ملف خاص / لا ميديا -
الهامات التي كنت تشمخ بها في السماء ها هي ذي، بحشودها غير المسبوقة وأعدادها التي أقبلت كالسيول من الأقطار والآفاق، تنحني وأنت تمر من أمامها مودعاً. كان لبنان، وكان العالم بأسره، على موعد مع هذا اليوم المشهود، والرؤوس تحمل نعشك حوله آلاف الأيادي الممتدة لالتماس ما يفيض به جسدك الطاهر من حياة.
الهامات التي لطالما مدّت إليك أعناقها مع كل خطاب وإطلالة منك، ها هي تمد إليك أعناقها في هذا اليوم وهي تشيّع موكبك المهيب، وداعا.
مَن يودّع مَنْ؟!
والعيون تراك تمرّ مَرّ السحاب
وهذي الرؤوس التي أقبلتْ كالسيول تحفّ بنعشك
طرتَ بها عالياً كالملائك
لا وقتَ يا سيدي كي أرى مَن يودّع مَنْ
فاسترح كالحسين وقد أثخنته الجراح وعادت عوادي الزمنْ
استرح مثلما يستريح الدّمُ المتوهِّجُ نصراً وقدساً
ومثواك عما قليل سيزهر ألف حسنْ
من يودع من؟!
والزمان توقف في لحظة النعش حتى كأنَّ الحشود استوت في الرحاب المقدس
كيف ستقوى على حمل نعشك؟!
كيف سيقوى التراب على أن يعانق هذا الوطن؟!
نشــوان دمــاج


في مشهد غير مسبوق سيظل محفوراً في ذاكرة الأجيال القادمة كعلامة فارقة في مسيرة العز والوفاء، ودّع لبنان والأمة، أمس، الأمينين العامّين السابقين لحزب الله، السيد الأممي والقائد التاريخي السيد الشهيد حسن نصر الله، والسيد الشهيد هاشم صفي الدين، اللذين استشهدا بغارات «إسرائيلية» غادرة خلال العدوان على لبنان.
التشييع، الذي يُعد الأكبر والأضخم في تاريخ لبنان والمنطقة، وصفه مراقبون بأنه سيبقى حياً في القلوب والعقول، وأن كل لحظة من مراسم تشييع الشهيدين نصر الله وصفي الدين، تجسد عهداً جديداً لا ينتهي بالاستشهاد.
وانطلقت مراسم التشييع وسط استفزازات من الطيران «الإسرائيلي» المعادي، الذي خرق الأجواء اللبنانية وعلى علوّ منخفض جداً فوق مراسم التشييع في المدينة الرياضية ببيروت.
وفيما فاضت المدينة الرياضية وشوارع بيروت ومحيطها بمحبي السيّدين ومؤيدي حزب الله من لبنان وإيران والعراق واليمن وتونس ومن مختلف دول العالم، وسط تدابير أمنية كبيرة وحضور رئيس مجلس النواب نبيه بري ممثلاً رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، ووزير العمل محمد حيدر ممثلاً رئيس حكومة البلاد نواف سلام، بدأت مراسم التشييع بتلاوة آيات من القرآن الكريم والنشيد الوطني اللبناني ونشيد حزب الله، ثم تلته كلمة للمرشد الإيراني السيّد علي الخامنئي ألقاها ممثله في العراق مجتبى الحسيني أكد فيها أن «المقاومة ومواجهة الاستكبار باقية ولن تتوقف حتى بلوغ الغاية المنشودة».
ووصفت سماحة الشهيد نصر الله بـ»المجاهد الكبير وزعيم المقاومة الرائد في المنطقة». وقال الإمام الخامنئي: «لقد بلغ (السيد الشهيد نصر الله) الآن ذروة العِزّة. جثمانه الطاهر يُوارى الثرى في أرض الجهاد في سبيل الله؛ ولكنّ روحه ونهجه سيتجلّى شموخهما أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، إن شاء الله، ويُنيران درب السالكين». مضيفاً أن «الوجه النوراني لسماحة السيد هاشم صفي الدين هو أيضاً نجم لامع في تاريخ هذه المنطقة وجزء لا يتجزأ من قيادة المقاومة في لبنان».
وختم رسالته قائلاً: «سلامُ الله وسلامُ عباده الصالحين على هذين المجاهدين الشامخين، وعلى سائر المجاهدين الشجعان، الذين ارتقوا شهداء في الآونة الأخيرة، وعلى شهداء الإسلام جميعهم. وأخصُّكم بسلامي، يا أبنائي الأعزاء، شباب لبنان البواسل».

دخول النعشين
بعد ذلك دخل النعشان على عربة خاصة وُضع عليها العلم اللبناني وعلم حزب الله، ووُضعت عليهما عمامتا السيدين. واستقبلتهما الحشود بهتافات: «لبيك يا نصر الله» وبالدموع. وبينما كان النعشان يجولان بين الحضور مع بثّ كلمات للشهيد السيّد حسن نصر الله، نفذ طيران العدو الصهيوني تحليقاً على علو منخفض فوق المدينة الرياضية، ما دفع المشاركين إلى إطلاق الصرخات والهتافات المنددة: «الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا، لبيك يا نصر الله».
وأمّ عضو مجلس الشورى في حزب الله الشيخ محمد يزبك الصلاة على جثماني الشهيدين السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين.

الشيخ قاسم: سنحفظ الأمانة ونكمل الطريق
وخلال مراسم التشييع، ألقى أمين عام حزب الله، سماحة الشيخ نعيم قاسم، كلمة مؤثرة خاطب فيها الجماهير قائلاً: «أخاطبكم باسم أخي وحبيبي ومقتداي السيد حسن نصر الله، السلام عليكم يا أشرف الناس وأوفى الناس وأكرم الناس، يا من رفعتم رؤوسنا عالياً».
وأضاف: «نودّع اليوم قائداً تاريخياً استثنائياً، قِبلة الأحرار في العالم، وحبيب المجاهدين والمستضعفين والمعذّبين في الأرض، رجلاً قاد المقاومة إلى الأمة، وقاد الأمة إلى المقاومة، وكانت وجهته دائماً فلسطين والقدس».
وأشار إلى أن السيد نصر الله تولّى رئاسة المجلس التنفيذي لحزب الله عام 1989 ثمّ الأمانة العامة عام 1992 واستمرّ في قيادته حتى شهادته، مؤكداً أن «هذا الرجل العظيم ذاب في الإسلام والولاية، كان صادقاً، وفياً، حنوناً، كريماً، متواضعاً، صلباً، شجاعاً، حكيماً، استراتيجياً، وحبيباً للمقاومين».
وتابع الشيخ قاسم: «أفتقدك يا سيدي، ويفتقدك كل المحبين؛ لكنك باقٍ فينا بنهجك وتعاليمك وجهادك، وسنحفظ وصيتك، وسنكمل هذا الطريق حتى لو قُتلنا جميعاً ودُمّرت بيوتنا على رؤوسنا»، مضيفاً: «السيد نصر الله، حبيب المقاومين، وجهته فلسطين والقدس، واستشهد في موقع متقدّم».
وأكد أن حزب الله سيواصل الدفاع عن القضية الفلسطينية، مشدداً على الدور العظيم الذي أدّاه السيد نصر الله في إحيائها، ومؤكداً أن الأمانة ستظل محفوظة، والمسيرة مستمرة.
كما أعرب الشيخ قاسم عن افتقاده للسيد هاشم صفي الدين قائلاً: «كان صفياً وحبيباً وصاحباً ومؤازراً وعضداً. نفتقدك علماً لمسيرتنا؛ لكنك باقٍ فينا بنهجك وعطاءاتك»، متوجّهاً بالتعزية والتبريك لعائلات السيديْن الجليليْن ومن استشهد برفقتهما وشهداء المقاومة وللمنتمين والمُحبّين.
كما توجّه بالتحية إلى الأسرى في سجون الاحتلال، قائلاً: «لن نترككم عند العدو، وسنبذل كل الجهود للإفراج عنكم».
ولفت الشيخ قاسم إلى أن حجم الإجرام «الإسرائيلي» كان غير مسبوق، مضيفاً: «هدف العدو كان إنهاء المقاومة في غزة ولبنان؛ لكن حجم التضحيات كان عظيماً، والصمود كان استثنائياً، وهذا إنجاز كبير».
كما شدد على أن الحشد الجماهيري اليوم هو تعبير عن وفاء قلّ نظيره في تاريخ لبنان، مؤكداً أن معركة إسناد غزة هي جزء من الإيمان بتحرير فلسطين.
وفي سياق المواجهة مع الاحتلال، قال: «واجهنا الكيان الإسرائيلي والطاغوت الأكبر، أميركا، التي حشدت كل إمكاناتها لمواجهة محور المقاومة؛ ولكننا أثبتنا صمودنا». وأضاف: «المقاومة موجودة وقوية عدداً وعدة، وشعبنا صامد، والآن دخلنا في مرحلة جديدة تختلف أدواتها وأساليبها».
وأوضح الشيخ قاسم أن حزب الله وافق من منطلقات استراتيجية على طلب العدو وقف إطلاق النار، مضيفاً: «التزمنا بالاتفاق؛ لكن إسرائيل لم تلتزم، وهنا تبدأ مسؤولية الدولة اللبنانية بعد انتهاء مهلة الاتفاق لانسحاب العدو».
وأكد أن المقاومة مستمرة، قوية بحضورها وجهوزيتها، وهي حق لن يستطيع أحد سلبه، مشدداً على أن «إسرائيل» يجب أن تنسحب من جميع المناطق التي لا تزال تحتلها.
وقال: «اتخذنا خطوة واضحة، وهي أن تتحمل الدولة اللبنانية مسؤولياتها، وسنتصرف وفقاً للظروف، نطلق النار متى نرى مناسباً، ونصبر متى نرى مناسباً».
كما أكد أن المقاومة تُكتب بالدماء ولا تحتاج إلى الحبر على الورق، موجهاً رسالة إلى العدو: «موتوا بغيظكم، المقاومة باقية وقوية ومستمرة». وأشار إلى ثوابت المرحلة الجديدة، مشدداً على أن المقاومة هي الأساس، وستبقى خياراً ما دام الاحتلال قائماً. كما شدد على التزام الحزب بالمشاركة في بناء الدولة اللبنانية القوية والعادلة تحت سقف اتفاق الطائف، قائلاً: «نحن حريصون على وحدة الوطن، والسلم الأهلي، ومشاركة الجميع في بناء الدولة».

الوداع الأخير
بعد اكتمال مراسم التشييع في المدينة الرياضية، تم نقل جثماني الشهيدين إلى ضاحية بيروت الجنوبية، حيث وُوري جثمان السيد حسن نصر الله في مرقده الخاص الذي سيظل رمزاً للصمود والتحدي في مواجهة الطغاة. أما جثمان السيد هاشم صفي الدين فسيتم نقله إلى مسقط رأسه في دير قانون النهر في جنوب لبنان، حيث سيُدفن اليوم الاثنين بحضور رسمي وجماهيري.
وشقّت الشاحنة التي حملت جثماني الشهيدين طريقها بصعوبة وسط الحشود الجماهيرية التي تقاطرت من كل حدب وصوب، لتودع قائديها، حيث كانت الشاحنة تمر ببطء، في مشهد مؤثر، حيث تتابع الأيدي المرفوعة من بين الحشود، والعيون التي تفيض بالدموع.
وتميز الحضور بتنوعه، حيث ضم أبناء مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية، ما يعكس وحدة لبنان في مواجهة التحديات.

إجراءات أمنية
تشير التقديرات إلى أن عدد المشاركين في التشييع تجاوز المليون و400 ألف شخص، بينهم نحو 400 ألف قدموا من نحو 79 دولة عربية وإسلامية وأجنبية، وفقاً للجنة المنظمة لمراسم التشييع.
وتكفلت اللجنة العليا لتنظيم مراسم التشييع بنصب 100 ألف كرسي داخل المدينة الرياضية، و60 ألف كرسي خارج المدينة الرياضية، لاستيعاب العدد الغفير من المشيعين.
وجرت مراسم التشييع ضمن تدابير أمنية مشدّدة اتخذها حزب الله والأجهزة الأمنية اللبنانية. وحثّ منظّمو التشييع الكبير على عدم إطلاق النار، وعدم التدافع، حفاظاً على السلامة.
ونُشرت فرق صحية ومستشفيات نقّالة وفرق إنقاذ وإطفاء على الطرق المؤدية إلى التشييع، مع تخصيص مسارات خاصة للسيارات ومواقف للقادمين من خارج العاصمة، فيما طلب من الوافدين من الضاحية الجنوبية السير على الأقدام بسبب إغلاق بعض الطرق أمام المركبات.
وأصدر وزير الدفاع اللبناني، ميشيل منسى، قراراً بتجميد تراخيص حمل الأسلحة في لبنان من 22 إلى 25 شباط/ فبراير الجاري. كذلك أعلن الجيش اللبناني من جهته وقف العمل بتراخيص التصوير عبر الطائرات المسيّرة من مساء السبت حتى مساء الأحد.
وتمّ تعليق الرحلات الجوية في مطار بيروت الدولي من الساعة الـ12 ظهرا حتى الساعة الـ4 من بعد ظهر أمس الأحد.
ودعت السفارة الأميركية رعاياها إلى تجنب المنطقة، حيث تقام مراسم التشييع، بما فيها المطار.