السياسيون مملون في العادة؛ يقولون الأشياء ذاتها بالنبرة ذاتها وبالقوالب ذاتها.
ألسنتهم ميتة وقلوبهم قوالب ثلجية موضوعة على الدوام في  "الفريزر" ولا شيء يبقى ساخنا سوى أدمغتهم. من النادر أن تذهب بلهفة وشغف لتجري حواراً صحفياً مع سياسي إلاَّ إذا كان هذا السياسي نجماً على غرار عبده محمد الجندي الذي تسابق ظلك في طريقك لإجراء حوار معه. يتحدث إليك بقلب بض ودماغ ساخن وذاكرة لا تخون لسانه يقول ما يريد ويريد مايقول؛ يزحلقك من حيث لا تحتسب إلى دوامة ضحك فيما تحاول أن تتصالب لتستدرجه إلى حيث لا يحتسب من مجاهل سياسية تريد إضاءتها لعيون القارئ العادي.
في اللقاء الذي خص به صحيفة "لاء" في عددها الأول وجد عبده محمد الجندي الوقت الذي يفسحه لنا عن طيب خاطر ولم يسعفنا الوقت للإعداد الذي يليق بحوار شخصية بحجمه؛ فلم نتوقع أن نظفر بهذه الفرصة على هذا النحو من السرعة ودون ترتيبات مسبقة.
هدير طائرات العدوان ظل يمزق سكون العاصمة فوق رؤوسنا إلا أنه لم يعكر إنسياب نهر الحوار وجريانه السلس.  
تحدث الجندي عن "عفاش والحوثي وأبو ذر وسقراط" وعن خيانات اليسار والقوميين وكاشفنا بسرٍ لم يبح به طيلة السنوات الماضية..  فإلى نهر الحوار معه.. مع السياسي النجم عبده محمد الجندي الناطق باسم المؤتمر الشعبي العام:

 ما الذي يحدث في تعز برأيكم.. وإلى أين ستؤول الأمور؟
 الذي يحدث في تعز معركة هوجاء تقوم بها عناصر تزعم بأنها مقاومة وهي تقاتل مع الغزاة والمحتلين، هذه العناصر إما أنها جاهلة وواجبنا إعادتها إلى جادة الصواب؛ وإما أنها متجاهلة وتدرك أنها تقوم بدور المقاولة وتلك هي الكارثة.. وكما أن واجبنا في الحالة الأولى إخراجها من الجهل إلى المعرفة، فإن واجبنا في الحالة الثانية إعادتها إلى جادة الصواب بالاقتناع والإقناع أو بالإكراه، وهي تتكون في الغالب الأعم من عناصر مرتبطة بما تبقى من أحزاب المشترك مع اختلاف هذه الأحزاب من حيث الوضوح ومن حيث المراوغة، وهل سمعت أن هناك وضوحاً في العمالة والخيانة.. سئل (هتلر) المعروف بأنه قاد حرباً لتدمير العالم من هم أحقر الناس؟ فأجاب: الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم. ونحن نربأ بهذه الأحزاب أن تحمل نفسها مسئولية مثل هذا العمل الذميم والقبيح.
الأمور سوف تؤول إلى عودة الجميع إلى طاولة الحل السياسي كما هي طبيعة أي حروب عدوانية؛ لأن الشعوب لا تقهر، قد تخسر معارك هنا وهناك، لكنها تمتلك من الإيمان والإرادة ما يجعلها قادرة على الصمود والتصدي، صحيح أن الحل السياسي يحتاج إلى تبادل التنازلات بين اليمنيين، لكن التنازلات التي لا تتجاوز الحدود العليا للاستقلال والسيادة والكرامة، أما الأجنبي كما هو في حالتنا فليس له سوى الرحيل أو القبول بعلاقة قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية وتعويض ما دمره بعدوانه.
 كيف تقيّمون فعالية أبناء تعز الأخيرة في صنعاء؟ وهل تعتقدون أن المحافظة نضجت لتعي خطورة الوضع؟
 هذا عمل يعكس الإرادة الكامنة لأبناء تعز الذين استيقظوا متأخرين ولكن ألاَّ يستيقظوا متأخرين أفضل من ألاَّ يستيقظوا؛ لأن حجم التضليل كان كبيراً ويعكس طبيعة الحملة الدعائية التي تقوم بها إمبراطورية إعلامية تمتلك من القدرات ما يجعلنا نلتمس العذر لأبناء الشعب اليمني بشكل عام وأبناء تعز بشكل خاص، وهناك حكمة تقول: "يستطيع الإنسان أن يخدع بعض الناس كل الوقت، ويستطيع أن يخدع بعض الوقت، لكنه لا يستطيع أن يخدع كل الناس كل الوقت"، وهذه هي قصة الشعب اليمني الذي استعاد مبادرته ويقظته بعد فترة من الغيبوبة الدعائية.
وكما أن أبناء تعز استيقظوا بالأمس فإن اليقظة ستتجاوز محافظة تعز إلى كل المحافظات اليمنية بحكم ما تمتلكه من دور قيادي مقرون بالاستعداد اللامتناه للإيثار. ولأن تعز حاضرة ومقبولة في جميع المحافظات، وهي أكبر من السفسطة الطائفية أو المناطقية التي تدس السم في العسل.

 الناصريون أو معظم التنظيم اليوم في الرياض.. ما تعليقكم؟
 اتصل بي بالأمس ناصريّ أستطيع القول: إن ثورية الدنيا كانت تعمل في أفكاره وكان يتهمني بأنني خدعت الناصريين في علاقتي مع الرئيس علي عبدالله صالح، عندما كنت رئيساً للحزب الناصري الديمقراطي، وأعلن انضمامه للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري. قال لي بالحرف "أعتذر منك اليوم على ما حدث مني بالأمس، لأنني لم أكن أتصوّر أن الناصريين سيضعون أيديهم في يد المملكة؛ ناهيك عن تجاوز المملكة إلى شريكتها في العدوان (إسرائيل)، والآن حصحص الحق، مؤكداً أن الباطل كان زهوقا.

 أين بدأ الانحراف في مسار العمل الوطني والقومي ليؤول الوضع إلى ما هو عليه اليوم؟
 هذا العصر كما يقال هو عصر البراغماتية الليبرالية، وأينما تكون المصالح تكون الأفكار.. أي أن المبادئ والقيم والأخلاق الثورية النبيلة وحتى الدينية تسقط أمام طغيان المصالح الناتجة عن منافع السلطة والثروة، وهذه هي مشكلة اليوم التي جرّدت كثيراً من الأحزاب ومن القيادات السياسية والثورية من قيمهم النبيلة وحوّلتهم إلى تابعين يلهثون وراء النزوات والملذات.

 لكنك لم تحذ حذوهم..؟
 أنا مقتنع أن الظروف الصعبة لها بداية ليس لها نهاية وأنها الطريق الصحيح إلى اكتساب ما تبحث عنه من مكانة واحترام في وسطك الاجتماعي، وتلك هي النجاحات الصحيحة والبديلة للنجاحات بالجهود السهلة التي تظهر فجأة وتنتهي فجأة ولا تخلف لصاحبها سوى الخزي والعار.

 في أي نقطة من التاريخ بدأ انحراف اليسار والقوميين تحديداً؟!
 ابتليت الأحزاب اليسارية والقومية بانتهازية سياسية مقيتة جعلت أولئك الذين لم يلحقوا بها عن قناعة مبدئية يتقمصون أدواراً ورؤى سطحية تبهر الأنظار في ما تذهب إليه من التطرف والمزايدة، ولأن الانتهازي متعدد الألوان والمواقف ولا يقبل بأقل من أن يكون الأول في أي حزب.. هذا هو المرض الذي جعل رجال المبادئ يتراجعون لصالح هذا النوع من رجال المصالح والانتهازيين.

 أين يتقاطع أنصار الله والمؤتمر وأين يفترقون؟
 اليوم يقف أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام أمام مجموعة أخطار تهدد وجودهم وليس أمامهم سوى الضغط على قناعاتهم ومواقفهم ليكونوا قوة واحدة ضد العدوان. أي أنه اتفاق جدلي لا يلغي التعدد والتباين عند التحول من هذه المرحلة الثورية الصعبة إلى المرحلة الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة، أما الآن فإننا إذا انسقنا وراء خلفياتنا الأنانية ورغباتنا في التفرد والشمولية فسيكون مصيرنا الهلاك جميعاً.
هناك الآن من يحاول أن يدفع باتجاه تحويل التباين إلى خلاف وتحويل الخلاف إلى قطيعة يصبح فيه التناقض الطبيعي المنتج والمثمر تضاداً مدمراً أي (أنا على صواب وغيري على خطأ.. السلطة لي وحدي والثروة لي وحدي، وليس للآخرين سوى الضياع).
وهذه علامة ليست جدلية لأنها جامدة ومدمرة لكل الأطراف، ونحن اليوم، مؤتمريين وأنصار الله، يجب أن يكون شعارنا (الدين لله والوطن للجميع.. والديمقراطية والوحدة والعدالة للشعب) والأحزاب تتنافس بشكل طبيعي على التداول السلمي للسلطة، ومعنى ذلك أن التعدد والتنوع لا يلغي الاختلاف.
وواجبنا نحن جميعاً أن نعتبر أنفسنا أبناء اليوم وأن نتنافس في الحاضر على المستقبل وأن نتنافس على المستقبل في الحاضر، دون أن يجتر الماضي، فحقيقة الأمر اليوم أن أنصار الله شركاء حقيقيون في الدفاع عن الجمهورية، ويضحون بالكثير من الدماء والأرواح والممتلكات وأن بعض الجمهوريين الذين ركبوا موجة الجمهورية في الستينيات يستقرون في أحضان من كانوا يطلقون عليه بالأمس (العدو التاريخي)، مبررين عدوانه ويتحولون إلى حملة مباخر للعدوان.

 هل سيعود (علي عبدالله صالح) إلى الحكم؟
 هو مقتنع بأنه قد أخذ حصته من الحكم الذي يعني من وجهة نظره (الرقص على رؤوس الثعابين)، ويمكننا أن نتخيله لاعباً رئيسياً في اختيار حكام الغد ولا نتخيله حاكماً، لأنه يمتلك رصيداً شعبياً قديماً زاد من أهميته موقفه الأخير من العدوان واستعداده للتضحية بكل ما يملك، بل وأكثر من ذلك أنه قال في مقابلته الأخيرة إنه مستعد شرط وقف العدوان لعدم الترشح لرئاسة المؤتمر، ولم يكرهه أحد على ذلك.

 كيف تعلقون على محاولات (الرياض) شق المؤتمر وسرقة قراره؟
 (الرياض) أدركت متأخرة أن رئاسة الحزب هي البوصلة إلى رئاسة الجمهورية، أما رئاسة الجمهورية وحدها في مجتمع يقوم على التعدد وتداول السلطة فلا تؤدي إلاّ إلى الشارع، لأن رئيس الجمهورية الذي سيأتي بعد أن دمّر العدوان كل شيء سيكون أمام تحديات لا قبل له بها إلا بإقامة تحالفات إقليمية ودولية جديدة تساعده على إعادة بناء ما دمره العدوان، وهو أمر لا تقبل به (الرياض).
أنا أقول دائماً إن الرياض مطالبة بإعادة النظر في سياساتها حتى تقتنع أن مصير أنصار الله ليس بيدها وحدها، وأن هناك قوى إقليمية أخرى لن تقبل بهذا النوع من الاستئصال، ومهما انتصرت عليهم في الحروب العدوانية فسيستمرون عنصر إقلاق لأمنها واستقرارها ولا مجال أمامها إلا القبول بهم لتحييدهم على الأقل، لأنهم جزء فاعل ومؤثر من أبناء الشعب اليمني الذي لا تستطيع إلغاءه من الجوار.

 التقيتم السيد عبدالملك، فكيف وجدتموه؟
 هو رجل عظيم اتفقنا معه أو اختلفنا، فهو يمتلك من الملكات والمواهب القيادية والمكانة الشعبية ما يجعله رقماً صعباً ومؤثراً في سماء السياسة اليمنية لا يمكن تجاهله، وهو الرجل الذي إذا دعا استجابت له مئات الآلاف من القبائل اليمنية المؤثرة وخافت منه جيوش وعروش ودول.

 هل ستؤسسون حزباً بالنظر إلى رصيدكم النضالي ودوركم الفعال؟ أم ستواصلون العمل في صفوف المؤتمر؟
 أنا رجل مسكين من عامة الشعب لساني هو رأسمالي (ودماغي) لكني أحترم المثل القائل (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه)، وهناك سر أبوح به لك لأول مرة احتفظت به رغم عدم قدرتي على حفظ الأسرار هو (أنني رفضت عرضاً من الرئيس السابق، رئيس المؤتمر الشعبي العام أن أرشح نفسي لرئاسة الجمهورية).. قال لي: "وافق على الترشح لرئاسة الجمهورية وسندعمك"، فقلت له: "أنا متأثر بما كان يقوله لي أبي عن جدي (من تزوج أمنا كان عمنا، ووقت المصائب أعمل راسك مُدري وقل مدري) ولا أريد أن تناقشني في هذا الأمر مرة أخرى، فأنا رجل في آخر حياتي ولا أستطيع الإيفاء بمطالب أسرتي".

 ماذا عن أبو ذر؟
 هو أنجح أبنائي وعالم في الطب في جراحة القلب والأوعية الدموية ورئيس مركز جراحة القلب في تعز، لكنه سياسي ينتمي لحزب الإصلاح، وكانت قد حدثت بيني وبينه قطيعة انتهت بالجهد الذي بذلته بيننا قناة (بي بي سي) اتفقنا على تباين الآراء بما لا يسقط حق الأبوة في الطاعة ولا حق البنوة في الاحترام.
أنا سألته هل تعالج كل من يصل إليك حتى ولو كان من أنصار الله فقال لي: نعم، ولكني قلت له كيف سيصل إليك الجرحى من أنصار الله وأنت داخل الدوامة العنيفة لـ(حمود سعيد) فأخبرني: (حمود سعيد وأنصار الله) مقدور عليهم لكن هناك من هو غير مقدور عليهم من الجماعات الأكثر تطرفاً.

 لو قبلت عرض الترشح للرئاسة، فهل كنت اليوم موضع هادي في الرياض؟
 أي رجل يسعى إلى ترشيح نفسه حتى ولو كان مدعوماً من علي صالح وعبدالملك الحوثي فلا غنى له عن رضا المملكة عليه إذا أراد أن يحقق قدراً من النجاح.
نحن نسمع عن إيران وتدخلاتها في اليمن، لكنها تظل غير محسوسة ولا ملموسة، مقارنة بالتدخلات المحسوسة والملموسة للسعودية.