أحمد الحسني / لا ميديا -

انتزعت نفسي بصعوبة من بين بسط الخضرة التي تستلقي فيها مسترخية مدينة يريم 120 كم جنوب صنعاء، وتوجهت شرقا إلى حيث تشير أشعة شمس الأصيل الذهبية وهي توشي القرى الكبيرة: خاو، الأجلب، الذاري، ثم الرضمة، المتناثرة على الطريق الأسفلتي كطابور من حرس الشرف 
يقف على امتداد 60 كم إلى الشرق والجنوب الشرقي من يريم ترحيباً بزائر دمت، تحسبهن مساءً ثرياتٍ مدلاة من أسلاك الكهرباء تتلو عليك أول حروف أبجدية البهجة التي ستقرأ روحك أسفارها. في دمت سحر الطبيعة وجلال التاريخ تعبق به آثار «الريدانيين» و«القتبانيين» و«الأوسانيين» وأخيراً «الطاهريين».

لم أنتظر كثيرا في موقف السيارات بسبب كثرة المتجهين إلى دمت للاستشفاء بحماماتها الطبيعية والاستجمام بطبيعتها الخلابة. وكان أول ما أضافنا به سائق السيارة شريط كاسيت اسمه "فواكه" يحوي أغاني (البرتقالة، التفاحة والرمانة المشمشة و"اليوسف أفندي"). هذه الضيافة التي فرضها انتقال الغناء من الاستريو إلى محل الفاكهاني والبقالة، عللها جاري بتردي الأوضاع الاقتصادية في مجتمعاتنا، والتي يمكن أن يؤدي تدهورها إلى إدخال الخضار إلى قائمة الطرب المستقبلي فيصدح مطرب بالبطاطا ويتألق ثان بالطماطم وآخر بالباميا، وهكذا يصبح بإمكانك أن تعود إلى أطفالك ومعك بدلاً عن زنبيل الخضار والفاكهة شريط كاسيت يتنهدون على محتوياته بحرقة تنسيك لوعة قيس وعشاق عذرة.
قطع السائق الحديث قائلاً على ذكر عذرة والفواكه: ما هو جمع سفرجلة؟ وأجاب: سفارج! مضيفا أنه يحمل شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية لكنه يحب اللغة العربية. سألته: هل تعتقد أن تنشيط السياحة الخارجية إلى دمت سيجعل من شهادتك مصدر دخل كبير لك؟ أجاب: السياحة نشطة، وهل نعيش في دمت إلَّا عليها؟! ولولاها لكانت دمت قرية كبيرة كالرضمة لا أكثر. فالاستثمارات السياحية في تزايد لدرجة أن سعر الذراع المربع الواحد ربع متر مربع تقريبا يصل إلى 600 ألف ريال. ويبدو أن اهتمام هذا السائق باللغات أنساه الرياضيات تماما أو أنها مسألة مشتركة عند أهل المنطقة كما يتضح من تصنيف الفنادق في مدينة دمت المكتوب على لوحاتها الدعائية المنتشرة على الطريق والتي قرأت آخرها بصعوبة عند مدخل المدينة بسبب حلول الظلام.
لم أجد غرفة خالية في فندق "الأسدي" أشهر فنادق المدينة وأكثرها ازدحاماً بسبب وجود حمام الأسدي في ساحته، والذي تتدفق مياهه الحارة بسبب ضغط الغازات بواقع 60 إلى 70 لتراً في الثانية مشكلة نافورة طبيعية ترتفع في الهواء قريباً من 4 أمتار وتصب في مسبح في ساحة الفندق، يرتاده غير نزلائه للاستحمام مقابل مبلغ زهيد من المال أو النزلاء الذين يفضلون الجمع بين فائدة الاستحمام ومتعة السباحة تاركين الاستحمام بتلك المياه في حمامات الفندق للنساء. ووفقاً لهذه المعايير صنف هذا الفندق من الدرجة الأولى منذ إنشائه، وحفر البئر عام 1990، وليس وفقاً للتصنيف الفندقي السياحي.
توجهت مع مرافقي إلى فندق حديث البناء على الجهة المقابلة لفندق الأسدي، وهو يقدم خدمات فندقية اعتيادية بغرف نظيفة بأسعار رخيصة شأن سابقه وجميع فنادق المدينة.. كنا مرهقين فنمنا قبل أن نعرف متى انطفأت الكهرباء عن المدينة التي استيقظت على سماء صافية إلَّا من بعض الطيور الجميلة تمارس غزلها لأشعة شمس الصباح المتلألئة على مياه وادي بنا الشهير الذي ينبع من هذه المناطق ليصب أخيراً في بحر العرب.
كانت المدينة مزدحمة على غير ترتيب بالباعة المتجولين الذين جلبهم وغيرهم من أصحاب المحلات كثرة الزائرين لدمت من مختلف المناطق للاستشفاء بحماماتها الطبيعية، التي تزيد على العشرين حماما أغلبها مجاني، والبقية بمقابل زهيد وتفتقر إلى الاستغلال الحقيقي والترويج السياحي الذي يمكن أن يجعل منها معاني أخرى وأفضل. فقد أكدت دراسة علمية قام بها خبراء من التشيك وتنص أن تركيبة المياه المعدنية في دمت صالحة لعلاج الجهاز الهضمي والمسالك البولية والجهاز التنفسي عن طريق الشرب والاستحمام؛ الذي يناسب أيضاً علاج أمراض الدورة الدموية والجهاز العصبي المركزي والمفاصل بسبب ما تحويه تلك المياه من الكالسيوم والبيكربونات والكلورايد. وقدرت الدراسة كمية الأملاح المذابة بأكثر من 2 جرام/ لتر وثاني اكسيد الكربون الحر بنسبة 900 ملج/ لتر إضافة إلى الكثير من العناصر والمواد النادرة والمشعة التي أكدت الدراسة فائدتها الصحية.

قبعة "كاوبوي"
يجمع زائر دمت بين الفائدة الصحية والاستمتاع بالمناظر الطبيعية التي تتميز بها المنطقة، وأشهرها فوهات البراكين التي يسمونها الحرض، جمع حرضة، أي جفنة الطعام تشبيهاً لها بالشكل والمحتوى الحار، وهي تغري زائر دمت غير المريض بأن يبدأ بها قبل الحمامات، كما حدث لمرافقي الذي نزلت عند رغبته الملحة في زيارة الحرض وتوجهنا أولاً إلى حرضة الشولة، وهي فوهة بركان على شكل قبعة "كاوبوي" ملقاة على الأرض. فصعدنا إليها سلما حديدياً بدأ فيه الصدأ قريباً من 100 درجة يُقال إن الرئيس الحمدي هو الذي أمر ببنائه هو والسياج الحديدي الذي يحيط ببركة الماء الساخن في جوف الحرضة التي ولجنا إليها من باب وحيد. وكأننا داخلون بوابة سور دائري قطره مائة متر تقريبا لقصر خسف ببنائه وبقي مكانه بركة عميقة بين السياج الحديدي على حافاتها وجدار السور حافة الفوهة قريبا من مترين يقف عليها الناس وينظرون من خلال السياج الحديدي إلى مائها الذي يغلي على عمق 20 متراً تقريباً. والسقوط فيه يعني تساقط لحمك عن عظمك. ورغم ذلك كنت أقرأ بعض الدعايات الانتخابية مكتوبة على جدار البركة في أمكنة يقشعر لها البدن، ولا يقبل عاقل أن يجازف بالوصول إليها ولو كان أبوه ينافس على كرسي الرئاسة الأمريكية لا على عضوية مجلس محلي في دمت.
شكل هذه الحرضة دفع بالخيال الشعبي لأن ينسج أسطورة يطيب للناس ترديدها وهم يمارسون هواياتهم السيئة في إلقاء قنينات الماء الفارغة والأكياس البلاستيكية في مياه البركة؛ فبدلاً من حقيقة كونها فوهة بركان غير نشط يروون أن الحرضة كانت سورا لقصر رجل سأل عالما عن رجل زرع شجرة ورباها حتى طرحت الثمر أليس أحق به من غيره، فأفتاه العالم الذي لم يكن يعرف أن الرجل يوري بالشجرة عن ابنته التي يريد الزواج بها بأن صاحب الشجرة أولى بثمرها من الغريب. فعاد الرجل إلى قصره وتزوج ابنته. وحين أراد الدخول بها خسف الله بالقصر ومن فيه إلى جهنم التي تدفق حميمها في مكانه مكوناً هذه البركة التي يتناقص ماؤها مع مرور الزمن.

حرضة ربيبة
نزلنا من حرضة الشولة متوجهين شرقاً إلى حرضة ربيبة، وهي بركة حارة على الضفة المقابلة لوادي بنا قطرها قريبا من 30 متراً ومياهها الحارة على عمق 20 متراً تقريباً ولا ترتبط كسابقتها بأسطورة. وبجوار الحرضة الصغرى وهي بركة جافة قطرها قريب من 10 أمتار. كنا أثناء الصعود للحرض نشاهد في طريقنا الحمامات التي تسيل مياهها من جوانب الحرض والتي جف أغلبها وبقيت أماكنها كهوف وتشكيلات صخرية، والبعض تم توصيله بأنابيب إلى البيوت: حمام النظر، حمام السيد، حمام الحسن. ولم يبق مفتوحاً منها أمام الزائرين غير حمام الدردوش الذي يعني اسمه شلال مياه كبريتية يتدفق من أسفل الحرضة الوسطى حرضة ربيبة كمية مياه قدرتها الدراسة ب 5-6 لترات في الثانية، ويسمى أيضاً حمام الحمدي نسبة إلى الرئيس الحمدي الذي أقام مباني الحمام ومد إليه جسراً حديداً يصل ضفتي الوادي ببعضها ليستقبل قاصديه في فترتين إحداهما للرجال والأخرى للنساء مقابل مبلغ زهيد. 
لم نعبر بعد خروجنا من حمام الحمدي الجسر الحديدي وإنما نزلنا إلى الوادي الذي كنا حريصين على ألَّا نخوض في مياهه التي لوثتها مياه المجاري بعد أن كان لا يمازج مياهه غير المياه الكبريتية التي تتدفق من البرابر، جمع بربرة، وهي عيون مياه كبريتية تتدفق بقوة من باطن الوادي أقيم على بعضها غرف من الطوب وتستخدم كحمامات طبيعية مجانية. بعضها جرفه السيل مثل بربرة اليهودي وبعضها تهدم مثل بربرة حسن، والآخر باقٍ مثل بربرة الطلي وبربرة غرسة وبربرة السيد وبربرة جبير أو الزيلة. والأخيرة تقع بجوار بحيرة كبريتية يسمونها بحر جبير. ويتوارثون أنه لا قعر لها وهذه ثاني بحيرة كبريتية في دمت. أما البحيرة الأكبر فهي بحر القائفي، وهو عبارة عن بحيرة على مستوى سطح الأرض مساحتها 500 متر مربع تقريباً. تقع بجوار الجامع. يقولون أنه لا قعر لها أيضاً وإنما تتصل بالبحر في عدن وأن فيها وحشاً يلتهم من يغوص فيها، وهي أسطورة نسجها خيال الآباء القدماء تخويفا لصغارهم الذين لا يعرفون السباحة حفاظا عليهم من الغرق. لكنها لم تعد تنطلي على الصغار الذين رأيتهم يسبحون فيها مستمتعين دون خوف من أسطورة الوحش ولا من حقيقة البلهارسيا.

بلدة تنام على النار
ليست هذه فقط هي حمامات دمت، فهي بلدة تنام على النار وربما تدفقت المياه الكبريتية، وأنت تحفر أساس بيتك في هذه البلدة فتقيم لك حماماً خاصاً في بيتك أو تستثمرها بإقامة حمام عام، كما هو في حمام العودي الذي أقيم بطريقة حديثة وأحيط بحديقة صغيرة فيها مسبح صغير تتدفق إليه المياه الحارة وإلى غرف الحمام دون توقف من نافورة طبيعية عبر مواسير حديدية توزع الماء ولا توقف تدفقه كنافورة مثل حمام الظليمي، الذي يقع غير بعيد عن حمام العودي وكانت مياهه تندفع في الهواء عدة أمتار وتشاهد من أي مكان في مدينة دمت. ولم تستطع كتلة الخرسانة المسلحة التي أقيمت عليها أن توقف الماء الذي ظل يتدفق بكمية قدرتها الدراسة بـ50-60 لتراً/ ثانية ولم تصنع الخرسانة المسلحصة غير أن خفضت ارتفاع الماء ووجدت النسوة فيها مكانا مناسبا لغسل الملابس وقدور الطعام.
أشد حمامات دمت حرارة هو حمام عاطف الذي حفر في الثمانينيات كبئر تزود الجنود في تلك المناطق بحاجتهم من الماء أثناء الحرب الأهلية حينها. وقدرت الدراسة كمية المياه المتدفقة منه بـ15-20 لتراً/ ثانية وغير بعيد عنه يقع حمام الحساسية الذي تتدفق مياهه الكبريتية بكمية قدرتها الدراسة بـ1-1.5 لتر/ ثانية من عيني فوارتين يؤمهما الناس للاستشفاء عن طريق الشرب والاستحمام، قال صديقي الطبيب بعد أن شرب منها أنه لا فرق بين هذه المياه و"النورمال سلاين".
الحمامات الأثرية في دمت أغلبها خراب أو مقفل، مثل حمام الحسن وحمام الإمام وحمام الكينعي وعقلة التعاون وعقلة الحاج. أكثر من 20 حماماً طبيعياً في مساحة لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد. هي دمت الغافية على النار تسنج من سحر وادي بنا ابتسامة الأمل، محاطة بنزعة التحدي التي تطل من قلعتها التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ويمكنك الصعود إليها عبر طريق مرصوف بالأحجار على هيئة درج تقودك إلى البوابة الرئيسة للقلعة التي تم تجديدها خلال فترة حكم الدولة الطاهرية، بعمل عقد حجري بشكل قوس ويوجد داخلها بقايا آثار وصهاريج مياه منحوتة في الصخر. ومن قمة القلعة يمكن مراقبة كل مداخل المدينة وحراسة محطات الطريق التجارية القديمة "درب الملك أسعد" التي كانت تبدأ من عدن ثم لحج والضالع وقعطبة ودمت ويريم، ثم ذمار وصنعاء وعمران وصعدة، ثم نجران ونجد والحجاز. وموقع دمت هذا على طريق التجارة القديمة كمحطة لاستراحة القوافل والتزود بالمؤن والاستشفاء بحماماتها، أضاف ميزة أخرى إلى هذه البلدة الغنية بثرواتها الزراعية والطبيعية التي دفعت بالإنسان إلى استيطانها من قديم الزمان وبنى فيها سد العرفان وقفلة العرفان، ونحت في جبالها مخازن الغلال الصخرية الكبيرة "المدافن".

معالم طاهرية
ظلت لدمت مكانتها الهامة على طريق الحجيج عبر الهضبة الوسطى في العصر الإسلامي. لكنها اكتسبت أهمية خاصة في عهد الدولة الطاهرية لعدة أسباب أهمها قرب المسافة الجغرافية، بينها وبين مركز حكم الطاهرين "المقرانة" في مديرية جبن. وتتضح هذه الأهمية من خلال السور الذي أقامه عليها عامر بن عبد الوهاب الطاهري والمعالم الأخرى التي من أهمها:
1- سد عامر بن عبد الوهاب الذي يقع في الجهة الغربية من مدينة دمت القديمة، وهو عمل هندسي عظيم، حفر في الصخر وشيدت واجهاته من الأحجار المنحوتة التي ربطت وطليت بالجير المطفي "النورة" ولايزال قائماً.
2- جسر عامر بن عبد الوهاب، الذي شيد على بعد 2 كم جنوب شرق مدينة دمت من الأحجار المنحوتة المربوطة بالجير "النورة" على هيئة قوس يربط بين ضفتي وادي بنا لتأمين استمرارية الحركة وعبور المواطنين والقوافل عليه أثناء موسم الأمطار وتدفق السيول الجارفة في الوادي، فهو إضافة إلى كونه عملا هندسيا وفنيا عظيما منشأة اقتصادية واستراتيجية هامة تشعرك بعظمة بانيه وجودة إتقانه. كنت أشعر برغبة شديدة في تقبيل هذا الصرح وأيدي عمال الترميم الذين يقومون بصيانة أجزائه التي تأثرت بمرور القرون والسنين. لكنني اكتفيت بالغبطة التي ملأت جوانب روحي ودفعتني إلى ملء رئتي بالهواء البارد وأنا أطل على مسطحات قعطبة الزراعية في طريقي إلى الضالع، حيث فقدت بهجتي في الضبيات وأنا أشاهد قصرها الأثري لم يبق فيه غير واجهة صغيرة عليها نقوش لمشكاتين متدليتين من سلسلتي زهور كدمعتين بقيتا على خد هذا القصر الفريد ذي الواجهات الأمامية الأربع في كل جهة من جهاته، والذي استعصى على القرون فهدمه الناس بالديناميت وأشعلوا النيران فيه لتتساقط جدرانه بطريقة لا يمكن تبريرها حتى بالعداوة والحقد على تأريخ هذه البلاد وآثارها. كان السائحون يترددون على هذه المنطقة لزيارة هذا القصر وجامع البلدة التاريخي الذي بذل (أهل الخير) جهداً جباراً في هدم مئذنته الفريدة وقبته المدرجة والرباط الذي كان مقاما على بوابته، ليقيموا مكانه مسجدا حديثا بالخرسانة المسلحة، فيه ميكروفون يسمع أهل تلك القرية بكاء الخطباء على مآسي الشيشان وكشمير وطلب التبرعات لإخواننا الفلسطينيين ودعاءهم على أعداء الإسلام والمسلمين الذين سرقوا متحف بغداد وأهدروا آثار وتاريخ بلاد المسلمين، في متناقضة لا يشبهها غير إنشاء حمامات الوضوء الحديثة بجوار الجامع في هذه القرية التي يعرف فيها الإنسان حقيقة الحكمة من مشروعية التيمم، حيث لا يجد أبناء هذه المنطقة ما يشربونه غير مياه الأمطار التي تجمع بصعوبة في سد صغير وينقلونها إلى منازلهم بالأواني البلاستيكية.