نشوان دماج / مرافىء -

الاستبداد، العصف بالحقوق والحريات، اجتثاث الخصوم والطعن في وطنيتهم واغتيالهم سياسيا ومعنويا، زراعة الخوف بين الناس باستدعاء أعداء وهميين أو تضخيم المخاطر الخارجية، إهدار الدساتير والقوانين، التفتيش في الأفكار والضمائر، منع التعدد والاختلاف وتجريم الرأي الآخر، مطاردة المعارضة وعزلها وحظرها وتشويهها، تلفيق وفبركة التهم، محاكمات وإدانات بالجملة خارج أسس وقواعد وضمانات العدالة، أجواء من التحريض والكراهية، هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وسيطرة كاملة على كل المنابر الإعلامية والصحفية والفكرية والفنية والتعليمية، نفاق مأجور أو بالإكراه، قوانين وإجراءات استثنائية، سقوط آلاف من الضحايا الأبرياء، انتشار الخوف بين الجميع، هجرة وانسحاب قطاعات واسعة من المثقفين والسياسيين والشباب، العبث بمصائر الناس وأمنها والقذف بها في مهب الريح.. كل هذه هي سياسة أمريكا الحقيقية في الداخل، رغم كل تشدقاتها في مجال حقوق الإنسان.
طالما تباهت أمريكا بأنها بلد الحرية، وعرّفت عن نفسها للعالم بأنها هي منبع الحريات في العالم الحديث، لكن، وعلى الرغم من كل تلك الدعاية عن الحرية والحريات، إلا أن التاريخ الأمريكي مليء بصفحات سوداء حدثت فيها العديد من الأمور التي أبعد ما تكون عن الحرية، فهناك طبعا التفرقة العنصرية التي تعرض لها أصحاب البشرة السمراء، وإبادة الهنود الحمر، ولكن أسوأ تلك الصفحات هي الهستيريا التي حدثت في الفترة من 1950 وحتى 1955، وهي الحملة السوداء ووصمة العار الشهيرة التي عرفت في التاريخ الأمريكي والعالم كله باسم «المكارثية»، نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي، وترمز إلى كل النظم أو الممارسات الاستبدادية المماثلة في أي مكان بالعالم، سعياً للقضاء على أي معارضة سياسية، والحجر على حرية الانتماء والفكر والاعتقاد والرأي والتعبير والمشاركة.
في أعقاب الفزع الأحمر الأول سنة 1947، قام الرئيس الأمريكي ترومان بتوقيع أمر تنفيذي لفحص الموظفين الفيدراليين، لتعلقهم بمنظمات تعتبر شمولية أو فاشية أو شيوعية أو تخريبية، أو تدعو إلى تغيير شكل حكومة الولايات المتحدة.
قام الكونجرس الأمريكى بتشكيل لجنة لمواجهة ما يسمى «الخطر الشيوعى»، أطلق عليها لجنة «التحقيق في النشاطات غير الأمريكية». وتحت هذا الشعار، قاموا ببث الخوف لدى قطاعات كبيرة من المواطنين الأمريكيين من المخاطر الخارجية التي تتعرض لها أمريكا. وتوظيف هذا الخوف لتبرير وشرعنة حملات مطاردة واسعة لأي معارضة للنظام.
كان مكارثي متنمرا يقاتل بقذارة، فاستخدم حملات التشهير والتكتيكات غير الأخلاقية، والاتهامات التي لا تستند إلى أي أساس ضد أهدافه الذين كانت تغيم عليهم في الغالب سُحب الشك، ما ترجمه الشعب غالباً بأنهم مذنبون. وفي مقدمة هؤلاء كان جمع من العلماء والأدباء والممثلين والمثقفين من داخل أمريكا وخارجها قد وضعوا على القوائم السوداء وكادت مسيراتهم الفنية والمهنية أن يقضى عليها عن طريق المكارثية.
وفي ما يلي مجموعة من تلك الأسماء التي حاولت المكارثية أن تنال منها، فوقفت بقدر ما وسعها الوقوف في وجه الاستبداد والدكتاتورية الأمريكية، أي ضد أكثر النظم التي عرفتها البشرية قوة وعدوانا ووحشية.

شارلي شابلن
رغم المكانة التي بلغها الممثل والمخرج السينمائي الرائد شارلي شابلن وما ترتب عليها من تقدير في معظم دول العالم وفي بلده بريطانيا، فإن هذا لم يشفع له أمام النائب العام الأمريكي الذي رفض في سبتمبر أيلول 1952 منحه تأشيرة دخول وهو في عرض البحر قادما من بريطانيا إلى الشاطئ الأمريكي.
كما لم يشفع لشابلن في فترة ملاحقة مثقفين وفنانين أمريكيين بتهمة الشيوعية أو ما يعرف بالمد المكارثي، أنه قدم عام 1940 فيلم «الدكتاتور العظيم»، ساخرا من زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر. وأمام اتهامه بالشيوعية لم تفلح محاولاته الدفاع عن نفسه على مدى بضع سنوات، فاضطر لمغادرة البلاد نهائيا.
وألحت صحف المليونير الأمريكي راندولف هيرست على إلصاق تهمة الشيوعية بشابلن على مدى أكثر من 35 عاما، حتى اضطر إلى مغادرة أمريكا دون الحصول على جنسيتها، إذ كانت تلك الصحف تلاحقه بأسئلة مستفزة: «هل تفكر في زيارة الاتحاد السوفيتي؟ ما رأيك في الثورة الروسية؟ ماذا تظن في لينين؟ وهل تريد مقابلته؟ ومتى وأين ستكون هذه المقابلة؟». وكانت تلك الصحف تهدف إلى إبعاده عن البلاد وتصفه بأنه مهاجر إنجليزي قذر يرفض الجنسية الأمريكية.
وكان شابلن يعلن بصراحة: «لست شيوعيا ولكني صانع سلام». وخرج من أمريكا بعد أن قضى فيها 40 عاما، وأقام في سويسرا حتى وفاته عام 1977.
بعض تصريحات لشابلن منها قوله عام 1942: «إذا كنا نرغب في كسب الحرب (العالمية الثانية)، وإذا كنا نريد من روسيا أن تظهر لنا تعاونها الكامل، فعلينا أن نتوقف عن شن الحملات ضد الشيوعيين».

ألبرت آينشتاين
هاجمت المكارثية ألبرت آينشتاين بوصفه محرضاً أجنبياً، وطالبت الشعب الأمريكي بالحذر منه، فتحداها ورد عليها في خطاب نشرته «نيويورك تايمز»، جاء فيه: «إن المشكلة التي تواجه مثقفي هذا البلد بالغة الخطورة؛ فقد استطاع السياسيون الرجعيون أن يغرسوا الشك لدى الجمهور في كل جمهور المثقفين بالتلويح أمام أعينهم بخطر من الخارج. ونجحوا حتى الآن في أن يتقدموا لكبت حرية التعليم وليحرموا من مناصبهم كل أولئك الذين لا يثبتون خضوعهم، أي يميتونهم جوعاً».
وبعد وفاة آينشتاين، نعاه أحد المثقفين الأمريكان بالكلمات التالية: «إن الرجل الذي كان يبحث عن تناسق جديد في السماوات وفي الذرة، كان يبحث أيضاً عن النظام والعدل في علاقات البشر. وبوصفه أعظم مثقف في عالمنا المعاصر، حارب الفاشية في كل مكان وكان يخشى علاماتها في بلادنا. وهذه هي الروح التي نصح بها المثقفين الأمريكيين بتحدي تحقيق الكونجرس ورفض تعريض أنفسهم للتساؤل الأيديولوجي».

آرثر ميللر
اشتهر الكاتب المسرحي آرثر ميلر بآرائه اليسارية، وتميزت كتاباته المسرحية بأطروحات حادة في تناولها لإشكاليات الإنسان المعاصر وبشكل خاص الإنسان الأمريكي. كتب العديد من المسرحيات لعل من أهمها: «المحنة»، «نظرة من الجسر»، «كلهم أبنائي»، التي حصلت عام 1947 على جائزة توني لأفضل مسرحية. وفي 1949 منح جائزة «بوليتزر» و‌جائزة نقاد الدراما عن عمله الأكثر شهرة «موت بائع متجول»، وهي مسرحية ترجمت إلى أكثر من 20 لغة بعد أشهر على ظهورها ومازالت تدرس وتعرض حول العالم.
تم اتهامه بالشيوعية، وشملته حملة لجنة تحقيق النشاط المعادي لأمريكا، وقاده صيته ككاتب تقدمي وناشط في مجال حرية الرأي والتعبير إلى المحكمة عام 1956. قام بإدانة الأنظمة القمعية في كل مكان. وفي الوقت نفسه كان يدين السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق الإنسان.
في فقرة من مسرحية كتبها عام 1966 بعنوان «بعد السقوط «، يقول ميللر: «لو تخلى الجميع عن إيمانهم لما كانت هناك حضارة! لهذا فإن اللجنة تمثل وجه المتزمتين! وإنه لم يدهشني أنك تستطيع الحديث عن الصدق والعدالة، وأنت تتكلم عن هذه العصابة من كلاب الدعاية الرخيصة».

برتولت بريخت
الكاتب المسرحي الألماني الأشهر وأحد أهم كتاب المسرح في القرن العشرين برتولت بريخت، صاحب مسرحية «حياة غاليليه»، تعرض للمضايقات من قبل المكارثية بدعوى تأييد الشيوعية. يقول بريخت ساخراً: «إنكم تطبقون ما يمكن أن نسميه «الإعدام البارد» مثلما يطلق على أحد أشكال السلم اسم «الحرب الباردة».. فالمنحرف لا يجرد من حياته، بل فقط من وسائل الحياة. ولا يظهر اسمه في عمود الوفيات، بل فقط في القائمة السوداء».

داشييل هاميت
الكاتب والروائي الأمريكي داشييل هاميت، وأحد كبار الذين كتبوا في القصص والروايات البوليسية، وكانت ثلاثة أو أربعة كتب كافية لتأتيه بالشهرة والثروة والمكانة، وفي مقدمها روايته الكبيرة الأولى «الحصاد الأحمر»، ثم «دم فاسد». 
في 1951 وإبان اشتداد حملة السيناتور مكارثي ضد جميع التقدميين واليساريين الأمريكيين، وهي الحملة التي استهدفت، في الحقيقة، القوى الروزفلتية كافة تحت ستار محاربة الشيوعية، وضع داشييل هاميت في السجن لمجرد أنه، مبدئياً، رفض التصريح أمام اللجنة المكارثية بأسماء الأعضاء المتبرعين في «مجلس التعاضد من أجل الحقوق المدنية»، غير أنه سرعان ما خرج من السجن وقد ازدادت مكانته لدى القراء وراحت كتبه تترجم إلى العديد من اللغات، وتتحول إلى أفلام ناجحة.

ليليان هيلمان
الكاتبة الروائية والمسرحية اليسارية المعروفة ليليان هيلمان، وزوجة داشييل هاميت، تعرضت هي أيضاً لتحقيق وملاحقات اللجنة المكارثية، وعانت كثيراً من تهمة الشيوعية التي ألصقت بها هي وزوجها. 
تقول هيلمان في معرض ردها: «إنني لا أرحب بأن أجلب المتاعب لأناس كانوا في ارتباطي السابق بهم، أبرياء تماماً من أي حديث أو فعل خائن أو تخريبي. لا أستطيع أن أضر أناسا أبرياء عرفتهم لسنين طويلة، لكي أنقذ نفسي، فإن هذا يعد بالنسبة لي غير إنساني وغير مهذب وغير مشرف، ولا أستطيع ولن أستطيع أن أقص ضميري ليناسب موضة هذا العام. إنني مستعدة لإسقاط حقي في عدم تجريم نفسي ولأن أخبركم بكل شيء تريدون معرفته عن آرائي أو أفعالي إذا وافقت لجنتكم على الامتناع عن طلب تسمية أناس آخرين».

بول روبسون
الممثل الأمريكي والمغني الشهير بول روبسون عرى السياسة الأمريكية وعارض بكل ما أمكنه حرب فيتنام، فصبت المكارثية جام غضبها عليه. ومما قاله في وجه تلك السياسات: «هل يمكنني القول إن سبب وجودي هنا اليوم أنني ناضلت لسنوات من أجل استقلال شعوب إفريقيا المستعمرة، ولأنني أتحدث في الخارج ضد المظالم التي تمارس ضد الشعب الزنجي لهذا البلد. إنه لتعليق حزين ومرير على وضع الحريات المدنية في أمريكا أن نفس القوى الرجعية التي أنكرت علي حق الوصول إلى منصة المحاضرات وقاعة الموسيقى ودار الأوبرا وخشبة المسرح، هم الذين يسوقونني الآن لأقف أمام لجنة تحقيق.. وبديهي أن أولئك الذين يحاولون إخراسي هنا وفي الخارج لن يمنحوني الحرية للتعبير عن نفسي بصورة كاملة في جلسة يسيطرون عليها. الذين يعتبرون الدستور قصاصة من الورق عندما يحتمي به الزنوج.. كيف يمكنهم أن يدّعوا القلق على الأمن الداخلي لبلادنا بينما يساندون أشد الهجمات وحشية على 15 مليون زنجي من جانب البيض والكو كلوكس كلان. إنهم ينتهجون سياسة حافة الحرب الحمقاء غير المسؤولة، والتي ستؤدي إلى دمار العالم».

توم هايدن
الكاتب توم هايدن أحد قادة الحركات المناهضة للحرب الفيتنامية، تصدى هو أيضاً لحملات القمع، وصرخ في وجه جلاوزة النظام الأمريكي: «إن كنتم تتصورون أن الماثل أمامكم الآن مناضل، فعليكم أن تروا ما سيفعله بكم من هم في سن السابعة والثامنة خلال السنوات العشر القادمة، لقد علمتموهم ألا يحترموا سلطتكم».

جون هوارد لوسون
أما المسرحي وكاتب السيناريو وعضو رابطة كتاب السينما في أمريكا، جون هوارد لوسون، فنختتم بما قاله في معرض دفاعه عن نفسه وتعريته للحقيقة الأمريكية: «لمدة أسبوع أجرت هذه اللجنة محاكمة غير شرعية وغير مهذبة للمواطنين الأمريكيين الذين اختارتهم اللجنة ليلطخوا ويشهر بهم. ولست هنا لأدافع عن نفسي، أو لأجيب على أكوام الزيف التي انصبت فوقى. إن الدلائل المزعومة تأتي من سلسلة من الواشين، والعصابيين، والمهرجين الباحثين عن الشهرة، وعملاء الجستابو، والمرشدين المأجورين، وقليل من الجهلة والخائفين من فناني هوليوود. ولن أناقش هذه الشهادات المتحيزة. فلندع هؤلاء الناس يحيون مع ضميرهم، عالمين أنهم قد انتهكوا أقدس مبادئ بلادهم».
ويضيف ساخراً: «إن اللجنة التي تحاول تحطيمي شخصيا ومهنيا، وحرماني من كسب عيشي، ومما هو أعز لدي بكثير، وهو شرفي كأمريكي، لا تكسب دلالتها سوى أنها تفتح الطريق إلى تدمير مماثل لأي مواطن تختار اللجنة محوه. إن القوى التي تحاول إدخال الفاشية إلى هذا البلد، تعلم أن الطريقة الوحيدة لخداع الشعب الأمريكي ليتخلى عن حقوقه وحرياته تتلخص في تلفيق خطر وهمي، لإخافة الناس حتى يقبلوا قوانين قمعية من المفترض أن تحميهم».