بشرى الغيلي / لا ميديا -

مرّت مناسبة رأس السنة الهجرية مرورا عابرا، إلا من بعض التهاني اليتيمة التي ظهرت على استحياء بين بعض من أحيوا المناسبة في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى عكسِ ما يتم تبادله خلال رأس السنة الميلادية وما يرافقها من صخبٍ لدى العرب أنفسهم، في حين هذا التاريخ أحق بأن يأخذ حقه في الاحتفاء والاحتفال، رغم اختلاف وجهات النظر الشرعية حول ذلك، إلا أن بعض الآراء تشجع على إحياء المناسبة كونه يُذكر بعظمةِ هجرة الرسول الأعظم وغرس تلك القيم والمفاهيم لدى النشء والشباب.. كما أنه لازالت توجد بعض المعتقدات الشعبية لدى البعض من المناطق اليمنية ودول عربية وأفريقية نتعرّف على ذلك خلال السياق التالي.

العرب مأخوذون بالتقليد
السبب الرئيسي في الاحتفال برأس السنة الميلادية دون رأس السنة الهجرية هو كون بداية السنة الميلادية محددة في الأيام والمواقيت، ولا يعني هذا صعوبة الاحتفال بالسنة الهجرية، ولكن الاحتفال بالسنة الميلادية لعموم سكان العالم أسهل.. بهذه الرؤية بدأ حديثه لـ«لا» د. إبراهيم طلحة (شاعر وأديب)، مضيفاً: «التقويم الهجري أحدث من الميلادي، وطبيعي أن الناس تميل إلى الأكثر ثباتا في الوعي الجمعي المصطلح عليه، أي إلى القديم المعروف دون الحديث الذي تعرفه طائفة من الناس، ثم إن المسلمين يحتفلون بالتقويم الهجري ولا ننكر ذلك».
وحول عدم تبادل التهاني برأس السنة الهجرية أوضح طلحة: «العرب والمسلمون أصلاً مقصّرون تجاه موروثهم ويعجبهم التقليد، لذا يحتفلون هم أنفسهم بالتقويم الميلادي أكثر من الهجري، ويتبادلون في رأس السنة الميلادية التهاني، كما أن معظم علماء الإسلام يحرّمون الاحتفال ويبدّعون المحتفلين بالمناسبات الدينية، بعكس الأمم الأخرى كالمسيحيين. ويمكن عزو هذه الظاهرة إلى مرونة الثقافة الغربية مقابل الثقافة العربية ذات الاتصال بالفقه البدوي، وإلا فنحن أحق بالاحتفال».
وعما إذا كان هناك قديما طقوس احتفالية برأس السنة الهجرية، يقول: «وجدت طقوس احتفالية خاصة عند المتصوفة، ولكن قضى عليها المد الوهابي وأشكال المذاهب الأخرى المتشددة».

عُقد الانبهار
أحمد عوضة (إعلامي) تحدث عن السياق ذاته قائلاً: «مع أن التقويم الهجري أكثر ارتباطاً بموروثنا العقدي والتاريخي والقومي، إلا أنه لا يحظى بالقدر نفسه من الأهمية في الوجدان الجمعي لمجتمعاتنا على المستوى الشعبي والرسمي، بالمقارنة مع التاريخ الميلادي، الذي يحتل أولوية في التعاملات الحياتية».
ويضيف عوضة: «هذه المفارقة تظهر بجلاء أكثر في الاحتفال برأس السنة الميلادية وما يرافقها من صخب في تبادل التهاني على مواقع التواصل الاجتماعي ورسائل شركات الاتصالات الخلوية وغيرها، بخلاف رأس السنة الهجرية التي يجري التعامل معها ببرود يعطي انطباعا بهامشية المناسبة».
ويختم: «على الأرجح أن الاحتفال برأس السنة الميلادية كحدث عالمي، هو أحد إفرازات العولمة، فالأمر لا علاقة له بالقناعات اللاهوتية أو الانتماء الديني كما كان سابقاً، حيث أصبح التعاطي مع المناسبة بمقتضى الاعتبار الزمني مفرغاً من العوالق الدينية كحدثٍ عالمي جامع، فرضه واقع سيادة الثقافة الغربية الرأسمالية، وتكرس أكثر بفعل ترسب عُقد الانبهار والتلقي المحض».

العامل التجاري المتأثر بالثقافة الغربية
«ترسخت هذه المظاهر لدينا تدريجياً مع التقدم التكنولوجي والانفتاح الإعلامي عبر قنوات التلفاز، مما أسهم في إهمال التقويم الهجري».. هكذا بدأت سبأ القوسي (فنانة تشكيلية) حديثها، مضيفة: أتذكر بمرحلتي الدراسية كنا حريصين على كتابة التاريخ الهجري قبل الميلادي، وكان الدافع لذلك هو اعتزازنا بالهوية الإسلامية التي ربطت هذا التاريخ باللحظة المضيئة للدعوة الإسلامية، أما على الصعيد الشخصي فكان الاحتفال بهذه المناسبة يتمثل بالإذاعات المدرسة والقنوات الرسمية، وكنت على موعد ملتزم مع رأس السنة الهجرية لمشاهدة فيلم «الرسالة» التاريخي.
وعن عدم الاحتفاء وتبادل التهاني بهذه المناسبة تقول القوسي: «التهاني والتبريكات نالت الحظ الأوفر في موسم أعياد رأس السنة الميلادية بسبب العامل التجاري المتأثر بثقافة الدول الأوروبية المسيحية الزاهية في احتفالاتها برأس السنة وفق معتقدات دينية مسيحية متزامنة مع رأس السنة الميلادية، مما دفعت الحاجة إلى ابتكار سلعة موسمية تطغى عليها سمات المناسبة، تم تصديرها للوطن العربي بشكل استهلاكي انساق المجتمع فيه للظاهر الجميل دون الاهتمام بالمضمون، وهذا ما أسهم في إبهات المناسبة الهجرية».
وتستطرد: «إن الأمر شبيه باللغة الإنجليزية الأكثر شيوعاً بالعالم لذلك نجدها تتصدر لغات العالم في التداول، وديناميكية مواقع التواصل الاجتماعي مؤسسة على العولمة في الهويات، لذلك يتجاذب المشتركون في المواقع الفكرة العامة التي لا خصوصية قومية أو وطنية فيها».

التقويم كرمزية وهوية إسلامية
في جزئيةٍ أخرى توضحها القوسي أن غياب جهود الجهات المختصة في ترسيخ هذا التقويم كرمزية وهوية إسلامية عربية أسهم في إهمال ذلك، فمقارنة بالصين استطاعت أن تجذب المجتمعات الأخرى لتعليق التقويم الصيني في بيوتهم ومتابعتها بربطها بمعتقدات الفلك والتنجيم والأبراج، ووفرتها بشكل سلعة كمالية جمالية تتجاذبها الأذواق وتتأثر بما تحمله من معتقدات حضارية وتقول: «حين كنت أعمل في الحقل التربوي عايشت طالبات ومعلمات مهتمات بمعرفة أبراجهن الصينية المتوافقة مع الشهور الصينية، بينما الفكرة كانت غائبة جدا عن التقويم القمري الهجري، الذي لا يتم الالتفات له إلا عند حساب هلال رمضان وشوال».
وترى من وجهة نظرها أن اختلاف عدد الأيام في الأشهر القمرية ما بين 29 و30 يوماً، جعل الناس تعتمد على التقويم الشمسي (الميلادي) أكثر كدقة في الحساب والتوقيت، ولطبيعة المعاملات المتبادلة بين الدول الأجنبية التي لا تعتمد التقويم القمري.

غياب الوعي الجمعي
ميسون الإرياني (شاعرة) تحدثت من وجهة نظرها أن عدم الاحتفال برأس السنة الهجرية يعود السبب فيه إلى الثقافة الإسلامية التي لم تكرس ذلك في المجتمع، خصوصاً في المدارس التي ترى أنها من المفترض أن ترسخ ذلك لدى النشء.
وتضيف الإرياني: «عدم تبادل التهاني في رأس السنة الهجرية سببه غياب الوعي الجمعي بأهمية الاحتفاء بهذه المناسبة، مما أدى إلى غياب التفاعل»، مشيرة إلى أن الضعيف يقلد القوي، والأمة الإسلامية تفاعلها مع ذلك يكاد يكون معدوما.

اختلافات مذهبية حول الاحتفال بذكرى الهجرة
من الناحيةِ الشرعية ووفق علماء المذاهب الأربعة، فإنهم يرون أن الاحتفال برأس السنة الهجرية تشبه بالغرب، إلا أن المسلمين في الزمن المعاصر لهم رؤية مختلفة وأنها مناسبة دينية ذات دلالة خاصة من خلالها يتم بث أهمية التاريخ الهجري في نفوس الأبناء من النشء ليشبوا بفطرة إسلامية صحيحة تُعظم الأحداث الإسلامية، فنجد المدارس تُخصص الإذاعة المدرسية في هذا اليوم للحديث عن الهجرة ومعاناة النبي والصحابة في إيصال الدين إلينا، وأهمية الحفاظ عليه واتباعه تكريماً لهم وانتصاراً لمبادئهم وقيمهم، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم جاهد في سبيل تمكين دين الله تاركاً أهله وبلده مكة التي هي أحب بقاع الأرض إلى قلبه عليه الصلاة والسلام، ومن هنا يكون الاحتفاء برأس السنة الهجرية لتعزيز القيم النبيلة في نفوس المسلمين واستعادة دروس الهجرة النبوية والاستفادة منها في مواجهة ثورة العصر المُحدثة، فتلك الدروس نافعة لكل زمان ومكان.

اعتقادات شعبية
رغم اختلاف الآراء الشرعية بجواز ذلك أو تحريمه، إلا أن بعض المعتقدات الشعبية في اليمن ودول أخرى تمارس حتى اليوم بمجرد حلول رأس السنة الهجرية.. فهنا في اليمن تختلف المعتقدات من منطقةٍ إلى أخرى، فمثلا في مديرية المحابشة بمحافظة حجة تحرص ربات البيوت على أن يستقبلن أول يوم للسنةِ الهجرية (الأول من محرم) بأفضل فطور صباحي لأفراد أسرهن، ظناً منهن أن بقية العام ستقدم نفس الأكلة وتجتهد لتقدم أفضل ما لديها، ويحرصن أيضاً في ليلة رأس السنة على حرق البخور الجاوي في البيوت أو المُر لطردِ الشياطين، ولازالت تلك المعتقدات قائمة حتى اليوم.
 
طقوس في دول أفريقيا بالسنة الهجرية
لكل بلد في القارة السمراء عادات وتقاليد متفاوتة تتجلى في البيوت والشوارع احتفالا بحلول العام الهجري الجديد، وتتخذ طابعا دينيا خالصا، فتتنافس العائلات في إعداد أشهى الأطباق للفقراء والمحتاجين، في حين تسود في مصر أجواء مختلفة من ذبح الطيور وإعداد الفطائر وتوزيع الصدقات المكونة من التمر والكعك والنبق والقرص، وعرض فيلم «الشيماء» و«هجرة الرسول».
في تشاد تقوم النساء بتوزيع البليلة والمديدة أمام البيوت في الشوارع وختم القرآن في المساجد.
أما في شمال نيجيريا، وهي واحدة من أكبر الدول الإسلامية، فيقوم الأهالي بترك لحم أضاحي عيد الأضحى لطهيه يوم عاشوراء. ومن نيجيريا للجزائر التي تعتبر واحدة من بلدان المغرب العربي، وتتميز بتنوع ثقافي ضخم، حيث ورد بدستورها أنها «أرض الإسلام، وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية، وبلاد متوسطية وأفريقية»، لذلك يدين أكثر من 99,8٪ من سكانها بالإسلام- ففي «بلد المليون شهيد» يعتبر يوم رأس السنة الهجرية إجازة رسمية، ليكون وقتا عائليا من الدرجة الأولى، يجتمع فيه أفراد العائلة لتناول «نفقة أول محرم»، وهي وجبة عشاء ضخمة يتشارك فيها الأقارب والجيران، حيث يتفقون على أطعمة خاصة بالمناسبة، يتم إعدادها على بركة بداية التاريخ الهجري الجديد.
أما في إريتريا التي تعتبر من دول القارة ذات الأغلبية الإسلامية، بنسبة تتجاوز 90٪ إلا أن رأس السنة الهجرية هو يوم عمل عادي وليس إجازة، بسبب أن الحكم بيد الأقلية غير المسلمة، لكن مع ذلك توجد مظاهر خاصة للاحتفاء بهذه المناسبة، ومنها تقديم أكلة «ديفوت»، وهي الأكلة الخاصة بيوم رأس السنة الهجرية في إريتريا، وهي عبارة عن وجبة ضخمة تشمل جميع أنواع البقوليات من القمح واللوبيا والفاصوليا والحمص والفول، والتي يتم طهيها بالماء والملح أو السمن والسكر، حسب قدرة العائلة، ومن ثم توزيعها على الجيران، لتكون محل تنافس بينهم.
وعلى خلاف إريتريا، تسود أجواء مميزة أخرى بالصومال، حيث يكون يوم إجازة رسمية، بينما تحرص القنوات التلفزيونية على عرض الأغاني والأفلام الدينية الشهيرة، وتكون الصدارة للأفلام الوثائقية التي تجسد هجرة الرسول الكريم، بجانب الأغاني الثقافية.
مما سبق نستخلصُ أن هذه المناسبة الدينية جدير بأن يتم الاحتفاء بها، نظراً لما تكتسبه من أهمية بالغة في معرفة التاريخ الإسلامي وتعزيز القيم النبيلة في نفوس المسلمين، واستعادة دروس الهجرة النبوية والاستفادة منها في مواجهة نظام العولمة والهيمنة الغربية التي تريد سلخنا من ثقافتنا وقيمنا الإسلامية السمحاء واستبدالها بثقافتها وقيمها الانحلالية الهدامة للفرد والأسرة والمجتمع.. والمطلوب من الجهات المختصة، خصوصاً المدارس والجامعات، أن تعمل على ربط النشء والشباب بتاريخهم الإسلامي، وإبراز أهمية رأس السنة الهجرية ودلالة الاحتفاء به.