شارل أبي نادر

شارل أبي نادر / لا ميديا -
أثناء الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان نهاية العام 2020، والتي انتهت باسترجاع الأخيرة القسم الأكبر من إقليم ناغورني كاراباخ وأغلب الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها أرمينيا عام 1994، كان الموقف الإيراني واضحاً لجهة إقرار ودعم الحقوق الأذرية في تلك الأراضي التي استرجعتها أذربيجان، ولناحية احترام سيادتها وضمان أمنها، وبشرط، أيضاً، ألا تمتد تلك السيطرة إلى الأراضي الأرمينية، مع إلزامية احترام سيادة "يريفان" وضمان أمنها وحقوقها استناداً للقانون الدولي، إضافة لتصريحات جميع المسؤوليين الإيرانيين حينها، بوجوب إنهاء الحرب وإيجاد تسوية سلمية وإعادة الهدوء إلى منطقة جنوب القوقاز، مع ضمان احترام وحماية الأمن القومي لكل الدول المعنية.
فما هو موقع أذربيجان اليوم من هذه المعادلة الأساسية (حماية وسلامة الأمن القومي لجميع دول منطقة جنوب القوقاز وشمال غرب آسيا)؟ وهل تتصرف "باكو" اليوم مع إيران بالروحية نفسها؟ وأين دورها فيما يحدث اليوم مع إيران لناحية ما تتعرض له من تهديدات حساسة من كافة النواحي الاقتصادية والعسكرية والأمنية؟
بداية، من المفيد الإضاءة على المنطقة الجغرافية الحدودية بين جنوب أرمينيا وشمال غرب إيران، والتي لا يتجاوز عرضها أربعين كيلومترا وتربط إقليم ناختشفيان الأذري المفصول عن "باكو" بأراضي أرمينيا، جنوب ناغورني كاراباخ، وتحتضن هذه الجغرافيا منطقة "نوردوز"، التي تشكل المعبر شبه الوحيد المؤهل لنقل كافة البضائع بين إيران وأرمينيا. وتتركز حاليا مناورة كل من تركيا ـ أذربيجان من جهة بمواجهة مناورة إيران ـ أرمينيا من جهة أخرى، في السيطرة على تلك المنطقة "نوردوز"، لتدخل "إسرائيل" أيضاً على الخط من خارج جغرافيا المنطقة، ولأسباب استراتيجية تتعلق بمخطط استهداف واسع لإيران، تحاول اللعب والتأثير في تلك المنطقة وفي تسعير التوتر بهدف تحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ مخططها المذكور أعلاه.
فمناورة أذربيجان - تركيا تهدف إلى انتزاع معبر "نوردوز" من أرمينيا، بالسياسة أولاً من خلال تبديله بأراض أخرى تربط ناغورني كاراباخ بأرمينيا، وإلا بالقوة فيما لو فشلتا في ذلك. والهدف إبقاء المنطقة الجغرافية الوحيدة التي تربط ناختشيفان مع أذربيجان، ومن خلالها ربط تركيا والبحر الأسود مع بحر قزوين ومع دول آسيا الوسطى، وفي الوقت نفسه حرمان كل من إيران وأرمينيا الاستفادة من مميزات ما تقدمه تلك المنطقة الحساسة من كافة الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاستراتيجية، بينما تقوم مناورة أرمينيا ـ إيران على وجوب الاحتفاظ بهذه المنطقة "نوردوز"، لضمان عبور البضائع الإيرانية إلى أرمينيا وبالعكس، ولضمان اكتمال حركة النقل الإيرانية إلى جورجيا فالبحر الأسود، والأرمينية إلى إيران فبحر قزوين.
هذا التعارض في المناورتين، والذي يبدو ظاهرياً ذا طابع اقتصادي ـ جغرافي، هو في الواقع عبارة عن ثغرة حساسة جداً، تنظر إليها كل من تركيا و"إسرائيل" نظرة خاصة تتجاوز البعدين الاقتصادي والجغرافي، لتكون عملياً نقطة ارتكاز لتنفيذ مناورة خاصة بكل من الطرفين، تجتمعان على تهديد إيران، وذلك على الشكل التالي:
تريد "إسرائيل" من تلك المنطقة بؤرة خلاف بين إيران وأذربيجان لتسعير التوتر وخلق نوع من العداء، تستغله "تل أبيب" ومن باب دعم ومساندة "باكو" عسكرياً واستعلامياً، فتصبح مالكة لمجموعة من القواعد العسكرية المنتشرة على مرمى حجر من الشمال الإيراني، والذي يحتضن أهم منشآتها النووية في "نطنز" و"اراك" و"بوردو"، ولتكون القواعد العسكرية التي لـ"إسرائيل" وحضور عسكري فيها مباشر أو غير مباشر، تكون في بعدها الحقيقي نقاطاً حساسة لتركيز ودعم المواجهة ضد إيران، لناحية قواعد جوية تحتضن قاذفات استراتيجية وطائرات من دون طيار، قاذفة وخاصة بالمراقبة، ولناحية تركيز قواعد إلكترونية متطورة خاصة بالحرب السيبرانية.
من ناحية أخرى، فإن الدور التركي أساسي في ما تقوم به "باكو" اليوم، ظاهره السيطرة على الشريط الحدودي الوحيد بين إيران وأرمينيا بذريعة تأمين تواصل دائم بين ناختشيفان وأذربيجان، لكن حساسية هذا الدور تقوم عملياً وفعلياً باتجاهين:
أولاً: قطع التواصل الجغرافي بين إيران والبحر الأسود وأوروبا إلّا عبر أراضيها، الأمر الذي يُفقد إيران دور اللاعب الأساسي لاحقاً في منظومة الاقتصاد الصيني المستقبلية (الحزام والطريق)، لتكون تركيا حينها المتحكمة بذلك الدور بعد أن تنتزعه من إيران، وما يحمل ذلك من مزايا اقتصادية واستراتيجية.
ثانياً: تربح تركيا في ذلك أيضاً، دون الحاجة لأراضي أرمينيا أو أراضي إيران، تواصلاً مباشراً بينها وبين بحر قزوين، ما يعني عملياً تواصلاً مباشراً بينها وبين دول آسيا الوسطى، مع ما يحمله هذا التواصل لتركيا من أهمية اقتصادية وديمغرافية وسياسية.
لا شك أن ردة الفعل الإيرانية كانت سريعة، وتلقفت سريعاً الهدف الأبعد من قيام السلطات الأذرية بفرض رسوم غير قانونية على حركة نقل البضائع الإيرانية نحو أرمينيا، فأطلقت فوراً مناورات غير مسبوقة، تحت اسم "فاتحو خيبر" في شمال غربي إيران بمشاركة قوات برية وجوية، منها لواء تدخل سريع، ووحدات مدرعة، ومدفعية، وطائرات مسيرة، وأدوات حرب إلكترونية، وبدعم ناري من مروحيات، وشملت تنفيذ عملية إنزال في إحدى المناطق بعد استطلاعها من الجو، وواكبتها حملة ديبلوماسية وإعلامية مناسبة، وكانت رسائلها من هذه المناورة حاسمة وواضحة، بأن أمنها القومي ومصالحها التاريخية والاستراتيجية خط أحمر، وبأنها لن تسمح بأن يكون لـ"إسرائيل" نقاط ارتكاز في أذربيجان قادرة على استهدافها أو على تنفيذ أي نوع من الاعتداءات المختلفة ضدها.
عملياً، يبدو أن مناورة إيران لمواجهة هذه التهديدات الحساسة تقوم على تثبيت حرية حركة انتقال شاحناتها وبضائعها إلى أرمينيا ومنها إلى جورجيا فالبحر الأسود، وإبقاء المنطقة الحدودية بينها وبين أرمينيا حرة وآمنة، وذلك من خلال الآلية المناسبة مع أرمينيا، والتي يمكن أن تكون عبارة عن اتفاقية أو معاهدة أو ما شابه، حتى لو تضمنت هذه الآلية تواجداً عسكرياً إيرانياً داخل أرمينيا، مع تفعيل انتشارها وتواجدها على كامل الحدود مع أذربيجان، عبر إعطاء أهمية كبرى لتثبيت قواعد عسكرية قوية شمالاً وشمال غرب بالتحديد، والعمل على مسك وإقفال تلك الحدود، أمنياً وعسكرياً، أو لناحية المراقبة والرصد وإجراءات مواجهة الحرب السيبرانية والإلكترونية.
وأخيراً، مع تلك الإجراءات العملية والإدارية التي من المفترض أن تقوم بها إيران وتحققها قريباً جداً، قد يكون من المفيد لها بعد اليوم العمل من خلال استراتيجية تقوم على الحذر الشديد من تركيا وعدم الوثوق بتاتاً بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.


محلل عسكري واستراتيجي لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات