الصرخة من صوتٍ معزول إلى وعي عالمي
- محمد الشرفي الأحد , 4 مـايـو , 2025 الساعة 1:28:37 AM
- 0 تعليقات
محمد الشرفي / لا ميديا -
حين ارتفعت الصرخة في جبال مرّان لأول مرة، لم يكن الكثير يُدرك أنها أكثر من مجرد هتاف. كانت تبدو شعاراً غريباً، متجاوزاً، وربما حتى مستفزاً. لكنها لم تكن كذلك في جوهرها، بل كانت تعبيراً عن وعي عميق، رؤية مبكرة إلى ما وراء الحدث الظاهر، قراءة ثاقبة في بنية النظام العالمي، وبالذات في حقيقة الدولة الأمريكية. السيد الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي لم يكن يصرخ ضد أمريكا بدافع الحماسة أو رد الفعل، بل لأنه فهم، ببصيرته النادرة ودهائه، أنها ليست دولة عادية، بل رأس فتنة كونية، ومنبع للشرور التي تحيط بالشعوب.
الصرخة لم تكن سعياً للقتال، بل كانت إدراكاً واعياً للخداع الدولي، والقيم الزائفة التي تُسوّقها أمريكا تحت ستار حقوق الإنسان والحرية. لم يكن اليمن آنذاك في حالة حرب مع أمريكا، ولا أمريكا في حالة حرب مفتوحة مع اليمن؛ لكن من رفعوا الصرخة كانوا يرون أن الحرب قادمة، وأن الشعار، الذي يبدو مبالغاً فيه اليوم، سيكون هو عنوان الحقيقة غداً.
شعارات كثيرة في التاريخ بدأت بوصفها صرخات غير مفهومة، أو مطالب مثالية لا مكان لها في الواقع، ثم ما لبثت أن أصبحت حقيقة، وأحياناً قواعد تحكم العلاقات الدولية. في أمريكا اللاتينية، كانت شعارات مثل: “لا للإمبريالية” و”التحرر من أمريكا”، مثار سخرية النخب؛ لكنها تحولت إلى أساس للهوية السياسية في دول كفنزويلا وكوبا. لم يكن الناس يصدقون أن واشنطن، التي تبدو دولة متحضرة، قد دعمت انقلابات وسلّحت مليشيات وموّلت المجازر.
في اليابان، حين رُفع شعار “كفى للسلاح النووي”، كان العالم يراه نوعاً من البكاء على الأطلال؛ لكن بعد عقود، صار هذا الشعار جزءاً من الخطاب الرسمي في المحافل الدولية، وتحول إلى مبدأ أخلاقي تتبناه الأمم. وكذلك فعلت شعارات التحرر من التمييز في أمريكا نفسها، حين خرج مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس يطالبان بكرامة السود، فواجها الاعتقال والاغتيال، ثم صار خطابهما مصدر تشريع وسياسات تعليمية وثقافية.
لكن اليمن سبق الجميع؛ لا لأنه عانى أكثر، بل لأنه وعى أسرع. لم ينتظر أن تنهال عليه الطائرات الأمريكية حتى يرفع صوته، بل رفعه وهو لا يزال في الظل، حين كان الآخرون منشغلين بالديكور الديمقراطي، والإصلاحات الشكلية، و”الحليف الأمريكي الصادق”. رفع صوته باكراً، لأن قائده كان يرى ما لا يُرى، ويقرأ في الأحداث ما لا يُقال.
وفي العالم اليوم، لم تعد أمريكا تحتاج إلى تفسير. لقد أصبح فعلها أوضح من شعارها، وصار هجومها على الشعوب باسم “الشرعية” و”مكافحة الإرهاب” سياسة معلنة.
وأصبحت القنابل الذكية على غزة، وقصف الطيران على صنعاء، هي الترجمة الحرفية لشعار “الموت لأمريكا”.
من المهم أن نُدرك أن الشعار الذي كثيراً ما يُقتبس منه “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام” ليس مجرد كلمات تردّد في المسيرات أو الجبهات. إنه موقف واعٍ نابع من إدراك عميق لبنية الصراع في هذا العالم. “الله أكبر” تعني أن السيادة لله لا للطغاة، و”الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” تعني الرفض التام لهيمنة قوى الاستكبار والاستعمار على مصائر الشعوب. إنها كلمات تختصر فهماً عميقاً لطبيعة المواجهة التي يخوضها الأحرار في هذا العالم ضد منظومة العدوان العالمي.
نحن في اليمن، لم نكن نتوهّم أو نبالغ حين صرخنا. نحن الآن نُقاتَل بالفعل من قبل أمريكا، وبأسلحتها، وبمواقفها، وبحصارها، وبطائراتها التي لا تخطئ المدنيين. ومن هنا تتجلّى البصيرة الفريدة للشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، الذي رأى هذه الحقيقة قبل أن تظهر، وأعلن الموقف منها قبل أن يفرضه الواقع على الجميع.
نخلص إلى أن الصرخة لم تكن انفعالاً، بل بصيرة. لم تكن شعاراً، بل وعياً سابقاً لزمانه. ومن يتأملها اليوم، يجد فيها خلاصة موقف حضاري وأخلاقي في وجه نظام عالمي يصنع الموت ويتقن التزييف.
المصدر محمد الشرفي
زيارة جميع مقالات: محمد الشرفي