ترجمة وإعداد:سعيد محمد - لندن / لا ميديا -
أجرى الأستاذ رونغ جيانشين عضو هيئة تحرير مجلة زوايا الثقافة التي تصدر باللغة الصينية هذا الحوار الذي نشر في العدد 36 لسنة 2025 مع الأستاذين في معهد دراسات الشرق الأوسط -جامعة الشمال الغربي بالصين، ماتّيو كاباسّو (Matteo Capasso) -إيطاليا، وولاء القيسية (Walaa Alqaisiya) -فلسطين.

تمهيد:
في 17 سبتمبر الماضي، قال وزير المالية «الإسرائيلي» بتسلئيل سموتريتش، على سبيل المزاح، خلال مشاركته في إحدى الفعاليات إنّ قطاع غزّة «منجمُ عقاراتٍ ثمين»، وإنّ «إسرائيل أنهت مرحلة الهدم»، وهي تتباحث مع الولايات المتحدة حول نسب تقاسم الأراضي بعد الحرب. وقبل ذلك بوقتٍ طويل، كان دونالد ترامب قد وقف مع بنيامين نتنياهو في مؤتمرٍ صحافي مُشترك مطلع هذا العام ليُعلن أنّ سكّان غزّة من الفلسطينيين ينبغي نقلُهم إلى أماكن أُخرى، وأنّ الولايات المتحدة «ستتولّى» و»ستمتلك» القطاع لإطلاق مشاريع تطوير اقتصادي.
اليوم يعيش أكثر من نصف مليون إنسانٍ في غزّة تحت خطر المجاعة، ونحو مئتي ألف مشرّدٍ بلا مأوىً. وفي 16 سبتمبر الحالي، أصدرت لجنةُ التحقيق الدولية المستقلة المعنيّة بالأراضي الفلسطينية المحتلّة (بما فيها القدس الشرقية) تقريراً يَجزمُ بأنّ «إسرائيل» ارتكبت جريمةَ الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة. إنّ إعادة طرح «تقاسم غزّة» أمريكياً -«إسرائيلياً» في هذا التوقيت ينبغي أن يكون كفيلاً بتمزيق ما تبقّى لدى المجتمع الدولي من أوهامٍ: فخطّةُ ترامب-نتنياهو ليست شطَطاً عبثياً، بل مشروعٌ استعماري مُدبَّرٌ، يُدار خطوةً خطوةً. ضمن هذا السياق تتبدّى قسوةُ الوسائل «الإسرائيلية»، وعجزُ المساعدات الدولية وأدواتُ «الردع الإقليمي»، والدورُ الخاص الذي تؤدّيه الولايات المتحدة بوصفها الطامعةَ في جني المكاسب.
في هذا العدد، تُحاوِر «زوايا الثقافة» الباحثة الفلسطينية ولاء القيسية والمحاضر الإيطالي ماتّيو كاباسّو من معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة الشمال الغربي الصينية، وهما محرّران في دوريّة Middle East Critique، ومتخصصان في دراسات الإمبريالية وفلسطين والمنطقة العربية. ينطلق الحوار من سؤال المجاعة في غزّة، ويُبيّن أنّ سياسة الغذاء «الإسرائيلية» الراهنة امتدادٌ لاستعمارٍ استيطاني مُمنهج وسياسات إبادةٍ تاريخية هدفت إلى تدمير الزراعة ونهب الأرض وتهجير السكان. الهدف «الإسرائيلي» ليس «حماس» وحدها، ولا ينحصر بغزّة والضفّة؛ ففي أفق «إسرائيل الكبرى» يحاول نتنياهو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما ينسجم مع سعي الولايات المتحدة لتثبيت هيمنةٍ إمبراطوريةٍ مأزومة.
- لماذا تصفُ الأممُ المتحدة مجاعةَ غزّة بأنّها «نتاج صنع بشري بالكامل»؟ ولماذا لم تنفع المساعدات؟
ماتّيو كاباسّو، ولاء القيسية: يقومُ توصيفُ الأمم المتحدة لمجاعة غزّة بأنّها «صنعٌ بشري تماماً وقابلةٌ للردع والتراجع» على سلسلةٍ موثّقة من السياسات الممتدّة لعقودٍ، تُظهِرُ أنّ «إسرائيل» تُحكِم السيطرة على منافذ حصول الفلسطينيين على الطعام منذ الحصار المُعلَن في 2007، وهو حلقةٌ في منظومة السيطرة على الأرض في سياق مشروعٍ استعماري استيطاني، تُدار عبره حياةُ السكان ومعيشتُهم من خلال أدواتٍ قانونيةٍ واقتصاديةٍ وأمنية و«بيروقراطية» دقيقة.

 السيطرة على الغذاء ركنٌ بنيوي في المشروع الاستعماري
منذ أواخر القرن التاسع عشر وفي عهد الانتداب البريطاني (1920-1948) جرى انتزاعُ الأراضي الزراعية الفلسطينية بمنظومة قوانين وضغوطٍ اقتصادية ومصادراتٍ علنية، مثل سياسات الصندوق القومي اليهودي التي اعتبرت أراضيه «غير قابلة للتصرف» وتخصص لصالح اليهود فقط، ومنعت تشغيل الفلسطينيين في المزارع اليهودية. بعد 1948 تمأسس هذا النمطُ من السيطرة وتحويل البلاد من فضاء زراعةٍ مختلطٍ إلى فضاءاتٍ مفصولةٍ يُهيمن فيها رأس المال/ الزراعة اليهودية مع تهميشٍ اقتصادي للفلسطينيين.
بعد 1967 ثُبّت الاحتلال على بنى الغذاء والبنى التحتية في غزّة، وتقلّبت السياسة بين تشجيع استغلال اليد العاملة الرخيصة وإجراءات عقابية «اقتصادية» دون أن يعني هذا خروجاً عن جوهر الصهيونية؛ بل تطوّراً في أدواتها لتقويض قدرة الفلسطينيين على إنتاج غذائهم وخلقِ «لا-تنمية» (de-development) مُمنهجة تجعل الاقتصاد تابعاً غير مستقل.
في 2006 نُقِل عن مستشارٍ رفيعٍ لرئيس الوزراء إيهود أولمرت قوله بشأن غزّة: «فكرتُنا أن نُبقي الفلسطينيين على شفا الجوع دون أن نَدَعهم يموتون»، ومع إعلان الحصار الشامل 2007 أُدخِلَت «رياضياتُ السعرات» إلى صميم الإدارة: جداولُ لاحتساب حدّ السعرات الدنيا لسكان القطاع وتحديد عدد الشاحنات المسموح بدخولها -نحو 131 شاحنة خمسة أيامٍ أسبوعياً لإطعام أكثر من مليوني نسمة. وهكذا تحوّل مجتمعٌ كان جزئياً مُكتفياً ذاتياً إلى اقتصادٍ يعتمدُ على الإغاثة التي تتحكّم «إسرائيل» في وتيرتها -بحلول 2023 كان نحو 80% من السكان يعتمدون على المساعدات.
تقرّ بياناتُ الاحتلال بأنّ الفجوة بين «الحدّ المحتسب» وما يُسمَح بدخوله كبيرةٌ: بين مارس ويونيو 2025 لم يدخل سوى 56 ألف طن، أي أقل من 25٪ من الحدّ الأدنى، فيما تقدّر المنظماتُ الحاجةَ بـ62 ألف طن شهرياً لسكانٍ يبلغون 2.1 مليوناً، وحتى ذروة 2025 لم تتجاوز التغطية 60٪. النتيجةُ كارثية: عشراتُ الأطفال قضَوا بسبب سوء التغذية، وآلافٌ شُخِّصوا من الأطفال والنساء، وسُجّلَ في 11 يوماً من يوليو 2025 وفياتٌ مرتبطة بالجوع تفوق مجموع من قضوا من الجوع خلال 21 شهراً من القتال.

تدميرُ الزراعة تمهيدٌ لتهجير السكان
لا يقتصر الأمر على تضييق الإغاثة؛ بل هناك استراتيجيةُ تدميرٍ شاملٍ للقطاع الزراعي: تحويل 29٪ من الأراضي الزراعية إلى «حزامٍ عسكري»، تدميرُ البيوت البلاستيكية والمعدّات، حظرُ الصيد، والرشُّ كثيفٌ بالمبيدات الكيميائية الذي عطّلَ أكثر من ثلث الأراضي. حتى نهاية 2024 تعرّض نحو 70٪ من الأراضي الزراعية للتخريب ونفقت 95٪ من الثروة الحيوانية، وتضررت منظوماتُ المياه: آبارٌ وقنواتُ ري ومحطاتُ معالجة -وهو ما يجعل استعادة الزراعة لاحقاً شبهَ مستحيلٍ. هذا امتدادٌ لحربٍ بيئية تاريخية: اقتلاعُ الزيتون، وتجريفُ البستان، وتسميمُ التربة مقابل شعار «فلتزهر الصحراء» في المستوطنات.

تسليحُ توزيع المساعدات
أُنشئت في مايو 2025 «مؤسسة غزّة الإنسانية» (GHF) لتصبح نقاطُ توزيعها داخل مناطق عسكرية «إسرائيلية» مكشوفةٍ، فيتعرّض المدنيون للقنص والطائرات المُسيّرة؛ أكثر من 670 قتيلاً و4000 جريحٍ منذ بدء التشغيلً. ووردت تقاريرُ عن خلط دقيقٍ بمُسكّنات أفيونية ورشٍّ مباشرٍ للفلفل من عناصر الاحتلال. سبق ذلك «مجزرةُ الطحين» في فبراير 2024: إطلاقُ نارٍ على حشودٍ تنتظر القمح، 112 قتيلاً و760 جريحاً، سوى من قضوا بسبب إسقاط المساعدات جوياً، التي لم تغط مع ذلك سوى 4 أيامٍ من احتياجات السكّان بعد 104 أيام إسقاطٍ خلال 21 شهراً.
يقول منسّق الإغاثة الطارئة للأمم المتحدة، توم فلتشر»مجاعةٌ على أرضٍ خصبة تبعد أمتاراً عن الطعام، لكن الغذاء يكدّس على الحدود بسبب العرقلة المنهجية». وغاية كل ذلك بالطبع خلقُ بيئةٍ غير صالحةٍ للعيش تمهيداً للترحيل.

- هل هدفُ نتنياهو «تدمير حماس» حقّاً؟ أم أنّ الاستهدافَ أوسع؟
كاباسّو والقيسية: حصرُ الهدف بـ«القضاء على حماس» يُحرّف طبيعةَ الصراع: إنّه فعلٌ منهجي ضدّ الشعب الفلسطيني ككلّ، امتدادٌ لعقودٍ من عنفٍ استعماري لإقصاء السكّان والسيطرة على الأرض. ثلاثُ نقاطٍ توضّح ذلكً:
1 - حماس حركةُ تحريرٍ وطني نشأت تحت الاحتلال، وللفلسطينيين حقُّ المقاومة المكفول دولياً وفق قرار الأمم المتحدة A/RES/37/43 لعام 1982، واتفاقيات جنيف.
2 - التطهيرُ يستهدف المجتمعَ بأسره بما فيه الضفةُ الغربية حيث لا سُلطة لحماس.
3 - الحمايةُ الأمريكية الممتدّة عقوداً منحت «إسرائيل» حصانةً سياسيةً لتمضي قُدُماً.
وثّقت تقاريرُ أممية ومن خبراء مستقلين مَجازرَ وتدميراً منهجياً للبنى الصحية والتعليمية والغذائية والثقافية، فيما تجاهلت «إسرائيل» كليّة أوامرَ مؤقتةً من محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة. قُتِلَ صحافيون بأعدادٍ غير مسبوقة تاريخياً، واستُهدفت الثقافةُ والمعرفةُ الفلسطينية في عملية»محوٌ أكاديمي وثقافي» هناك نحو 10800 أسيرٍ سياسي، وتوثيقٌ للتعذيب وسوء المعاملة ووقوع وفيّاتٍ أثناء الاحتجاز.

الضمُّ الزاحف في الضفة
يتواصلُ الاستيطانُ والعنفُ المسلّح ضدّ القرى، وهدمُ البيوت، توازياً مع رفضُ 99% من طلبات البناء الفلسطينية، وتوسيعُ البؤر، وقطع الماء، وتحويلُ جمعياتٍ زراعية إلى نقاطٍ عسكرية. في 2024 هُدِم 1760 بناءً، ونزح أكثر من 4250 إنساناً، وسُجّلت أكثر من 1400 حادثة عنفٍ استيطاني. هناك ما لا يقلّ عن 800 حاجزٍ ونقطة تفتيشٍ. توسّعُ منطقة ٪1 سيُفكّك الضفةَ ويربط «معاليه أدوميم» بالقدس عبر مصادرة 1214 هكتاراً وبناء أكثر من 4000 وحدة. يعيش اليوم أكثر من 500 ألف مستوطنٍ في الضفة و220 ألفاً في القدس الشرقية. خُطّة سموتريتش (يونيو 2024) نقلت إدارة 60٪ من الضفة المنطقة(ج) من الجيش إلى مؤسسات المستوطنين، مع أكبر مصادرةٍ للأراضي منذ 1993 في الأغوار (12700 دونم)، وتقنين خمس بؤرٍ وإقرار 5255 وحدةً سكنية. فيما سلّح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير أكثر من 120 ألف مستوطنٍ منذ بدء الحرب.

الفيتو الأمريكي مظلّةُ الحصانة
استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض عشرات المرّات لحماية «إسرائيل»، 45 فيتو حتى ديسمبر 2023، 33 منها تخصّ الاحتلال ومعاملة الفلسطينيين، و14 منذ 2001، فيما أصدرت المحكمةُ الجنائية الدولية مذكّرات اعتقال بحقّ نتنياهو ووزير دفاعه الأسبق (نوفمبر 2024) دون تنفيذٍ فعلي. ويؤشّر ذلك إلى أنّ القانون الدولي بلا مفعولٍ بلا إرادةٍ سياسية من القوى المهيمنة.

- لماذا فشلَ «الردع الدولي»؟ وهل تتكرّسُ أحاديةُ «إسرائيل» إقليمياً؟
كاباسّو والقيسية: العطبُ بنيويّ في النظام الدولي، مع حملةِ تجريمٍ واسعة لحركات التضامن الشعبية، يجعلُ الغربَ طرفاً فاعلاً في الإعفاء من المساءلة لا مجرد مشاهد.

حين تمسّ المصالح الإمبريالية.. يصبح القانونُ الدولي معطّلاً
سلسلةُ فيتوهاتٍ أجهضت قرارات وقف إطلاق النار رغم تأييدٍ كاسح في الجمعية العامة (153 صوتاً في ديسمبر 2023)، كما أن تجاهُلَ أوامر العدل الدولية والجنائية الدولية يُظهر عجزَ الآليات دون سندٍ سياسي.

تجريمُ المقاطعة وتوسيعُ تعريف «العداء لليهود»
جرى تسليحُ تعريف IHRA لمعاداة السامية لخلط اليهودية بـ»إسرائيل» وحماية نظام التفوّق الاستيطاني من النقد، وإلغاء فعالياتٍ أكاديمية وثقافية وملاحقة الطلبة وفصل الموظفين وسحب تأشيراتٍ.

تواطؤُ نُظمٍ عربية مُلحقة
وانخرطت أنظمةٌ عربية في مسار التطبيع والتمويل والتعاقدات الضخمة خلال المجزرة، من استثماراتٍ ضخمةٍ وتعاملاتٍ اقتصاديةٍ إلى صفقات غازٍ قياسية (اتفاق مصر -«إسرائيل» أغسطس 2025 بقيمة 35 مليار دولار) مع استمرار الإمداد والتعاون اللوجستي. كما طُرحت أجنداتُ نزع سلاحٍ شاملة تمتدّ من غزّة إلى لبنان وإيران، ما يعكس مشروعاً إقليمياً لتفكيك قدرات «محور المقاومة» عبر الانقسام المذهبي والتشرذم الداخلي.

هل ما غزّة سوى تمهيدٍ لحربٍ أوسع؟
يرى نتنياهو نفسه مؤتمناً على «إسرائيل الكبرى» بمدىً يتخطّى غزّة والضفّة إلى دولٍ عدّةٍ. ومنذ أكتوبر 2023 استثمرت «إسرائيل» الغطاءَ الغربي لإضعاف خصومٍ إقليميين واستهداف قياداتٍ إيرانية، وقُصف اليمن، وتمددت في سوريا، وعملت على فرض «وقائع» حدودية جديدة. لكنّ المواجهة مع إيران كشفت حدود القوة، والاشتباكاتُ المتقطعة تبقي احتمالاتِ الانفجار قائمةً، خصوصاً مع معادلاتٍ ميدانية تشمل حزب الله وأنصار الله واحتمال اتّساع الجبهات. إطالةُ الحرب لا تعني نصراً حاسماً؛ بل توليد تناقضاتٍ ومقاوماتٍ جديدة.

لماذا تُعدّ غزّة محوريةً لأمريكا؟ وكيف يخدمُ ذلك «بناء الإمبراطورية»؟
يُعيننا قولٌ لماو تسي-تونغ حين شبّه «إسرائيل» وتايوان بـ«قواعدَ للإمبريالية في آسيا» لفهم وظيفة «إسرائيل» في منظومة الهيمنة الأمريكية. بعد أفول الاستعمار الأوروبي، أمّمت الولايات المتحدة النظامَ العالمي على صورة «العولمة» لخدمة رأس المال الأمريكي. في هذا التصميم، للمنطقة العربية موقعُ القلب: النفطُ والربطُ المالي-العسكري: الملكياتُ الخليجية ضامنةُ «البترو-دولار»، و»إسرائيل» حارسها العسكري.

«إسرائيل»: الذراعُ المنفّذة لـ»الهيمنة»
قدّمت واشنطن منذ 1943 حتى 2023 نحو 160 مليار دولار دعماً لـ«إسرائيل»، ووقّع أوباما أكبر حزمةٍ مساعدات (33 ملياراً). لم تك «معوناتٍ» بالمفهوم التقني للكلمة بقدر ما هي استثمارٌ في جهاز ضبطٍ عسكري لتحقيق «الهيمنة الطيفية الكاملة» عبر الجوّ والبرّ والبحر والفضاء والمعلومة. تتقاطع الصهيونيةُ الدينية -القومية مع «الصهيونية المسيحية» لتوليد تحالفٍ عابرٍ للحدود يُشرعن الاستعمار والإبادة.

من «البناء» إلى «التراكم عبر الهدر»
بعد إخفاقات الاحتلال المباشر (العراق/ أفغانستان) وتنامي صعود الصين، تميلُ الاستراتيجيةُ الأمريكية إلى «التراكم عبر الهدر»: تحويل التدمير ذاته إلى اقتصادٍ مُربحٍ؛ قنابلُ، بنى مهدّمة، أسواقُ إعمارٍ مشروطة، وشبكاتُ مقاولاتٍ من «البنتاغون» إلى «وول ستريت»، تُبقي المجتمعات في حلقةِ أزمة-إعمار-اعتماد، وتمنع نشوء مشاريع سياسية مستقلة.
لذا فالدعمُ لإبادة غزّة اليوم هو أقصى تجلّيات الحفاظ على شروط إعادة الإنتاج الإمبراطوري، وسعي لـ«سايكس-بيكو» جديد يعيد رسم خرائط الجيوبوليتيك (الجغرافيا السياسية). الهدفُ النهائيّ: سحقُ أيّ تنظيمٍ سياسي مستقلّ -من حزب الله وأنصار الله إلى إيران- وإخضاع الفضاء الإقليمي لمنظومة أمنٍ-اقتصاد تقودها «إسرائيل»/ أمريكا.

صدامُ نظامين عالميين: «التخريب» مقابل «البناء»
يكتسبُ الدعمُ الأمريكي للإبادة معنىً رادعاً لكلّ بديلٍ عالمي قائمٍ على الشراكة والبناء -كما في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية- ذلك أنّ استقرارَ غرب آسيا يُهدّد منظومة البترو-دولار ويتيح مساراتٍ بديلةً. هكذا تتحوّل غزّة ومسرحُ المنطقة إلى مختبرٍ لاستراتيجية التخريب المُمنهج في زمن التعدّدية القطبية. 
هنا يستعيد تشبيهُ ماو لموقعَي «إسرائيل» وتايوان راهنيتَه: زعزعةُ غرب آسيا تخدمُ كبحَ الصين وتطويقَ ممرّاتها من حدودها الغربية عبر آسيا الوسطى إلى المتوسط. إذا نجحت الخُطّةُ الإمبراطورية -تفكيكُ السيادة وتصفيةُ المقاومة- فإنّ قوساً من الاضطراب سيطوّقُ الصين ويخنقُ بدائلَ الشراكة العابرة للقارّات. لذلك تتجاوز رهاناتُ غزّة مسألة تحريرَ فلسطين إلى مستقبل وشكل النظام العالميّ برمته.

نقلا عن «الأخبار»