اليمن بالحبر الغربـي - 
عمليات قوات ‎صنعاء البحرية ضد السفن المرتبطة بإسرائيل توسعت للتو في البحر الأبيض المتوسط، وهو الممر المائي الأوراسي الذي يعتبره الناتو منذ فترة طويلة مجالاً خاصاً به، وموطناً لمنصات النفط والغاز الإسرائيلية.
ونفذت تلك القوات أول عملية مباشرة لها ضد إسرائيل في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وشملت تلك العملية صواريخ كروز وطائرات بدون طيار استهدفت ميناء ‎إيلات في جنوب فلسطين المحتلة، حيث جاءت بعد أقل من أسبوعين من عملية المقاومة الفلسطينية. لقد قلب «طوفان الأقصى» السيناريو في غرب آسيا.
وتلا ذلك هجمات مماثلة بإطلاق نار سريع، مع مزيد من التحذيرات من الجيش اليمني بأنه «سيواصل تنفيذ هجمات نوعية بالصواريخ والطائرات بدون طيار حتى يتوقف العدوان الإسرائيلي». وبعد شهر واحد، وفي خضم المذبحة المتفاقمة في ‎غزة، بدأت صنعاء استهدافها لسفن الشحن المرتبطة بإسرائيل والمتجهة إلى ‎البحر الأحمر، مما أدى فعليا إلى منع مرورها عبر مضيق باب المندب.
كان ذلك بمثابة المرحلة الأولى في اليمن من سلسلة من العمليات البحرية المخططة بدقة. وشهدت المرحلة الثانية حظراً أوسع نطاقاً، حيث منعت سفن أي دولة من الاقتراب من الموانئ الإسرائيلية ــ حصار الممر المائي، تماماً كما تحمله ‎اليمن على مدى ثماني سنوات. ثم اتسع نطاق عمليات صنعاء في المرحلة الثالثة ليشمل المحيط الهندي، مستهدفاً السفن الإسرائيلية التي تبحر في طريق رأس الرجاء الصالح الأطول بكثير -حول القارة الأفريقية- لتوصيل البضائع إلى دولة الاحتلال.
ومع تصاعد التوترات، ولحماية ‎إسرائيل، قامت القوات البحرية الأمريكية والبريطانية بتشكيل تحالف متداعٍ من دول غير عربية، تحت اسم عملية «حارس الازدهار»، لضرب اليمن - البلد الذي دمره بالفعل ما يقرب من عقد من القصف السعودي الإماراتي المدعوم من الولايات المتحدة.
وقد أدى ذلك إلى رد فعل قوي وفوري من جانب القوات اليمنية، التي قامت بتوسيع نطاق أهدافها ليشمل الأصول البحرية الأمريكية والبريطانية، وفي وقت لاحق وسعت مسرح عملياتها إلى المحيط الهندي الشاسع. ولكن مع تزايد التهديدات الإسرائيلية بغزو وقصف رفح في الأيام الأخيرة، أعلنت صنعاء بدء مرحلة رابعة من التصعيد، وهو تصعيد كبير في ردها العسكري.
وتستهدف هذه المرحلة السفن الإسرائيلية أو تلك المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط، وفرض عقوبات شاملة على كافة السفن المرتبطة بالشركات التي تتردد على موانئ دولة الاحتلال. علاوة على ذلك، سيتم تطبيق الإجراءات على جميع سفن وشركات الشحن التي تقوم بتسليم البضائع إلى إسرائيل، بغض النظر عن وجهاتها. وهذا يمنعهم فعلياً من الوصول إلى جميع الممرات المائية اليمنية العاملة.
ويعد الإعلان عن هذه المرحلة الرابعة إشارة واضحة إلى توسيع منطقة الصراع لتشمل البحر الأبيض المتوسط وتشديد الحصار على إسرائيل التي تعتمد اقتصاديا على التجارة البحرية. فهو يشكل تحدياً متجدداً لتل أبيب وحلفائها، مما يزيد الضغوط، خاصة على واشنطن وشركائها الأوروبيين.
وتأتي هذه الخطوة الاستراتيجية بالتزامن مع مفاوضات وقف إطلاق النار المستمرة التي تشارك فيها حماس، التي تواجه ضغوطاً شديدة لقبول شروط مواتية لإسرائيل، وهي جزء من استراتيجية أوسع للتأثير على النتائج السياسية خارج حدود اليمن.
أما «دائرة النار» اليمنية -امتدادها البحري- فتشمل الآن البحر الأحمر، بحر العرب، خليج عدن، المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط. وعلى الأرض، ينصب تركيز صنعاء على التأثير في العمق الجغرافي لإسرائيل، وخاصة مناطقها الجنوبية المتاخمة للبحر الأحمر.
إن عمليات البث الأخيرة أظهرت طائرة بدون طيار انتحارية بعيدة تستهدف سفينة في البحر الأحمر، مزودة بكاميرا في مقدمتها. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك تقدم يمني كبير في استخدام الصواريخ المجنحة والصواريخ البالستية: وفقا لمحللين عسكريين، لأول مرة في التاريخ، تم نشر صواريخ بالستية مضادة للسفن ضد السفن المحمولة بحرا، وهو تقدم نوعي في حقيبة الحيل العسكرية لقوات صنعاء.
يتجلى ذلك بوضوح من خلال المقارنة بين العمليات التي قامت بها في بداية قراراتها وحتى نهايتها، العمليات في خليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، حيث تمكنت من مراكمة وتطوير قدراتها بشكل مستمر، سواء على مستوى القوة الصاروخية أو القوة الجوية بدون طيار، أو غيرها من الأسلحة البحرية، متجاوزة مختلف الدفاعات الأمريكية والأنظمة.
إخفاقات التحالفين الغربيين المكرسين لإحباط حصار اليمن لإسرائيل أصبحت واضحة للجميع. فمنذ أوائل نيسان/ أبريل، رفع العديد من قادة البحرية الأوروبية أيديهم على مرأى ومسمع من الجميع. قال جيروم هنري، قائد الفرقاطة الفرنسية المنتشرة في البحر الأحمر لمدة 71 يوماً متتالية -في 11 نيسان/ أبريل، إن سفينته استنفدت ترسانتها القتالية بالكامل، وبينما ستتوجه إلى الميناء لتجديد تلك الذخائر، فإن العودة لمواجهة مهمة مستحيلة.
وأكد أنه «لم نتوقع بالضرورة هذا المستوى من التهديد. كان هناك عنف غير مقيد. كان مفاجئاً للغاية وهاماً للغاية». ولا يتردد اليمنيون في استخدام الطائرات بدون طيار التي تحلق على مستوى الماء، وتفجيرها على السفن التجارية، وإطلاق الصواريخ البالستية». وصرح هنري لصحيفة «لوفيجارو» الفرنسية: «كان علينا تنفيذ ما لا يقل عن ست عمليات مساعدات في أعقاب الهجمات اليمنية».
وفي أوائل نيسان/ أبريل أيضاً، حذر الأدميرال فاسيليوس جريباريس، القائد اليوناني لعملية «أسبيدس» التابعة للاتحاد الأوروبي، من أن مهمته لن تنجح مع وجود ثلاث سفن حربية فقط متاحة لحماية الشحنات عبر مضيق باب المندب. وأعرب جريباريس عن أسفه لأنه «منذ إطلاق عملية أسبيدس في 19 شباط/ فبراير 2024 وحتى الآن، ظل مستوى التهديد على حاله».
إخفاقات النظام الدفاعي الأمريكي، والمخاطر المتزايدة التي تواجهها التحالفات البحرية المناهضة لليمن، «أجبرتها وحلفاءها على سحب أكثر من 18 سفينة من مسرح العمليات، فيما ارتفع عدد السفن الأمريكية». وبلغ عدد السفن التي غادرت 10، فيما غادرت ثماني سفن أوروبية.
وكشفت أن التطور السريع للقدرات العسكرية لصنعاء خلال الحرب المستمرة جعل اليمن لاعباً محورياً ليس فقط على المستوى الإقليمي؛ ولكن على المستوى العالمي، وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي الذي يشرف على أحد أهم الممرات البحرية في العالم.
هذا الحصار يمثل بدوره نقطة ضغط كبيرة ضد تل أبيب وحلفائها الغربيين، الذين فشلوا في حماية مصالحهم في البحر الأحمر أو التصدي لحظر صنعاء على السفن التي تدخل موانئ دولة الاحتلال.
وبعيداً عن كونه مجرد منطقة منعزلة سياسياً وعسكرياً، فقد أظهر اليمن قدرات عسكرية بعيدة المدى وتخطيطاً استراتيجياً مثيراً للإعجاب أربك أعظم القوى البحرية في العالم. إن مناورات صنعاء الهائلة في المناطق البحرية في غرب آسيا دفعتها إلى طليعة محور المقاومة في المنطقة باعتبارها العضو الأكثر قدرة على التأثير في الأمن البحري العالمي والاستقرار الإقليمي.
وبينما تتجمع الولايات المتحدة وحلفاؤها حول «رصيف المساعدات» الذي تم تشييده حديثاً على ساحل البحر الأبيض المتوسط في غزة، كما يعتقد الكثيرون، لتعزيز المنطقة كموقع مستقبلي للعمليات العسكرية الأمريكية وحماية منصات النفط والغاز الإسرائيلية، فإن اليمن يبرز كخط مواجهة.

مجلة «ذا كريدل» اليسارية الأمريكية