق الموجودة في اليمن، فلا يكاد يخلو يومٌ واحد من وقوع حادث تصادم مؤلم في هذا الطريق، يروح ضحيته العديد من الأبرياء بين قتيل وجريح أو مُعاق لما بقي من عمره.
أسباب عديدة متشابهة قد تكون وراء وقوع حوادث في مثل هذه الطرق الممتدة كيلومترات في مناطق منبسطة، لكن ثمة سبباً خاصاً لاحظته في هذا الطريق كلما مكثت في المدينتين، وهو سببٌ لاحظت استمراريته خلال سنوات متباعدة.
لأوضح السبب لا بد أن أشير إلى أن هذا الطريق ظل عقوداً الطريق الاسفلتي الوحيد الذي يخترق ذلك السهل المنبسط، لذا فقد كان هذا الطريق مكان التعلم الوحيد لسياقة السيارات في الطرق الاسفلتية، وكان عبوره أو السياقة فيه مغامرة يحبذ خوضها كل مبتدئٍ في تعلم السياقة، كما مثّل فرصةً لإثبات الذات والحصول على الثناء، بل صار يمثل صك اعتراف الأهل والأصدقاء والآخرين بمقدرة الشخص على السياقة بشكل احترافي.
ولأن امتداد ضفتي هذا الطريق عبارة عن مناطق ريفية زراعية شاسعة فقد كان غالبية السكان هناك من المستقرين في قراهم ومزارعهم المتناثرة بعيداً عنهما، لا يتنقّلون بكثرة خارجهما، فاعتاد هؤلاء السياقة في الشوارع الترابية في تلك القرى، بما يعنيه ذلك من عدم معرفة بقواعد السلامة المرورية أو التزام بها، أو أي شيء من هذا القبيل، بخلاف ما يسود في المدن من معرفة والتزام بتلك القواعد.
ما مكمن الخطورة إذن؟ ومتى كانت تحل الكارثة؟ الخطورة تكمن والكارثة تحل حينما يقرر أولئك المبتدئون المعتادون على السياقة في الشوارع الترابية الانتقال إلى ذلك الطريق الاسفلتي.
لقد كانوا يُطبّقون فيه طريقة سِياقتهم ذاتها التي اعتادوها في الطريق الترابي (دخولاً أو عبوراً مفاجئاً إلى الطريق، انحرافاً يمنةً ويَسرة، توقفاً مفاجئاً، عدم استخدام الإشارات الضوئية في السيارة... إلخ). فكانت تقع باستمرار حوادث تصادم مؤلمة جداً، أحد طرفيها -في كثير من الحالات- محترفو السياقة من أبناء تلك المناطق أو من عابري ذاك الطريق، لأن الأخطاء الكبيرة غير المتوقعة هي من النوع الذي لا يمكن تفاديه أو تجنبه.
لا شك أن خطورة هذا الطريق قد اتضحت للقارئ الكريم، الذي أود أن أنقله إلى طريق آخر من نوع آخر أشد خطورة، وعواقب السياقة فيه مكلّفة جداً. إنه طريق الإدارة العامة للدولة.
فإذا كانت سياقة السيارات -أو قيادتها- تتطلب إلماماً بقواعد السلامة المرورية والتزاماً بتطبيقها على الأرض بُغية تدارك تعرّض مستخدمي الطرق للقتل أو الإصابة بجروح خطيرة، فإن قيادة العمل الإداري للدولة تتطلب أن يلمّ من يتولاها بالقواعد الإدارية وأن يلتزم بها في عمله، بُغية ضمان نجاح الإدارة، سواءً على مستوى الدولة ككل أو على مستوى الوزارة أو المؤسسة أو الهيئة التي يديرها، وبالتالي تحقيق الغاية المنشودة منها، وأهمها خدمة المواطنين وحمايتهم وحفظ حقوقهم.
وإذا كان القانون يلزم من يسوق السيارة بأن يستخرج رخصة تثبت أهليته لسياقة السيارات، فإن من المنطقي أن يكون المسؤول الذي يتم تعيينه في مركز أو موقع أو منصب إداري حاصلاً على رخصة في السياقة الإدارية، لأنه مثل سائق السيارة، يسوق المواطنين إما إلى النجاة وإما إلى الهلاك.
لن نجانب الصواب إن وصفناها بالكارثة الكبرى تلك الحالة التي تكون فيها الإدارة العامة طريقاً يُستخدم ليتعلمَ فيه بعضُ الأشخاص أبجديات قواعد الإدارة العامة أو المهارات الإدارية، لأن مشوارهم التعليمي هذا سيكون بالضرورة على حساب المجتمع عامة والمنتمين للجهاز الإداري للدولة خاصة. إذ لا يمكن أن يكون إلقاءُ والدٍ لولدِه في بِركة سباحة لتعليمه السباحة كإلقاء أشخاصٍ في مراكز إدارية عامة ليتعلموا كيف يديرونها، فهم سيكونون مسؤولين عن شعب بأكمله.
وإذا كانت السياقةُ «فناً وذوقاً وأخلاقاً» كما يعلم أغلب سائقي السيارات في العالم، فإن سياقة الدول وقيادة الشعوب إدارياً تتطلب أكثر من الفن والذوق والأخلاق، وأكثر من مجرد الالتزام بالقوانين الإدارية بحذافيرها، خاصة حين يكون الشعب مُسلِماً وقيادته الإدارية كذلك. إنها تتطلب تقوى الله والإحسان للمواطنين.
يقول الله سبحانه وتعالى: «‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». إن اختيار المسؤولين من الكفاءات الوطنية المؤهلة المقتدرة هو من تقوى الله. ألسنا نحرص على اختيار السائق الأكثر مهارة ليقود سيارتنا في الطريق الجبلية الوعرة والخطيرة، لأننا ندرك أنه سيوصلنا إلى الهدف بأمان وسلامة بفضل الله، ولأننا ندرك أن الأقل كفاءة قد يوردنا إلى التهلكة؟
أليس علينا أن نعمل بالمثل عند اختيار من يقودنا في طريق إداري فنتقي الله فينا وفي أنفس غيرنا؟!
أليس التدريب والتأهيل -السابق للتعيين- لكل الأشخاص الذين يُراد تعيينهم ليكونوا مناسبين لشغل المواقع التي سيعينون فيها من تقوى الله وكذلك الاستمرار في التأهيل والتدريب؟! لقد كان التدريب والتأهيل المستمر ممّا حثّ عليه قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي (يحفظه الله) خلال لقائه بقياديين حكوميين مشاركين في ورشة خُصصت لإنجاز خطة الحكومة للعام 2021.
إننا عندما نكون برفقة شخصٍ ما يقود سيارته عبر طريق وَعِرٍ غير ممهّد، نكون بحاجة لمستوى معيّن من الثقة المتبادلة بيننا وبينه، وهذا بالضبط ما يجب أن يفعله المعنيون بإدارة الدولة، عليهم أن يكسبوا ثقة الشعب بإقناعه فيسير معهم فتتولد أجواء صحية لها آثار إيجابية جدا على المستوى العام.
المواطن -يا قادة- يريد أن يكون طريق الإدارة العامة للدولة مُمهَداً على أرقى مستوى، ألا يجد سوى مسؤولين مبدعين مبتكرين يستطيعون إقناعه بأنّ أفكارهم تصبّ في مصلحة الشعب فيدعمها ويساندهم؛ مسؤولين قريبين منه غير محتاجين لإجباره، ولا توجد لديهم نزعة معاقبته فوراً إن عبّر عن رفض بعض قراراتهم؛ مسؤولين ثوريين واعين يسعون دائمًا لإحداث التغيير بمراعاة الدستور والقانون أو بابتكار قوانين جديدة وفقا للإجراءات المنظمة؛ مسؤولين غير مسايرين لما كان عليه الوضع الإداري في الأنظمة السابقة الفاسدة؛ مسؤولين شجعان يتحلون بروح المسؤولية ويتحركون بجد للنهوض بواقع العمل، لا يقبلون أن تُسحب منهم صلاحياتهم ليكونوا مجرد دُمى أو ديكور؛ مسؤولين يتعاملون مع مرؤوسيهم من منطلق التشجيع على التفكير خارج الصندوق ليبدعوا؛ مسؤولين يتبنون الأفكار الجديدة، ويقدّرون قوّة التفكير الجماعي وأهميتها في تحقيق مزيد من التطوّر والإبداع، ويرفضون لمرؤوسيهم أن يظلوا متلقين للتوجيهات ومنفذين لها فقط.
المواطن يريد أن يتم تهيئة طريق إدارة الدولة من خلال قياداتٍ إدارية عليا تعرف كيف تقود، لا أن تتسلّط على من هم أقل منها من حيث الدرجة الوظيفية ومواقع المسؤولية؛ قيادات تحترم التراتبية الإدارية، ولا تتجاوز صلاحياتها، تحافظ على المؤسسات، وتنميها، وتهتم بشؤون من يديرونها والعاملين فيها، وتؤهلهم وتدربهم...
قيادات عليا تتعامل مع أبناء الشعب من منظور واحد، تساوي بينهم في الحقوق والفرص، غير مأخوذة بهوس السيطرة على الوظيفة العامة والاستئثار بها.
المواطن يريد قياداتٍ عليا تكون قادرةً على التعامل مع المشاكل لا أن تخلقها، بوسعها تحويل التحديات إلى فرص لا أن تبثّ اليأس، قيادات تُحسن إدارةَ الأزمات والعملَ تحت أقسى الضغوط، تعالج الأمراض الإدارية لا الأعراض، فتقضي على الفساد بكافة أشكاله من جذوره.
المواطن يريد قياداتٍ عليا تنفذ بجدية توجيهات قائد الثورة (يحفظه الله) ومنها ما ورد في كلمته بمناسبة العام الهجري 1443، من تأكيد على ضرورة تطهير كل مؤسسات الدولة من المدسوسين والعملاء والخونة.
إننا مثلما نحرص على تنبيه الشخص المعتاد على سياقة السيارات داخلَ المدن بأنّ سياقتها في الطرق الوعرة أو الطويلة بين المحافظات تتطلب الانتباه أكثر لأن لها مخاطر إضافية، فيجب أن ننصح القيادات العليا للعمل الإداري في الدولة بأن يراعوا ذلك أيضاً قُبيل اقتحامهم لأية ميادين جديدة عليهم، وننصحهم بحُسنِ قيادة ذواتِهم أولاً قبل قيادةِ دولةٍ وشعب، وأن يعرفوا نقاطَ قُوَّتهم فيعزّزوها ونقاطَ ضعفِهم فيزيلوها.
فما لم تعِ قيادة القطاع الإداري للدولة أساليبَ القيادةِ الصحيحة فإنها ستستمر في استنساخ ذلك الطريق الرابط بين المدينتين، واستنساخ حوادث التصادم الأليمة باستمرار، إنما بين الشعب والدولة، وحتماً أن الخسائر حينها لن يكون سهلاً تعويضُها.
ومضة:
مثلما يعود أدراجَه مَن أضاعَ الطريقَ ليصلَ إلى نقطةِ الانحرافِ الأولى لِيُعدّلَ مسارَه، فعلى أيةِ قيادةٍ إداريةٍ عُليا أن تعودَ عن أخطائِها لتصححَ المسار، فكما قال الإمام علي عليه السلام: «السائرُ على غيرِ الطريقِ لا تزيدُه سرعةُ السَّيرِ إلا بُعدا».
والله المستعان.

أترك تعليقاً

التعليقات