روبرت ف. وورث
صحيفة "ذا نيويورك تايمز" الأمريكية
ترجمة خاصة :محمد إبراهـيم زبيبة / لا ميديا -

قد تبدو السعودية، في نظر العالم، مملكة شبيهة بتلك التي كانت في القرون الوسطى، لا تزال فيها المرأة تكافح من أجل حصولها على حقوقها الأساسية ومحاكمها يديرها رجال الدين الملتحون الذين يصدرون أحكام الإعدام بقطع الرؤوس بالسيف في الأماكن العامة. لكن المشيخة السعودية -كأخواتها في دبي وأبوظبي- لطالما اعتزت بأحلامها في القفز نحو مستقبل عالي التقنية، حيث وضع آخر ملك سعودي مخططات إنشاء ست مدن جديدة في الصحراء، وصفت جميعها بأنها خطوات تحويلية نحو عالم لا يعتمد بشكل كامل على إنتاج وواردات النفط.
والآن أعلن السعوديون عن حلم خيالي لا يقارن بسابقاته، فقد أصدر ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان ـ الحاكم الفعلي، فيلما قصيرا يوجز فيه خططه في مشروعه الذي سماه "ذا لاين" (الخط)، وهي مدينة طوباوية (مثالية تخيلية) حديثة يراد بناؤها على الساحل الشمالي الغربي للمملكة، وستكون قطاعا حضريا ضيقا بطول 106 أميال بلا طرق وبلا سيارات ولا تلوث، ويخطط ابن سلمان لضخ 500 مليار دولار في هذا المشروع والمشاريع ذات الصلة، وهو مبلغ كبير حتى بالمعايير السعودية.
ويصف ابن سلمان المشروع بـ"ثورة حضارية" سيسكنها مليون شخص من جميع أنحاء العالم. لكن كل من سيسمع بهذا المشروع سيفكر: من قد يرغب في الانتقال إلى هناك؟! وأين الفكرة في بناء مدينة على شكل خط من المعكرونة؟!
عند مشاهدتك للفيديو الترويجي الذي يعرض فيه ابن سلمان مشروعه (الخط) ستتجلى لك الغطرسة في شكلها السعودي ممزوجة بالسلطوية الدينية الملكية واستعراض العضلات، حيث يبدأ الفيلم بمونتاج سريع يستعرض أعظم الاكتشافات العلمية والتقنية في القرن العشرين، ويعرض بينها مشهد دخيل يظهر فيه الملك المؤسس للمملكة السعودية كما لو أنه مخترع كستيفن جوبز وليس مجرد محارب صحراء يركب الجمال. وفي خلال ذلك تومض التواريخ على الشاشة بخط عريض، فنرى صور أول بث إذاعي تجاري (1920)، وأول تلفاز ملون (1953)، وأول رجل على سطح القمر (1969)، وولادة الإنترنت، ويتسارع العرض مرورا بأمجاد اليوتيوب والواقع الافتراضي، ليتوقف بعدها وتصبح الشاشة فارغة، عدا عبارة بيضاء على خلفية سوداء تسأل: "ماذا بعد هذا؟!".
بعدها يقتطع المشهد ويظهر محمد بن سلمان على خشبة مسرح بثوبه الأبيض يلقي خطابا موجزا بأسلوب (TED)، ويظهر خلفه نموذج طوبوغرافي كأنه قطعة معتمة من القمر يخترقه تيار رقيق من نار خضراء متوهجة، وللحظة توقعت بأنني سأرى جودزيلا يظهر ويقاتل الأمير، فظهور جودزيلا (وحش الأفلام اليابانية الذي تم خلقه أثناء الحرب العالمية الثانية، بحسب خيال الأفلام نتيجة الرغبة في امتلاك القوة والتكنولوجيا) سيكون ظهوره هنا ملائما نوعا ما؛ لكن لا! هذا الشعاع الأخضر يمثل "الخط" (المشروع).
يفتح ابن سلمان فمه مستحضرا هذا العالم الجديد واصفا إياه بأن أي رحلة لن تستغرق أكثر من 20 دقيقة! وأن انبعاثات الكربون تساوي صفرا؛ فتشعر أن وقاحته ليست أقل من ميتافيزيقية، ويبدو أنه يعتقد أن الطبيعة نفسها منصاعة تحت إمرته، وهو قد سبق وأظهر لنا هذا بأفكاره الغريبة التي يعلن عنها منذ 2017 عندما قدم للمرة الأولى مشروع "نيوم"، وهو المشروع التنموي المستقبلي الأوسع الذي يعتبر "الخط" جزءا منه، والذي، بحسب ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" في مقالة عام 2019، تحدث بيان تدشين المشروع عن "طريقة جديدة للحياة منذ الولادة وحتى الموت تصل إلى الطفرات الجينية لزيادة القوة ومعدل الذكاء"، واستمطار السحاب سيتنزل المطر في الصحراء، ووصفه لي عضو المجلس الاستشاري لـ"نيوم"، علي الشهابي، بأنه يتضمن تخطيطا جادا وواقعيا لتحلية المياه والطاقة البديلة وزراعة الصحراء. لكن تلك الأفكار، التي قد تبدو جيدة، طغت عليها أحاديث جامحة عن القطارات فائقة السرعة والرجال الآليين الذين يعملون كخدم، والشواطئ ذات الرمال المتوهجة.
لا تعتبر هذه الغطرسة والثقة الزائدة بالنفس الكامنة خلف هذه المقترحات، التي يغذيها المطبلون المحيطون به (ومن ضمنهم مستشارون غربيون)، لا تعتبر شيئا جديدا، لكننا كنا نتوقع المزيد من الحذر من ابن سلمان، في الوقت الحالي على الأقل، فهو المتهم بإصدار الأمر بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي تم استدراجه إلى القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018 ليتم قتله وتقطيعه بمنشار عظم من قبل فريق أرسل من الرياض، وجرمه هو تجرؤه على كتابة أعمدة انتقادية معتدلة في صحيفة "الواشنطن بوست". لقد صدمت تفاصيل مقتله الوحشي العالم وجعلت ابن سلمان منبوذا، وعلى الرغم من أنه قد ندد بالجريمة ونفى أي دور له إلا أن وكالة المخابرات المركزية (CIA) تقول عكس ذلك.
صفة التواضع والخجل ليست موجودة أبدا في جينات ابن سلمان، فها هو يواصل مضايقة منتقديه وسجنهم، وكأن تورطه بجريمة خاشقجي لم يظهر إلى العلن أبدا، لكن تمرده سمح له بالتغلب على المؤسسة الدينية في السعودية، ووضع حدا لترويج المملكة للإسلام المتطرف الذي لطالما ظلت تنشره وتدعمه لفترة طويلة، كذلك وخفف القيود الصارمة على الحياة الثقافية، وهذا كله جعله يتمتع بشعبية كبيرة، خاصة بين فئة الشباب.
إن الفيلم الترويجي ليس مجرد انعكاس لطموحات محمد بن سلمان الملكية فحسب، فهوس التكنولوجيا يسيطر على العديد من الشباب السعودي. ولا نستطيع لومهم في الحقيقة، فقد نهضت مدنهم بين عشية وضحاها وخرجت كبقع من وسط الصحراء، حيث راقب أجدادهم تلك المادة السوداء اللزجة (النفط) وهي تخرج من بين الرمال لتحول واحدة من أفقر دول العالم إلى واحدة من أثراها، فمن الطبيعي الآن أن يؤمنوا بسيارات الأجرة الطائرة والأقمار الصناعية.
يلقي الجزء الأخير من فيديو "الخط" بملاحظة مفاجئة: صور الطرق السريعة الحضرية المزدحمة والجسور التي تذكرنا بالفيلم البائس (Koyaanisqatsi) "كويانيسكاتسي" الذي عرض عام 1982، الفيلم الذي أظهر الحداثة والتقدم كخيانة للأرض. ووفقا للفيديو، سينقذ مشروع "الخط" الجديد الخاص بمحمد بن سلمان البشرية من هذا الكابوس، ويقضي على التنقلات والتلوث ويحافظ على 95% من الطبيعة داخل حدوده. لكن الأمير يتغافل عن آلاف من الناس يقطنون ويعيشون في وئام مع الطبيعة في المنطقة نفسها، فهناك مجتمع قبلي موجود منذ قرون يتم تهجيره واستبداله الآن بمشروع "نيوم".
أحد رجال هؤلاء القبائل بث مقاطع فيديو له احتجاجا على عمليات الإخلاء؛ فيديوهات تختلف عن تلك الخيالية التي أنتجها ابن سلمان، وقد قتل هذا الرجل بالرصاص العام الماضي في مواجهة مع قوات الأمن السعودية.
قد يتعاطف من سبق وسكن في المدن السعودية الحالية مع تطلعات بناء مدن جديدة، فمدنهم قبيحة ويملؤها الغبار، ورجال الدين ضيقو الأفق يرأسون بيروقراطيات فاسدة تقاوم التغيير، لكن المشهد السعودي مليء فعلاً بالمشاريع العملاقة الفاشلة أو المهجورة، وهذا ما جعل بعض السعوديين يردون على فيلم محمد بن سلمان بتعليقات لاذعة حول الحاجة إلى تجديد المدن والأحياء الموجودة قبل رمي المليارات في مشاريع خيالية جديدة. كان جمال خاشقجي قد اقترح ذلك في عمود كتبه مع مؤلف مشارك قبل مقتله ببضعة أشهر.
وبعد أن أنهى محمد بن سلمان عرضه، خرج صوت أنثوي دافئ يصف الحياة في "الخط"، ينحسر بعدها الواقع الحضري المرير وتستعرض أمامنا صور سعيدة: قمم الجبال الضبابية، والأمواج التي تضرب الساحل البكر.
الكلمات الأخيرة للفيلم، التي ترددها السيدة هي كلمات غير منطقية، فعندما استمعت لها وهي تقول: "منزلنا جميعا.. مرحبا بكم في الخط"، تساءلت: هل هي مقتنعة بالكلام الذي تقوله؟! هل ستفكر في الانتقال إلى مدينة صحراوية نائية تكون فيها خاضعة للمراقبة طوال الوقت، ولأهواء أمير قاتل؟!
تقديراتي أنها عملت ما عمله الكثيرون ممن يعملون مع السعوديين: قرأت ما طلب منها، ثم استلمت أجرها ورحلت.
28 يناير 2021