محمد أحمد عبدالغني الشميري / لا ميديا -
بعد الطوفان، وبعد الريح العقيم أوحى الله لنبيه إبراهيم عليه السلام، ببناء الكعبة، “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ”، فحدد الله موقعاً وهيأ ومكّن، وأراد أن يقصده الناس في رحلتهم إليه سبحانه، وعهد الله مهمة بنائه وتطهيره طهارة كاملة من كل ما يسيء إلى التحليق في آفاق الطهارة الروحية إلى نبيه الكريم إبراهيم وولده إسماعيل سلام الله عليهما، “وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ”، فقام ببناء الكعبة وتطهيره يساعده على ذلك ابنه إسماعيل سلام الله عليهما، “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، فامتثلا الأمر الإلهي، ولجآ إلى الله بالدعاء إليه والتضرع بين يديه بأن يتقبل الله ما قام به هو وابنه سلام الله عليهما.
وفي المقام نفسه وحال طلبه من الله أن يجعلهما مسلمين له، يطلب من الله أن يجعل من أمته أمة مسلمة، وأن يبعث فيهم البشير النذير والسراج المنير خاتم الأنبياء والمرسلين الذي يتلو عليها آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، صلوات الله عليه وآله، والذي فرض الله علينا برسالته حج بيته “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”. ومنذ قيام نبي الله إبراهيم عليه السلام ببنائها، كانت محط ابتهالٍ ودعاء، وتضرعٍ وبكاء، يثوب إليها الناس بطريقة مستمرة “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى”، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه أول بيتٍ وضع للناس “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ” فجعله الله معظماً مباركاً، تحفه البركة، والهدى والرحمة “فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ”، فجعله كما قال أمير المؤمنين سلام الله عليه: “قِبْلَةً لِلأنَامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنْعَامِ، وَيأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الحَمَامِ”.
جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بمَلاَئِكَتِهِ المُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ، يُحْرِزُونَ الأرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ.
جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ لِلإسْلامِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَجَّهُ، وَأَوْجَبَ حَقَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: “وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمينَ”.
ومثلما كرر الله سبحانه أنه هدىً للعالمين كرر كذلك أنه أمن “وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً”، وفي آية أخرى أيضاً يذكر أنه: “وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً”.
وتوعد الله سبحانه من يصد عن سبيله، وعن البيت الحرام، أو يريد فيه بإلحاد بظلم بالعذاب الأليم، “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ”. ومعروف أن كفار قريش من أهل مكة والحجاز هم الذين تآمروا على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله، في دار الندوة ونزل فيهم قوله تعالى: “وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”، وكانوا هم الذين يصدون عن رسول الله صلوات الله عليه وآله: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً”، وهم الذين يصدون عن المسجد الحرام كما أخبر الله عنهم: “هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً”.
وهكذا كان أهل مكة، ثم أتى نظام بني سعود حالياً، يقومون بمحاربة الدين والصد للمسلمين عن الله ورسوله صلوات الله عليه وآله، مهما تظاهروا كذباً بالدين والإسلام: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً”.
ولم يقتصر صدهم عن بيت الله المسجد الحرام على التحكم بأداء فريضة الحج والقيود التي يفرضونها على الحجاج، والتكاليف الباهظة بل وصلت إلى ترويع الآمنين فيه، حدَّ التنكيل بهم وقتلهم وهو ما حدث لحجاج بيت الله من جميع العالم بشكل عام في أكثر من موسم، وما حدث لليمنيين بشكل خاص، ويبدو أن دور السعودية (قرن الشيطان) المنوط بها منذ إنشائها على يد المستعمرين الغربيين هو إفراغ الحج عن محتواه وأهدافه وغاياته من خلال قتل الحجاج المسلمين، أو الإهمال المتعمد المؤدي إلى موتهم؛ الذي يتحقق منه عدم الأمان والشعور بالخوف والرعب داخل بيت الله الحرام، الذي جعله الله “مثابةً للناس وأمناً” في مخالفة واضحة ومتعمدة لتوجيه الله، وما أراد أن يكون عليه بيته العتيق المقدس.

**
ففي يوم 17 ذي القعدة 1341هـ الموافق 1 تموز/يوليو 1923م، أي قبل حوالي مائة عام أثناء ما كان ما يزيد على ثلاثة آلاف حاج يمني، أو خمسة آلاف حاج، حسب بعض الروايات، في طريقهم إلى مكة -بعد أن منحهم السعوديون الأمان بسلامة وتأمين الطريق عبر كتابٍ أرسله حاكم عسير للإمام يحيى يفيد باهتمامه بتأمين طريق الحجاج وأنه لا خوف عليهم- التقت بهم سرية جنود من جيش بني سعود بقيادة الأمير خالد بن محمد (ابن أخ الملك عبدالعزيز)، فسايرهم الجنود بعد أن أعطوهم الأمان، وبعد هجعةٍ من الليل جاؤوهم وهم نيام فباغتوهم، والبعض يروي أنه لما وصل الفريقان إلى وادي “تنومة” منطقة عسير، بينما كان الحجاج اليمنيون يجتازون وادي تنومة بعسير وهم عزل من السلاح، وجنود السرية في الجهة العليا في رؤوس الجبال المطلة على الوادي، انقض الجنود على الحجاج بأسلحتهم، وبعد أن استنفد القتلة ذخيرةَ بنادقهم نزلوا بسيوفهم وخناجرهم للإجهاز على من تبقى على قيد الحياة من الحجاج، لم يرحموا حتى النساءَ والأطفالَ والطاعنين في السن، فأبادوهم ولم ينج منهم إلا عدد قليل وقُتل أكثر من 2900 حاج، ثم قام القتلةُ بنهب أموال وممتلكات الحجاج، في اعتداءٍ وحشي يظهر حقدهم الدفين وعدم مراعاتهم لحرمة الحج وتعديهم على ضيوف الرحمن الذين قصدوا بيته الحرام ليشهدوا منافع لهم، وليذكروا الله في أيام معلومات.

**
وقد ذكر القاضي يحيى بن محمد الإرياني (والد الرئيس الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني)، أن الجند السعوديين كانوا يتنادون في ما بينهم «اقتلوا المشركين» وكان شعارهم «هبت هبوب الجنة وأين أنت يا باغيها».
فخيّم الحزنُ، وعمَّ الأسى كافة أرجاء اليمن، فلا تكاد منطقة يمنية إلا وكان لها شهداءُ في تلكم الجريمة المروّعة، فما من قلب إلا واعتصره الألم، وأحدث المصاب في الأعماق جراحاً لا تندمل، فسطر الشعراء تلك الفاجعة في أشعارهم، وانهمرت قصائدهم بمرارة الحزن، تارةً تصور بشاعة ما حدث، وتصف حقد وغدر بني سعود، على الإسلام والمسلمين، وشناعة فعلهم، وتارةً تنوح وتتوجع، وحيناً تدعو للأخذ بالثأر، وفي هذه الإطلالة نقف على قصيدة العلامة يحيى الذاري، فقط، وإلا فالأدب اليمني قد سطر الكثير من القصائد، فصيح وحميني.

**
نجد السيد العلامة يحيى بن علي الذاري المتوفى سنة 1364هـ، في قصيدةٍ له جاءت على بحر الطويل، مستخدماً في قافيتها حرف الردف الألف، المشبع بالتأوه والأنين، تتلوه قافية النون ذات المدلول الحزين الذي يشي بالمعاناة والألم والحزن والبكاء، ومعطيات (النون، والتنوين) ذات الجرس العالي داخل نسيج القصيدة أشاعت النغمة الحزينة بشكلٍ واسع تتسع وتمتد على امتداد النَّفس الأليم الموشى بحرقةٍ مُرَّة، وسخطٍ صاخب، على طول أبيات القصيدة، يستهل قصيدته بتنبيهٍ حائر، واستفهامٍ موجوعٍ، ولوعةٍ باكيةٍ تائهة أشبه بطائرٍ مكلوم يفتقد حتى عودا يابسا يذرف عليه دموعه، يوحي بذلك التنكير المكتظ في مطلع قصيدته (طرف ـ دمع ـ حشاشات ـ فؤاد ـ خطب) في أسلوبية حائرة مفجوعةٍ موجوعة، متكئاً على مجهولٍ لا يعلم من يكون، يستعطفه ويبثه شكواه علّه ينجد الطَّرْفَ المتفجر بالدموع المنهمرة المتدفقة على خدين لهما حمرة الدم وانهمار الغيث، وحشاشة تتلظى ناراً وسعيراً، وفؤاد يغتلي ألماً وسخطاً في آنٍ واحد، لما حدث، في تصوير بديع لعظم الفاجعة، ومرارة المصيبة، بذهول واستغراب واندهاش يكاد يفقده من يستنجد به، ومن يلوذ إليه، وتكاد الجبال الشامخات لهوله أن تخر وتنهد:
ألا من لطرفٍ فاض بالهملانِ
بدمعٍ على الخدين أحمرَ قانِ
ومن لحشاشاتٍ تلظى سعيرها
ومن لفؤادٍ جاش بالغليانِ
لخطبٍ تخر الشامخات لهوله
أناخ بقاصٍ في البلاد ودانِ
بما كان في وادي تنومة ضحوةً
وما حلّ بالحجاج في سدوانِ
ثم يواصل الشاعر الذاري قصيدته بذكر من أقدموا على هذه المجزرة البشعة، وأعمالهم الشنيعة، من قتلٍ وسلب ونهب، وتعذيب وتنكيل، في حق أناس عزل أبرياء لا جرم لهم سوى أنهم وفدوا إلى بيت الله يرجون رحمته، ويلتمسون عفوه:
من المارقين الناكثين عن الهدى
وعن سنةٍ مأثورة وقرآنِ
من ابن سعودٍ والخوارج قومه
على غير ما جرمٍ جنته يدانِ
عن البيتِ ذي الأستار صدوا وفوده
وباتوا بطرق الغي في جَوَلَانِ
ولم يرقبوا إلّاً ولا ذمَّةً لهم
ولا واجباً من حرمةٍ وأمانِ
أحلوهمُ قتلاً وسلباً وغادروا
جسومَهُمُ صرعى تُرى بعيانِ
تنوشُهُمُ وحشُ الفلاة وطيرُها
لعمرك لم تسمع بذا أُذنانِ

**
ولهول الجريمة وبشاعة الواقعة، يستمر الشاعر بذات النسق الحزين، وكأنه يستغرق في لوعته حدَّ الثمالة، يقيم المعنوي مقام الحسي، فيجسد الإسلام في صورة إنسانٍ يتشح السواد، ويلبس ملابس الحزن والحِداد، ينوح وينادي نداء المتوجع المكلوم، ويستدعي المشاعر الطاهرة والبقاع المقدسة؛ لتشاركه حزنه وبكاءه، فالبيت والروضة وزمزم وعرفات والعلمان، وجميع المشاعر تضج بالبكاء، وتصرخ وتنوح، بل حتى الأملاك والثقلان، وكأن الكون بأسره في مأتمٍ عظيم، وحالة كئيبة، يعلن الحِداد، ويتعالى الصراخ، ويعم النَّواح، في تصويرٍ أليمٍ للغاية:
لذا لبِسَ الإسلامُ ثوبَ حداده
وناحَ ونادت حاله بلسانِ
ليبكِهُمُ البيتُ العتيق وطيبةٌ
وزمزمُ والتعريف والعلمانِ
وتبكهم تلك المشاعر عن يدٍ
وتبكهمُ الأملاكُ والثقلانِ
ثم يقف الشاعر ليصور لنا مدى ما قام به أولئك المجرمون، ليس إلا لأنهم من سلالة الخوارج، الذين حاربوا الإسلام باسم الدين، وأن الدافع لإجرامهم وشناعة فعلهم، لا يمكن أن يكون إلا حقداً على أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه، لما قام به من قتل آبائهم في النهروان، حتى أتوا للانتقام من شيعته بهذه الصورة الشنيعة، التي لا يقرها الإسلام وهي للكفر أقرب، ومن أعمال الكافرين، مصوراً للكفر في صورةٍ حسية، ويستعير له صدراً راموا شرحه بفعلتهم، تعبيراً عن حرصهم على الكفر، وإرضائه، وكناية عن بعدهم عن الدين الحنيف، وأخلاق وقيم الإسلام:
حثالةُ أهل النهروان تذكروا
مواقع سيفٍ صارمٍ وسنانِ
لحيدرةٍ ربِّ الفضائل والعلى
بكل مروقٍ ضلّ ذي ميلانِ
وراموا لصدر الكفر شرحاً بفعلهم
وما انفك صدر الكفر في خفقانِ
ثم يعود في ذكر الحجاج مقارناً بفوزهم بالشهادة، وسوء منقلب المجرمين الذين مآلهم حتماً نار جهنم، وفي استحضار جهنم تناصٌ ضمني لما ذكره الله من جزاء القاتل وخلوده في النار، وفي الصورة الكلية للمقارنة، استجلاءٌ واضح لمشاعر مفعمة بالحزن، مليئة بالدهشة والحيرة، تروح به وتجيء في عمق الألم، وتذكر الشهداء، والغيظ والسخط على المجرمين:
لقد أحرز الحجاج خيرَ شهادةٍ
وفازوا بحورٍ في الجنانِ حسانِ
وآبَ كلابُ النار شر خليقةٍ
إلى سقرٍ تسعى بهم قدمانِ
لقد ملك الشيطان منهم قيادهم
وخاض بهم في غيهم بعنانِ

**
ويؤكد الشاعر ابتعادهم عن الدين، وترصدهم للنيل منه، وتحقيرهم لقدر الرسول الكريم خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وآله، وكأن لسان حاله يقول إن من حصل منهم تحقير رسول الرحمة لا يستبعد منهم حصول قتل حجاج بيت الله، وحال ذكره يأخذه حبه وشغفه للاستغراق في الترنم بأوصاف الحبيب المحبوب صلوات الله عليه وآله، ويوحي هذا الاستطراد باستنكارٍ شديد، واستغراب كبير، فيأتي بصفات النبي العظيمة ودوره العظيم المستحق لكمال التعظيم ومنتهى التعزير والتوقير (نبي الهدى ـ من جاءنا ببيان ـ ختام النبيين الكرام ـ من له لدى الله رب العرش أرفع شان)، كما يوحي بالالتجاء إليه، وبثه شكواه، وكأنه يلوذ به ويستغيثه ويستنجده (وسيلتنا ـ ذخرنا ـ شفيع الورى إن ضاق كل جنان) ومدلول جملة “إن ضاق كل جنان” توحي بمدى الألم النازل بالشاعر الذي ألمح إليه بضيق الموقف في الآخرة، في إسقاط بليغ، وتصوير مرهف:
هُمُ حقروا قدْرَ النبيِّ محمدٍ
نبيِّ الهدى مَنْ جاءنا ببيانِ
ختامُ النبيين الكرام ومَنْ له
لدى الله ربِّ العرشِ أرفَعُ شانِ
وسيلتُنا في كل حالٍ وذخرُنا
شفيعُ الورى إن ضاق كلُّ جَنانِ
ويختم هذا الاستطراد والاستنجاد برسول الله صلوات الله عليه وآله، بذكر الجزاء الكبير الذي جزاه الله به، والصلاة عليه في كل أوان، وفي المعنى إشارة إلى أنهم بأعمالهم هذه لا يضرون إلا أنفسهم، ولا يكشفون إلا سوءهم، أما رسول الله صلوات الله عليه وآله فقد جزاه الله خير الجزاء وصلى عليه كل أوان:
جزاه إلهُ العرْشِ خيْرَ جزائه
وصلّى عليهِ اللهُ كلَّ أوانِ
ويذكر الشاعر أن هؤلاء المجرمين قد كفروا أمة رسول الله صلوات الله عليه وآله، لتهافتهم على الدنيا، وتجرؤاً على الله، وحقداً وعداوة، وسبق أن ذكرنا أن الجند السعوديين كانوا يتنادون في ما بينهم «اقتلوا المشركين»:
وأُمَّتَهُ قد كفّروها تهافتاً
جراءة ذي كُفْرٍ وذي شَنَآنِ
**
ورغم الحزن المفعم بالألم، والبوح الصاخب بالأنين، إلا أن الشاعر لا يستغرق في حزنه، ولم يبقَ حبيس ألمه، فلا يمكن أن يستسلم أو يلين، كما هي عادة كل اليمنيين، عدم الاستسلام مهما كانت الآلام، بل يلتفت إليهم التفات المتألم المغتاظ، متهكماً مستصغراً بتوجيه الخطاب إليهم باستخدام اسم الفعل “رويدكم”، الذي معناه “مهلاً”، والنداء اللاذع المتوجه إلى صفتهم اللئيمة المتمثلة بالخبث، متوعداً بالانتقام والأخذ بالثأر، بحرب ضروس صاخبة بالضرب والطعن، تشيب لها الرؤوس، ويجتلي الهام حدها:
روَيدَكُمُ يا أخبثَ الناس فِرْقةً
لِحرْبٍ تُشيبُ الناصيات عوَانِ
وضرْبٍ ببيضٍ يَجْتَلِي الهام حدُّها
وطَعْنٍ بِسُمْرٍ في الأكُفِّ لِدانِ
بأيدي بني الإسلام كلِّ مُقَذِّفٍ
غيورٍ لأخذ الثأر غيرِ هِدانِ
ثم يتوجه منادياً أبناء الدين الحنيف يحثهم ويدعوهم على وجه السرعة بدون تردد أو ريب أو توانٍ، لقتال هؤلاء المجرمين القتلة، بأساليب متنوعة، يثير فيهم الغيرة والحماس، والإباء والنخوة، ويستخدم الفخر والتقريع، وفي إضافة الدين إليهم (بني الدين ـ أديانكم) إشارة إلى أن الجريمة التي ارتكبها بنو سعود في حق الوافدين إلى بيت الله الحرام، هي جناية على الدين بكله، وأن نصرة الدين تقتضي من جميع المسلمين التكاتف ليهبوا بكل قوة ومن كل اتجاه، يتداعون ويتنادون (تنادوا) لأخذ الثأر، وأن استهداف الحجاج اليمنيين يعد استهدافاً لجميع المسلمين، وحجة الله بينة واضحة عليهم.
فهيا بني الدين الحنيفيِّ شمِّروا
سِرَاعاً بلا ريبٍ ولا بِتَوَاني
تنادَوْا لأخذ الثأر من كل وِجْهةٍ
فقد عظُمَتْ فيكُمْ جِنايةُ جاني
أترضون في أديانكمْ بدنيةٍ
أترضون في أعراضكمْ بِهَوانِ
وشنّوا عليهم غارةً بعْدَ غارةٍ
وحُسُّوهُمُ قتلاً بكلِّ مكانِ
وسوقوا إليهمْ فيلقاً بعد فيْلِقٍ
وكلِّ جوادٍ سابقٍ لِرِهانِ
وكلِّ سلاحٍ قد أُعِدَّ ومدْفَعٍ
لإعفاء شأفاتٍ وهَدْمِ مباني
دعوْتُكُمُ من كلِّ قُطْرٍ ولمْ أقُلْ
أيا لِفلانٍ لا ويا لِفُلانِ
هزَزْتُ بها أعطافَ كلِّ مجرِّبٍ
مقالةَ مشحوذِ الغِرار يماني
ولكنني منها أخُصُّ مؤنِّباً
أولي أمْرِكمْ من نازِحٍ ومُداني
فحجة رب العالمين عليهمُ
مؤكدةً ما أشرق القمرانِ
ويختتم الشاعر قصيدته محذراً من مآلات التخاذل، والقعود عن القصاص من أولئك القتلة:
فما الناسُ إلا بالسّراة تقودُهُمْ
لإدراك ثاراتٍ ونيلِ أماني
لئِنْ نُمْتُمُ عن هذه وقعدْتُمُ
لقدْ حِيلَ بين العِيرِ والنزَوَانِ
والشاعر الذاري بهذا الختام يحذرنا بأسلوبٍ شديد المرارة، عميق الدلالة، له أثره البليغ، حين ينتزع من أعماق التاريخ المثل العربي الشهير “وقدْ حِيلَ بين العِيرِ والنزَوَانِ” والنَزَوان: السَّوْرَةُ والحِدَّة، والمثلُ يُضرب للرجل يعوقه عن مطلبه عائق، وأول من قَاله صَخْر بن عمْرو أخو الخَنْسَاء، وله قصة مؤلمة، فيُروى أنَّ صَخرا بن عمرو غزا بني أسد بن جُزَيمة، فاكتَسَحَ إبلهم، فجاءهم الصَّرِيخ فركبوا فالتقوا بذات الأثل، فَطَعَنَ أبو ثَوْر الأسدي صَخْراً طعنةً في جَنْبه، وأفلت الخيل فلم يُقْعَصْ مكانه وجَوَى منها، فمرض حَوْلاً حتى ملَّه أهلُه، فسمع امرَأة تقول لامرأته سَلمى: كيف بَعْلُكِ؟ فَقَالت: لا حَيٌّ فُيرْجَى ولا مَيْتٌ فيُنْعى، لقد لقينا منه الأمرين، فَقَال صخر:
أرَى أمَّ صَخْر لاَ تَملُّ عِيَادَتي
وفي رواية أخرى: فمرضَ زماناً حتى مَلَّته امرأته، وكان يكرمها، فمر بها رجلٌ وهي قائمة وكانت ذات خُلْقٍ وإدراك، فَقَال لها: يباعُ الكَفَل؟ فَقَالت: نعم عما قليل، وكان صخر يَسْمَعُهُ، فَقَال: أما والله لئن قَدَرْتُ لأقدِّمَنَّك قبلي، ثم قَال لها: نَاوِلينِي السيف أنظر إليه هل تُقِلُّه يدي، فناولته فإذا هو لا يُقْلُّه، فَقَال:
أرى أمَّ صَخْرٍ لا تَمَلُّ عِيَادَتِي
وَمَلَّتْ سُلَيمَى مَضْجَعِي وَمَكَانِي
فأي امْرئٍ سَاوَى بأمٍّ حَلَيلَةً
فلاَ عَاشَ إلاَّ فِي شَقاً وَهَوَانِ
أُهُمُّ بأمرِ الحَزْمِ لَوْ أسْتَطِيعُهُ
وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ العَيْر والنَّزَوَانِ
وَمَا كُنتُ أَخْشَى أن أكُونَ جَنَازَةً
عَلَيْكِ وَمَنْ يَغْتَرُّ بِالحَدْثَانِ
فَللْمَوتُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ كأنَّها
مُعَرَّسُ يُعْسُوبٍ بِرَأْسِ سَنانِ
لَعَمْرِى لَقَدْ نَبَّهْتِ مَنْ كَانَ نَائِمَاً
وأسْمَعْتِ مَنْ كَانِتْ لَهُ أذُنَانِ

**
وفي ظل تحكم نظام بني سعود وما يقوم به من عراقيل تمنع الناس من الوصول إلى بيته الحرام، الذي جعله الله هدىً للعالمين، يتحقق فعلاً صدهم عن المسجد الحرام، ومحاربتهم لله ودينه.
وفي ظل العدوان الغاشم على اليمن بقيادة مملكة قرن الشيطان، الذي يستهدف الكبير والصغير، والطفل والمرأة والشيخ المُسن، يتجلى أيضاً مدى الحقد على اليمنيين، لتبقى دعوة الشاعر الذاري واستغاثته، ونداؤه للأخذ بالثأر من أولئك القتلة المجرمين، والتحذير من عاقبة التخاذل والقعود هو ما نستطيع التأكيد عليه في ختام مقالنا هذا.