دمشـق - خاص / لا ميديا -
ليس غريباً أو جديداً رؤية اليهود في سورية، حتى بالقلنسوة؛ لأن اليهود موجودون في دمشق، ومعظم المدن السورية الرئيسية، إلى وقت غير بعيد، وهم جزء من تاريخ دمشق تحديداً.
ففي دمشق القديمة، كان يوجد حارة لليهود الدمشقيين، وتعرف حتى الآن بالاسم نفسه. كما كان ليهود دمشق تواجد كبير في بلدة جوبر، بجوار دمشق. ويوجد في هذه البلدة أحد أهم الكنس القديمة في العالم. ولهذا الكنيس مكانة خاصة عند اليهود، وكان فيه نسخة نادرة من التوراة، وتم نقل محتوياته (إلى جهة مجهولة) خلال الأزمة السورية، ووقوع الحي تحت سيطرة المجموعات المسلحة، خلال تلك الفترة. ومن المشاهد الطبيعية في دمشق، رؤية الكنس، وبعض الرموز اليهودية على بعض الأبنية والمنشآت خاصة القديمة منها، مثل النجمة السداسية، التي يعتبرها المؤرخون جزءاً من التاريخ السوري يسبق رسالة النبي موسى بمئات السنين.
كما كان اليهود يشكلون جزءاً أصيلاً من المجتمع الدمشقي والحلبي ومدن أخرى، وكان منهم رجال أعمال وتجار وصناعيون وأطباء ومهندسون، وبيوتهم كانت تشكل نموذجاً للبيت الدمشقي العريق، وتحول العديد من هذه البيوت بعد هجرتهم إلى مطاعم وفنادق فاخرة.
كما تقول كتب التاريخ الدمشقي بأن عائلات دمشقية كبيرة ومعروفة كانت يهودية، وغيرت ديانتها، خلال مراحل متعددة من التاريخ، إلى الديانتين المسيحية والإسلامية، وتشكل هذه العائلات اليوم جزءاً مهماً من المجتمع الدمشقي.
بقي اليهود على هذا المشهد حتى قيام الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وقيام الحركة الصهيونية بمحاولات نقل اليهود إلى الكيان الجديد. ونجحت بنقل جزء من اليهود السوريين؛ لكن معظم يهود سورية فضلوا الذهاب إلى الولايات المتحدة، وخاصة إلى حي بروكلين في نيويورك، حيث توجد هناك جالية يهودية سورية معتبرة، ولا يزال معظمهم يحتفظون بجنسيتهم، وواصلوا لقاءاتهم مع البعثة السورية في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، والسفارة السورية في واشنطن، ويعربون دائماً عن اعتزازهم بسوريتهم، وأنهم يعتبرون أنفسهم سوريين.
بعد تلك المرحلة، بقي في دمشق أقل من عشرة آلاف يهودي. وكان يتمسك الرئيس الراحل حافظ الأسد ببقائهم، واستمروا على هذه الحالة حتى تدخلت الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية، بكل قوة، للسماح لهم بمغادرة سورية؛ لكن معظمهم غادروا حينها إلى الولايات المتحدة وليس إلى فلسطين المحتلة، وبقي في دمشق حتى الآن عدد قليل جداً من اليهود يعدون بالعشرات.
ومن ميزة التواجد اليهودي في دمشق، وبقية المدن السورية، أنه لم تسجل في تاريخ هذا التواجد أي عمليات تمييز، أو أحداث اعتداء، ضد المكون اليهودي، على أسس دينية.
استفضنا بهذه المقدمة لنؤكد أن التواجد اليهودي في سورية ليس غريباً عنها، ولا جديداً عليها؛ لكن وجودهم الذي كان سابقاً على أسس المواطنة، وباعتبارهم جزءاً من المجتمع السوري، أصبح اليوم قائماً على أسس سياسية نجمت عن التغيير الدراماتيكي الذي حصل في سورية مع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد.
لم يطل الوقت بعد التغيير في دمشق، حتى بدأت القنوات ووكالات الأنباء تنقل أخباراً عن وفود تزورها بصفتها اليهودية، بعضهم يهود من أصول سورية، وبعضهم قدموا في زيارات شبه رسمية، وفي مهمات سياسية، وليس سراً أن بعض هؤلاء يحملون الجنسية "الإسرائيلية".
وما يميز هذه الزيارات أنها لم تكن سرية، ويتم الإعلان عنها وبشكل رسمي، خاصة وأن معظم هذه الوفود تلتقي رئيس السلطة الانتقالية في دمشق، أحمد الشرع، وأعضاء في حكومته، ويدلون بتصريحات حول زياراتهم وانطباعاتهم، تتناقلها وكالات الأنباء.
وليس سراً أن وفوداً أخرى تأتي بدون أن يتم الإعلان عنها، حيث تتطلب كواليس العلاقات السياسية والدبلوماسية، أو طبيعة المهمات التي تحملها بعض الوفود، عدم الإعلان عنها.
كما تحدثت وكالات أنباء، وتقارير إخبارية من جهات تتصف بالدقة والمصداقية، عن لقاءات سورية "إسرائيلية"، بعضها على الحدود، وبعضها في دمشق، وداخل فلسطين المحتلة، أو في دولة ثالثة، مثل تركيا والإمارات وأذربيجان.
وإذا كان من الطبيعي أن يقوم اليهود السوريون بزيارة بلدهم الأصلي، وأن يتم استقبالهم والاهتمام بزيارتهم؛ إلا أن ما يميز زيارات الوفود الأخرى، سواء العلنية أو السرية، أنها تحمل الطابع السياسي، ويتجاوز دورها ومهمتها محاولة التعرف على نتائج التغيير في مؤسسات السلطة السورية، لتتمحور حول هدف محدد، وهو بحث عملية السلام والتطبيع بين سورية والكيان "الإسرائيلي"، ودخول دمشق في اتفاق الديانة الإبراهيمية.
آخر هذه الزيارات العلنية كانت زيارة الحاخام إبراهيم كوبر، من مركز "سيمون فيزنتال" اليهودي، المعني بحقوق الإنسان والحوار بين الأديان في الدول العربية، والمعروف بقربه من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد زار الحاخام كوبر دمشق برفقة القس جوني مور، الذي كان مستشاراً للبيت الأبيض خلال ولاية ترامب الأولى.
التقى الرجلان رئيس السلطة الانتقالية في دمشق، أحمد الشرع، وقال مور إن الزيارة "لم تهدف إلى مناقشة العلاقات المحتملة مع إسرائيل؛ غير أن الموضوع طُرح".
وتوقع القس مور والحاخام كوبر أن "تشهد العلاقات السورية - الإسرائيلية، تطورات إيجابية نحو التطبيع بين الطرفين، على ضوء الانفتاح الذي تبديه السلطات الجديدة في دمشق نحو الغرب".
وذكر كوبر أنهما التقيا برجال دين مسيحيين سوريين، وتجولا بحرية في شوارع دمشق، وهو يرتدي القلنسوة اليهودية، بدون أن تحدث أي مشكلات.
زيارة الحاخام كوبر والقس مور لدمشق ليست الأولى لوفود مشابهة، ولن تكون الأخيرة، ويتوقع أن تشهد مثل هذه الحركة نشاطاً كبيراً في المرحلة المقبلة، حيث تؤكد كل المؤشرات أن دخول السلطات الجديدة في دمشق في مرحلة "السلام والتطبيع"، و"الاتفاق الإبراهيمي"، يحتاج فقط إلى خطوة واحدة للخروج إلى العلن.