أنس القاضي / مرافىء -

تظهر اليمن في السينما العالمية بصورة مشوهة، فهي بلد بدائي متخلف، ويتم سحب الشخصية البدوية الخليجية على الشخصية اليمنية، وأمسى حضور اليمن في السينما مرادفا لحضور الإرهاب والإجرام والموت، والدولة الهشة غير القادرة على حماية شعبها والأجانب، المباحة للتدخلات والوصاية الأجنبية.في هذه المقاربة سنتناول 3 أفلام تحدثت عن اليمن؛ الأول «قواعد الاشتباك» فيلم أمريكي أنتج في 2000، كتبه قائد بحرية أمريكية سابق، والفيلم الثاني «صيد السلمون في اليمن» بريطاني أنتج عام 2011م، وقد أنتج بناء على رواية، ورغم تقدمية الرواية إلا أن الفيلم مختلف عنها، والفيلم الثالث «عملية البحر الأحمر» صيني أنتج في 2018م، وفيه تستعير الصين شعارات أمريكا وأساليبها العدوانية في التدخل العسكري في بلدان ذات سيادة، والفيلم يظهر النزعات العدوانية الصينية والطموحات الإمبريالية التي تتجاوز المصالح المتبادلة.

خطاب استشراقي عنصري
تنطوي الأفلام الغربية عموماً على خطاب استشراقي يرتكز على فكرة رئيسية وهي أن بقية الشعوب غير الأوروبية وغير الأمريكية، شعوب غير متمدنة متخلفة في جيناتها وثقافتها، وبأن جغرافيتها تطبع على شعوبها طابع العنف والقسوة واللاديمقراطية.
ينتج عن هذا الخطاب أمران رئيسيان، الأمر الأول: أن هذه المجتمعات قاصرة ذاتيا عن التقدم والتحضر، وأن مسألة تقدمها يجب أن تتم بفعل خارجي أوروبي أمريكي يُمدنها وذلك عبر انتزاع سيادتها الوطنية الكاملة وإلحاقها بالمركز الغربي، والأمر الثاني: هو نزع الطبيعة الآدمية والإنسانية عن هذه الشعوب، وبالتالي إباحتها للتدخلات العسكرية العدوانية والحصار وارتكاب المجازر بحق شعوبها، فهي أدنى من رتبة البشرية ووحوش على هيئة بشر ولا بأس من قتلهم، ولهذه الفلسفة بُعد تلمودي حيث يرى اليهود بأنهم البشر، بينما بقية الشعوب حيوانات خلقها الله على هيئة بشر لكي يسهل على اليهود استخدامهم واستعبادهم ولا يشمئزون منهم.

الصورة الفنية في الأفلام
تعكس الصورة الفنية في الأفلام الجوانب الحسية للواقع وظواهر الطبيعة وحياة المجتمع، وتبدو كتصوير متحرك على الشاشة لحياة الشخصية، يظهر فيها الشكل الخارجي للبشر ونبرات أصواتهم وكلامهم وحركاتهم وإيماءاتهم وأفعالهم وتصرفاتهم، ومن خلال هذا الشكل الظاهري للصورة الفنية، يتكشف الجانب الداخلي الروحي للشخصيات، وتنعكس هذه الصورة الفنية داخل الزمان والمكان الذي يعده المؤلف والمخرج السينمائي. ومن خلال هذا التصوير لحياة الشخصيات التي يخلقها أداء الممثلين تنعكس مختلف جوانب حياة المجتمع الواقعية.
ولا تنحصر قدرة السينما في تصوير الواقع، بل تنتقل إلى تصوير أحلام وأماني وذكريات الشخصيات، فتكتسب السينما قدرة أكبر على التوغل إلى العالم الروحي للشخصيات. كما أن للسينما القدرة على نقل الأحداث التي تقع في نفس الزمان من أماكن مختلفة.

الإيحاء وإعادة صياغة الحياة الواقعية
الحدث المعروض يغدو معبراً ومجسداً لأحاسيس البشر وإرادتهم وطباعهم ونظراتهم للعالم، ومن هنا يتكون إيحاء بالحياة الفعلية للشخصيات، وهو إيحاء قوي يصل إلى درجة أن المشاهد ينسى لوهلة أنه يشاهد فيلما سينمائياً ويعتقد أنه يرى الواقع الفعلي، كون الفنانين وشخصياتهم لحظة المشاهدة يكون لهم طابع الحضور عند المتلقي، فيفترض المتلقون أنهم يشاهدون الحياة ذاتها وليس فيلماً عنها.
إن خطورة هذا الإيحاء، هو ما تستغله الأوساط الإمبريالية والرجعية في التأثير على الفن، ففي فيلم «قواعد الاشتباك» يتم الإيحاء بأن المتظاهرين اليمنيين عدوانيون ومخربون، بمن فيهم طفلة صغيرة، وهو إيحاء يخلق لدى المتلقي مبرراً لقتلهم من قبل المارينز الأمريكي الذي يَظهر وكأنه في موقع المدافع والمظلوم والبطل، ولأن التأثير الإيحائي يؤثر على الوجدان والعواطف ولا يخاطب العقل، تتسرب الأفكار الاستشراقية إلى المتابعين.

فيلم: قواعد الاشتباك (Rules of Engagement  2000) 
«قواعد الاشتباك» هو الفيلم الأكثر عنصرية من بين الأفلام التي مولتها وزارة الدفاع الأمريكية والتي تحكي تدخلات الولايات المتحدة في دول العالم، من تأليف وزير البحرية السابق جيمس واب.
يحكي الفيلم الذي أنتج في 2000م قصة تدخل عسكري أمريكي في اليمن لإنقاذ السفير الأمريكي وزوجته وابنته المحاصرين في السفارة في صنعاء من قبل متظاهرين غاضبين، يبدو الحشد اليمني متوحشا مُخيفا، فيما عائلة السفير الأمريكي (زوجته وابنته) ترتجفان من الخوف.
يتمكن قائد فرقة التدخل من إخراج السفير وزوجته وابنهما الصغير من مقر السفارة، لكنه يكتشف لدى عودته أن 3 من جنوده قد قتلوا على أيدي المتظاهرين؛ فيأمر بإطلاق النار على المتظاهرين بعبارته الشهيرة «اقضوا على هؤلاء الأوغاد»، فتحدث مجزرة بالمتظاهرين قتلى نساء وأطفال. وعقب عودته لأمريكا يقدم العقيد للمحاكمة بتهمة انتهاك القواعد المتعلقة بقواعد الاشتباك وقتل مدنيين عزل، ليأتي محقق أمريكي إلى اليمن ليحقق في الأمر!
المحقق الأمريكي يجد شريط كاسيت فيه خطاب متطرف بصوت عربي يدعو لقتل الأمريكيين مدنيين كانوا أو عسكريين. مع التعمق في أحداث الفيلم يظهر الفيلم أن المدنيين اليمنيين ليسوا أبرياء، بل هم من بادروا إلى إطلاق النار على جنود المارينز، وهو ما يجعل المحكمة الأمريكية تحمل اليمنيين مسؤولية المجزرة الوحشية. ويبرر الفيلم لقتل الأطفال، فمشهد الطفلة التي فقدت ساقها والتي جذبت تعاطف المشاهدين فيما هي تمشي على عكاز، هذه الطفلة تظهر في مشهد آخر وهي تحمل المسدس وتطلق النار على المارينز بملامح وجه قاسية، يبرر الفيلم لقتل النساء والأطفال، وتصوير الشعب اليمني ككائن ناقص الآدمية، لا ضير في قتله.
الفلسفة التي قامت عليها أحداث الفيلم في تصوير اليمنيين متوحشين وقتلة وقساة إرهابيين، أطفالهم يلعبون بأسلحة حقيقية، ووجوب التدخل الأمريكي لقمع هذا التوحش... هذه الفلسفة هي ذاتها الحاكمة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه اليمن حتى اليوم، ومشهد المجزرة التي خلفها المارينز في محيط السفارة بتلك الصورة الدموية تكررت طوال فترة العدوان عبر الطائرات الأمريكية في أكثر من مدينة وقرية يمنية.

فيلم: صيد السلمون في اليمن  (Salmon Fishing in the Yemen - 2011)
الفيلم مأخوذ عن رواية للروائي البريطاني بول توردي، نص الرواية إيجابي بنسبة كبيرة، والروائي تقدمي، تحكي الرواية قصة رجل أعمال يمني اسمه «محمد بن زايدي آل تهامة»، وهو نسخة من محمد بن زايد الإماراتي، فهذا الأخير يُريد أن يقيم مشروعاً لصيد السلمون في اليمن، تقدم بالمشروع إلى شركة بريطانية حولته إلى الهيئة الوطنية المعنية بالأنهار والأسماك، ولقي رفضاً من الأوساط العلمية، إلا أن الضغط الحكومي البيروقراطي البريطاني على العالم جعله يتنازل عن يقينه العميق ويعمل على تنفيذ المشروع الذي من المستحيل نجاحه.
الرواية تتحدث عن محاولة دول الخليج وبريطانيا صنع مشاريع في اليمن لا تتلاءم مع الواقع اليمني، وهو توقع للعدوان الراهن على بلادنا.
تنتهي الرواية بفشل المشروع وانفجار السد الذي نقل إليه السلمون البريطاني وغرق كل من الممول محمد بن زايد ورئيس الحكومة البريطانية اللذين كانا يصطادان السلمون، وكذلك تأذى العالم الذي نجا بأعجوبة، فالرواية تصر على مبدأ الثواب والعقاب، وتحمل محمد بن زايد ورئيس الوزراء البريطاني والعالم مسؤولية هذا المشروع الفاشل التي لم تدرس عواقبه.

الفيلم يحرف رواية صيد السلمون
نص الرواية جيد وهو تقدمي وينقد بشكل جريء السياسة البريطانية وتأثير المال والسياسة على العلم فيها، فالرواية من بدايتها حتى نهايتها جيدة، إلا أن نهاية الفيلم لم تكن كذلك، حيث جرى تحريف نهاية الفيلم، فيما نهاية الرواية تقول بأن سبب فشل المشروع هي العوامل الطبيعية كالأمطار والفيضانات التي فجرت السد وأغرقت الممول ورئيس الحكومة البريطانية، بينما في الفيلم سبب فشل المشروع وغرق الممول والمسؤول الحكومي ليس الفيضانات والأمطار التي يفهم منها أن الواقع اليمني رافض لهذه المشاريع ولا يُمكن أن يقبلها، لكن لا، فنهاية الفيلم تقول بأن مخربين «إرهابيين» هم من قاموا بتفجير السد وإغراق الممول والمسؤول البريطاني، وبالتالي انقلب الفيلم على أهم مبدأ في الرواية، وهو مبدأ الثواب والعقاب، فالفيلم تعمد أن يوجه أفكار المشاهد ويصور اليمن بيئة إرهابية ترفض التطوير والتحديث والتنمية والمشاريع الحضارية.
ركز الفيلم كثيراً على الجانب الإرهابي، محاولة اغتيال محمد بن زايد في بريطانيا من قبل إرهابي يمني، وكذلك النهاية المحرفة، وأظهر مرافقي الشيخ في بريطانيا وهم يلبسون ثياباً نصفها يمني ونصف اسكتلندي، وهو أمر لم يرد في الرواية، وكذلك جعل نقل السمك من بريطانيا إلى اليمن بمروحيات عسكرية، وذلك لم يرد في الرواية، ركز الفيلم بشكل كبير على إظهار السمات السيئة عن اليمن وتضخيمها وإعطائها حجماً أكبر من حجمها في الرواية، فيما الجوانب التي تدين بريطانيا في أحداث الرواية جرى تهميشها وإعطاؤها أقل من حضورها الموجود في الرواية.
ونحن نستنتج من المقارنة ما بين الفيلم والرواية، أن الكاتب الغربي، وإن كان تقدميا ويستطيع إلى حدٍ ما أن يعبر عن أفكاره باستقلالية ونشرها في كتاب، إلا أن صناعة الأفلام التي تتحكم بها الشركات الكبرى التي تترابط مصالحها مع المؤسسة السياسية والعسكرية، هذه الشركات السينمائية تضرب الاستقلالية والجوانب التقدمية التي حرص عليها الكاتب، وتوجه أفلامها المتعلقة بالعالم العربي والإسلامي بخطاب استشراقي.

فيلم: عملية البحر الأحمر (Operation Red Sea - 2018)
تدور أحداث الفيلم الصيني عن عملية تقوم بها قوات خاصة من البحرية الصينية من أجل إجلاء رعايا صينيين وأجانب من اليمن عقب ثوة 21 أيلول/سبتمبر 2014، كما يَظهر من أحداث الفيلم، ورغم أن عملية الإجلاء الحقيقية التي حدثت جرت من ميناء عدن وبدون تدخل عسكري، إلا أن الفيلم يصورها في البحر الأحمر لأهميته الجيوسياسية، فالصين تريد تثبيت حضورها فيه كمحاربة للإرهاب على سُنة أمريكا!
في سياق عملية إجلاء الرعايا يطلب السكرتير «موهابي» أي الرئيس هادي من البحرية الصينية أن تقوم بإجلاء أسرته مع الأجانب، تدخل القوات الصينية الميناء وحين تتوجه لإجلاء القنصل الصيني وسط المدينة تبدأ أحداث الفيلم بالتشويق. تدخل القوات الصينية في حرب شوارع مع المتمردين، أي مع أنصار الله، واسمهم في الفيلم «مليشيات الزاكا»، وصفتهم إرهابيون.
يتضح من سياق الفيلم أن «الزاكا» (أنصار الله)، متحالفون مع الجنرال «شرف» الذي سيطر على معظم المُدن، وهو علي صالح، والذي يتم في نهاية الفيلم التخلص منه من قبل «الزاكا»، وهو نوع من محاكاة نهاية علي صالح في فتنة ديسمبر 2017.
سبب ضعف القوات الحكومية لجمهورية «يويار»، أي الجمهورية اليمنية، وهزيمتها أمام «المتمردين»، تعطي الجمهورية تفويضا للبحرية الصينية بأن تقوم بمهمتها على أراضي الجمهورية. ويحاول الصينيون إظهار تدخلهم بأنه جرى باتفاق مع الحكومة «الشرعية» وبأنه مغاير للتدخلات الأمريكية إلا أن جوهره واحد، كما يحاول الصينيون أن يظهروا فيلمهم أكثر تأدباً من حيث عدم التصريح بالأسماء الحقيقية واتخاذ أسماء مختلفة.
في الفيلم يتم اعتبار المتمردين أو «الزاكا»، أي أنصار الله، جماعة إرهابية، وتنسب إليها كل الأعمال الإرهابية الداعشية البشعة، من تفخيخ المدنيين وذبح الرهائن وإرسال فيديوهات ترهيب على طريقة «القاعدة»، وكذلك اللبس الأسود الأفغاني والأقنعة المتوحشة، واستخدام المساجد كمقر عمليات، ويتم تسميتهم على لسان القوات الصينية طوال الفيلم بالإرهابيين، فوصف الإرهابيين يتكرر أكثر من وصف المتمردين، ويظهر قائد المتمردين المسمى «سيدنا وشيخنا»، كنسخة من البغدادي في اللبس والتوحش وممارسة التعذيب.
يتضح من أحداث الفيلم أن أنصار الله «الزاكا» يلاحقون تاجر سلاح غربياً اسمه ويليام، لديه أسرار عن كمية من اليورانيوم مخبأة في الصحراء اليمنية، وتسمى في الفيلم بالكعكة الصفراء، وهذا اليورانيوم يبحث عنه «المتمردون» من أجل صناعة قنبلة نووية، ومن هنا يأخذ التدخل الصيني بُعدين؛ بُعد محاربة الإرهاب، وبُعد حماية العالم من أسلحة الدمار الشامل، أي أن السينما الصينية تستنسخ الذرائع الأمريكية.
الفيلم يسوق للأسلحة الصينية من طائرة بدون طيار وبنادق وسلاح الإشارة وأدوات التسلق ودرونز مصغرة مفخخة، وغيرها من الأسلحة التقنية التي تساعد الجندي، كما يسوق الفيلم للصين كقوة بحرية جديدة لها حضور في البحر الأحمر، خصوصاً وأن المشهد الأول للفيلم هو عن عملية للبحرية الصينية لمحاربة القراصنة الصوماليين.