القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
رغم سعة مجال البشرى والأسباب التي تجعل العبد أهلاً للبشرى حيث أشرنا إلى أن من سعة رحمة الله سبحانه وتعالى أن المسرفين على أنفسهم دعاهم ربنا الرحيم إلى العودة إليه وإلى الاستكانة من خشيته وفهم شرف العبودية لله بالعمل على تزكية النفوس، وأن العبد ذكرا كان أم أنثى كلما عاد إلى ربه وجده تواباً رحيماً.
ولكن للأسف، فإن الشيطان الرجيم قد أجلب على كثير من الناس بخيله ورجله ومنعهم من السير في طريق التوبة وحجزهم بجند الهوى وبقوة ألم النفوس من مرارة العصيان وتذكير كل من أسرف بما قد مضى منه وسلف لكي تصل إلى نفسه الإرشادات الشيطانية ببث القنوط في حنايا نفسه وبإلباس كل مسرف جلباب اليأس من العودة، فتحيط به ظلمات المعصية وتلفح وجهه ذكريات الذنوب، فييمم شطر الهلاك ويسير في الحياة شقياً محروماً، نعوذ بالله من كل ما يؤدي إلى الشقاء.
ومن تأمل في منهج أهل الله من الأنبياء والمرسلين وأئمة آل البيت (عليهم السلام) وجميع الأولياء والصالحين يجد أنهم بلسان حالهم الخالص وبصدق لسانهم يقولون للناس إن بشرى الله للمؤمن بالقبول تتسع ليدخل المسرف من بوابة الندم إلى رحاب الله، فمن ندم على سوء نيته وقبح قوله واعوجاج خطاه عليه أن ينطلق من لوم النفس ومن حياء الوجدان ومن حياة الضمير إلى العودة إلى الله، ومتى قال يا رب جاءه النداء لبيك يا عبيدي.
ومن نبع آل البيت ومعينهم العذب الصافي أزف إلى القراء الكرام هذا الموقف من سيرة مولانا الإمام زين العابدين (عليه السلام)، حيث سمع أحد الوعاظ وهو يقول للناس: العجب كل العجب ممن نجا مع كثرة المالك. فقال الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام): لا تقل هكذا يا حسن، بل العجب كل العجب ممن هلك مع سعة رحمة الله.
فمولانا الإمام زين العابدين (عليه السلام) يعطي هنا منهج الحكمة في الدعوة إلى الله، وأن علينا أن نعي جميعاً أن سعة رحمة الله التي تعجز عقول البشر عن فهم كمال وجمال وجلال وفيض وعطاء ومنن ونعم وتجليات هذه الرحمة، فقط يكفي أن يندم العبد ندما لا يقف عند حدود هذا الندم فيظهر افتقاره لله ويلهج بـ:لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا من له الملك وله الحول والقوة لله جميعاً، خذني إليك بألطافك وأوصلني إلى رضاك بمد إحسانك، فمنك أطلب الوصول إليك.
فنعمة الضراعة لله تعالى وغيث الابتهال يسقي القلب بأنوار الهداية ويمد القلب بشرف الإخبات لله تعالى، فيعلم الجميع أن لنا ربنا يريد بنا اليسر ويريد منا الإيمان به والشكر له، وأن نعترف بأن تركيبتنا البشرية الضعيفة تجعلنا نحتمي بقوة ربنا المهيمن العزيز فيعزنا بعزه، وإن أعز الله عبداً حجزه عن المعاصي، فنطلب العزة من الله العزيز، فإن العزة لله جميعاً، وأن ننظر ونفكر في أحوال الأمم قبلنا وننظر إلى الواقع المعاصر وإلى دنيا الناس نجد أن كل من طغى هلك وأن كل من ظلم زال وأن كل أحداث التاريخ وجميع أحوال الخلق تؤكد أن كل إنسان دائما إما أن يعيش في جنة ونعيم وأنس وسرور ما طهر من نواياه وما صلح من عمله وما كان سديداً من منطقه، وأن الشقاء والضنك والهم والحزن والقلق ما هو إلا حصاد خبث السريرة وسوء النية وقبح القول وانحراف السلوك والاقتراب والقرب من مستنقعات الذنوب والارتماء في ضيق وظلمات سجن الغفلة، فإن قال وسط هذه الدنيا التي صارت جحيماً: يا رب ما لي سواك، ردني إليك مرداً جميلاً، فإنه لا حول ولا قوة لي إلا بك يا هادي الحيران ومقيل عثرة من زلت به القدم. فهنا تهطل على قلبه غيوث الرحمة، فيقبله الله، فهو سبحانه وبحمده غافر الذنب وقابل التوب.
وكل من أحاطت به سلاسل أي ذنب وحبال أي خطيئة فليداوم على تلاوة سورة «غافر» وسورة «القيامة»، فإن تلاوة كتاب الله تطهر وتنقي القلوب مما علق بها من دنس كل معصية ومن آثار كل إثم ومن أوزار كل سيئة، وليعلم كل من يريد أن يكون أهلاً لنيل شرف وعز وأمان وسعادة وأنس البشرى من الله أن عليه أن يتعامل ببشريته فيعترف في علاقته بالله بأنه دائم الافتقار إلى رعاية الله، ودائم الافتقار إلى عناية الله القوي المعين، وأن يتعامل مع مخلوقات الله بالرفق بهم وحب الخير لهم ودوام الإحسان إليهم، وأن يعلم أنه متى ما كان محبا للصالحين فإن تجليات أنوار المحبة سوف تجذبه، ومتى ما كان مع هذه المحبة بريئاً متبرئا نابذاً لكل طاغوت لا يرضى أبداً بوجود أي طاغوت، فلا يرضى بأي ظلم وطغيان على الأرض أو في البحر أو في الجو هو من صميم قلبه متبرئ من أعمال أهل الطغيان فهذه البراءة تؤهله لنيل عز البشارة.