وفي الليلة الظلماء يسطع بدرك يا سيّد الشهداء!
لقد كان سماحة السيد، رضوان الله عليه، بلسماً للجراح النازفة، وطبيباً للأجساد المُتعبة، معلّماً في زمن يُراد أن يعمّ فيه الجهل، tوموجّهاً في زمن تكثُر فيه الفتن، وتنتشر فيه الأكاذيب، وقائداً أممياً يتجاوز بسماحته وخلقه كل الطوائف والأعراق والألوان.
في هذا اليوم الخالد، نفتقد سماحته بكل ما للكلمة من معنى؛ كيف لا وهو الذي تعوّدنا على طلّته البهيّة، وكلماته الشجيّة، وابتسامته الساحرة؟! كيف لا نفتقده وقد كان قنديلنا في وسط الظلام، وبنياننا في وسط الدمار، وسدّنا المنيع في وجه الإعصار؟!
في هذه الساعات الفارقة من تاريخ شعبنا والمنطقة والأمة جمعاء، وبعد أن توقّف سفك الدماء في قطاع غزة المنكوب، حيث أزهقت أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وأصيب عشرات الآلاف الآخرين بجروح وندوب قد لا يشفيها تقادم الأيام، ودمّر وخرّب كل ما يمتّ للحياة بصلة، كم كنّا نتمنّى أن يكون بيننا ومعنا سيّد شهداء طريق القدس، والذي أشهر سيفه الحسيني، رغم كل المخاطر، للدفاع عن غزة وأهلها، في حين تخلّى عنها الجميع، وتنكّر لها البعيد والقريب، وأدار لها من تربطه بها أواصر الدم والنسب والدين ظهره، في أسوأ خذلان عرفته البشرية جمعاء، وانشغل في لهوه ولعبه من دون أن يحرّك ساكناً.
في هذه الساعات المجيدة، واجب علينا أن ننسب الفضل إلى أهله، إلى الذين قدّموا دماءهم وأشلاءهم من دون منّة، وصنعوا من لحمهم حمم غضب ضربوا بها وجه القاتل، بل وصفعوا بها وجوه كل من تآمر وتخاذل وخان.
من الواجب علينا أن نوجّه الشكر من دون خجل أو وجل لمن ضحّى وبذل، وقدّم وأعطى، وقاتل بكفيه العاريتين أقوى آلة حربية في المنطقة، وواجه بجسده العاري، وسلاحه المتواضع، كل جبروت الأعداء، وآلة حربهم المجرمة.
اليوم، يجب أن نصدح بالحقيقة التي يخشاها البعض، ويتحاشى ذكرها البعض الآخر، لحسابات ضيّقة ومصالح حزبية وفئوية مقيتة، تلك الحقيقة التي تقول إن ما بذله رجال الله في لبنان، وفي المقدّمة منهم قائدهم ومعلمهم وحبيبهم، رضوان الله عليه، أسهمت في وقف المقتلة العظيمة في غزة، والتي كان يُراد لها أن تستمر إلى ما لا نهاية، وأسهمت جهودهم البطولية في زيادة الضغط على «جيش» العدو وإشغاله، بما منعه من تحقيق أهدافه، وحرمانه من خيار الاستفراد بغزة وأبطالها الميامين، والذين يعلمون علم اليقين أهمية الدور الذي لعبه إخوانهم في لبنان، إلى جانب باقي جبهات الإسناد في اليمن والعراق والجمهورية الإسلامية في إيران.
في هذا اليوم المجيد، يعزّ علينا يا سيدي أن نحتفل من دونك، وأن نعاين ثمرة جهودك وأنت بعيد عنّا، يعزّ علينا أن نفتقدك حيث كنّا نجدك على الدوام؛ ولكن هي إرادة الله، الذي اختارك لتكون إلى جواره بعد هذه الرحلة الطويلة من التعب والجهد والجهاد.
نقول اليوم إن هذا النصر هو نصرك يا أبا هادي، نصر أبنائك وأحبابك وجنودك، نصر مقاتليك في بنت جبيل والعديسة ومارون الراس والخيام والناقورة، نصر أبنائك في الشجاعية والزيتون ورفح وخان يونس والوسطى، نصر أحبابك في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، نصر المخلصين في اليمن والعراق وإيران، نصر كل الأحرار في المنطقة والعالم، في الأردن وسورية وتونس والجزائر، في مصر وتركيّا وماليزيا وباكستان، في جامعات أميركا وبريطانيا وفرنسا، الذين عدّوك، ولا يزالون، أيقونة للكفاح، ورمزاً للمقاومة، ونبراساً للحرية.
عزاؤنا يا سيدي أنك ترقب كل ما يجري من السماء، حيث حواصل طيرٍ خُضرٍ في الجنة؛ كيف لا ونحن نؤمن بقول ربنا عز وجل بأن الشهداء لا يموتون، ولا يذهبون إلى الفناء، بل تبقى أرواحهم الشريفة ترفرف فوقنا، تمنحنا الأمل، وتمدنا بالعزيمة، وتدفعنا إلى الاستمرار، مهما بلغت التضحيات؟!
أحمد عبد الرحمن -  كاتب في الشأن السياسي والعسكري


كل المدائن رهن الجرح
حسين العماد
لا تبتئسْ، سيموتُ الناسُ يا «حسَنُ»
وأنت وحدَك حيٌّ دأبُك الزمنُ

بيروتُ تشربها الأحزان ظامئةً
من بعد غَيثِك لا شعبٌ ولا وطنُ

تبكي «الشآمُ» على يُسراك ما ذرفتْ
يُمناك يُمناك، تهمي عندها «اليمنُ»

كل المدائنِ رهن الجرحِ، كدتُ أرى
«صنعاءَ» لا تمتري في ضمِّها «عَدَنُ»

من قال إنكَ متَّ الآن؟! بل صعدتْ
للخُلد روحُك، فاهنأ أيها السَكنُ

يا من سمَوتَ سُموّاً لا انتهاءَ لهُ
حتى ابتدأنا يُواسي بعضَنا الشجَنُ

ما زلتُ أنزفُ دمعي كي يجفّفَهُ
من كبرياء المَراثي ذلكَ الحَزَنُ

ما للبطولاتِ بعد الأمس ذابلةٌ
فأنت واحدُها مهما ادَّعى الوثَنُ

مرَّغتَ في الوَحلِ آنافَ اليَهودِ ولم
تخفْ جحافلَهم والكون مُرتهَنُ

الخاذلُونَ كثيرٌ ليتَهم عرفوا
قبل التخاذل يوماً ما هو الثمنُ

عشرين عاماً تقودُ النصر تسبقها
عشرُونَ مذ لحقتْ أنصارَكُ السُّنَنُ

نَصرٌ من اللهِ مذ أوحاهُ خالقُهُ
لم ينهزمْ بلدٌ فينا، ولا بَدنُ

فاخلد فديتُك في عينيَّ مبتهجاً
حتى يواريَ غلَّ القاتلِ الكفَنُ

غداً سيولدُ مزهوّاً بنا «حَسَنٌ»
وينصر اللهَ من تأييدِهِ «حَسَنُ»


إلى ذلك التاريخ الذي سنرتدي فيه الحزن الأليم
علوي الغريفي
كلُّ التواريخِ في عينيَّ أرقامُ
وأنت وحدك في عينيَّ أيتامُ

سنحذف الياءَ في الأيام نُبْدلُها
بحسرة اللام فالأيامُ آلامُ

كأنّ يومَ نفير الحجّ ضاحيةٌ
مثكولةٌ والثيابُ السودُ إحرامُ

كأنّ رأسَ حسينٍ بالرماح مشى
تقوده زينبٌ والوجهةُ الشامُ

يا أيها الموتُ خذنا قبل موعده
فقد تبقّت على التشييع أيامُ

لا يسعفُ الصبرُ لو مرت جنازته
شرّعْ لنا الصبرَ إذ للصبر أحكامُ

خذنا لكي لا نرى تابوتَ سيدِنا
ترفّ جنبيه راياتٌ وأعلامُ

الوقت يمشي دموعاً رهبةً وجعاً
ما ثمّ في الوقت بعد اليوم أرقامُ

يا سيّد الروح عُدْ فالبعدُ يقتلنا
وقل لنا إنّ هذا الفقدَ أوهامُ

أن نرفعَ النعشَ علِّمْنا فأنت لَكَمْ
علّمتَنا كيف عِزّاً يُرفع الهامُ

وقل لنا كيف نبكي الآن كيف تُرى
لم يُبقِ فينا دموعاً ذلك العامُ!



استهلال دمع
نشوان دماج
عنفوان الذهاب إلى الموعد الحق، حيث الحقيقة والجسد المتضمخ بعطر الشهادة يمتزجان معاً، مثل أغنية لحنُها أنت، وجهتها أنت، ريحانُها، رَوحُها، منتهاها... هكذا يحضر الشعر متئدَ الخطو تلقاء ضاحية الطهر والصلوات، يزف الشهيد إلى أمه الأرض، كي تستعيد توازنها ألقاً ومقاومة وانتماء، فللشعراء مكان بعرسك يفترشون مدامعهم أن مثلك تبكي عليه السماء، وللأرض يا سيد الأرض أنك وحدك سيدها، مثلما أنت وحدك في كل شيء، فسلام عليك وحيداً، وسلام عليك شهيداً، وسلام عليك... سلام عليك...


أنبل العرب.. سرّ الشهيد نصر الله
وفي السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2024، قَدَّمَت المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، والأمتان العربية والإسلامية، وقوى الثورة العالمية، التضحية الأقصى والأقسى والأكبر والأصعب والأغلى، من أجل تحرير فلسطين، ودفاعاً عن الأمة، ومن أجل تحريرها ووحدتها. ونعرف يقيناً، لا شك فيه، أنه ليس بعد هذه التضحية، ولن يكون أبداً، ما هو أكبر أو أصعب أو أغلى أو أشد إيلاماً ووجعاً على أمتنا أن تقدمه على هذا الطريق الصعب والطويل والمؤلم. ولأن أمتنا قدمت، بشهادة السيد نصر الله، أكثر مما قدمت أو يمكن أن تقدم أو أن تضحي في أي وقت قبلها أو بعدها، فإننا نعرف يقيناً أيضاً أنه رغم صعوبة المعركة وأوجاعها، ورغم التضحيات الهائلة التي دفعت أمتنا أغلاها وأصعبها وأكبرها وأشدها إيلاماً ووجعاً باستشهاد سيد المقاومة، أن حلمه بالصلاة في القدس وتحرير فلسطين والأمة أمامنا بلا شك، وأقرب إلينا بفضله من أي وقت مضى، وأن دمه الشريف جعل أفق هذه المسيرة ومسارها أكثر وضوحاً وبياناً ويقيناً لمن لم يختم الله «على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة».
في السابع والعشرين من أيلول، نال منا العدو كما لم ينل منا من قبل، وكما لن ينال منا من بعد، وآلمنا جداً، وجرح قلوبنا عميقاً جداً كما لم يحصل لنا من قبل، وكما لن يحصل لنا من بعد. كان الوجع كبيراً جداً، وسيظل معنا أبداً، وكان الجرح عميقاً جداً وسيظل محفوراً كالوشم في قلوبنا أبداً. فنحن لم نعشق حد القداسة زعيماً عربياً وقائداً مقاوماً بحق كما عشقنا شهيدنا الأعز والأحب. وإن كان لهذا الفقد وهذا المصاب العظيم من عزاء، وليس في كل هذا العالم من عزاء ولن يكون، فهو أن شهيدنا الأعظم رحل إلى جوار ربه، وترك المقاومة وترك الأمة في مكان أفضل كثيراً، أقوى كثيراً، ومتقدم جداً، في مواجهة الأعداء، لم نكن حتى لنحلم أن نكون فيه في أي يوم قبله أو قبل قيادته لحركة التحرر العربية. وإن كان لهذا الفقد ولهذا المصاب العظيم من عزاء، ولن يكون، فهو أن السيد ترك خلفه الإنجاز الأعظم لأي قائد عربي ومسلم لقرون خلت. كان السيد نصر الله، بلا جدال ولا مبالغة، القائد العربي والمسلم الأعظم والأكثر عبقرية لقرون خلت، وقدم خلال حياته الشريفة الإنجاز الأعظم في تاريخ الفكر والفعل الثوري العربي والإسلامي لقرون خلت، بل، وربما، الإنجاز الأعظم في تاريخ الفعل والفكر الثوري الإنساني كله في العصر الحديث. فالسيد الشهيد كان الصوت والعقل واليد الضاربة لمئات ملايين المهمشين والمضطهدين والمظلومين من العرب والمسلمين وغيرهم من إخوتنا في الإنسانية، الذين أريد لهم أن يظلوا أبداً خارج التاريخ، عبيداً في أحسن الأحوال لمن يبقى منهم على قيد الحياة، فأصبحوا معه وخلف قيادته النموذج الثوري الأعظم في التاريخ الحديث الذي يؤرق أعتى الإمبراطوريات.
د. سيف دعنا - كاتب عربي