طلال سفيان/ لا ميديا -

ما الذي يجعل الكثير من اليمنيين على سبيل المثال يدخلون بهوس لتشجيع فريقين كرويين تبعد دولتهما عن اليمن آلاف الأميال.
خلال العشر السنوات الأخيرة أصبح ريال مدريد وغريمه الأزلي برشلونة الناديين الطاغيين على عقول عشاق اللعبة، وحديثاً أيضاً لغير عشاق اللعبة هنا في اليمن.
وأسهم هذا الاهتمام بحالة عصبية بين جماهير الفريقين، وليس ذلك فقط بل وصل الأمر إلى الشجارات والمهاترات. والأكثر غرابة دخول الكثير من الجنس الناعم في هذا المعترك, ليس فقط في اليمن بل وفي معظم المنطقة العربية وأفريقيا، وذلك عبر نقلة نوعية لقنوات "الجزيرة الرياضية" منذ 2010 بالتعاقد للبث الحصري لليغا وتقديمه للجمهور في المنطقة العربية, بالإضافة إلى مساهمة الشبكة العنكبوتية مؤخراً (وبالذات مواقع التواصل الاجتماعي) بهذا الأمر.. ليطرح الأمر نفسه على الطاولة عن جنون كرة القدم وكواليسها المثيرة.

كلاسيكو توم وجيري
لا يتعلق الأمر بكرة القدم فقط، حينما يتواجه العملاقان الإسبانيان، ريال مدريد وبرشلونة، في كلاسيكو الأرض، ولكن تأخذ تلك المواجهة الأشهر في عالم الساحرة المستديرة، أبعاداً أخرى، داخل وخارج المستطيل الأخضر.
الأكثر تعزيزاً كحالة نموذجية لهذا الاهتمام الكروي المنصب نحو ناديين أكثر من غيرهما, كان الفضل فيه يعود لنجمين: الأرجنتيني ليونيل ميسي والبرتغالي كريستيانو رونالدو.
ومنذ صعود الأول لمصاف فريق البلوجرانا الكبير عام 2004 في عهد أساطير كـ أنيستا وتشافي وبويول وتحقيقة لسداسية 2010, وقدوم الثاني من فريق مانشستر يونايتد الإنجليزي إلى كتيبة الميرنجي الملكية في الموسم 2008/2009, تغيرت قواعد اللعبة كثيراً (جماهيرياً وألقاباً فرقية وفردية وصفقات) على مستوى إسبانيا والعالم.
فمع صافرة انطلاق مباراة الكلاسيكو، تتجه الأنظار نحو الملعب، وتتعلق قلوب عشاق الفريقين بأقدام النجوم، ولكن خارج الخطوط، يتجلى صراع من نوع آخر، وتفرض المنافسة نفسها على عدة أمور تتعلق بأرقام هنا، وإحصائيات هناك، وأموال طائلة.
فمثلاً تجاوزت قيمة لاعبي كلاسيكو الأرض بين فريقي برشلونة وريال مدريد ضمن الجولة 36 للدوري الإسباني في أبريل 2018 ملياري يورو (2,5 مليار دولار). وفي ذلك اللقاء بلغت قيمة ميسي (31 عاماً) 180 مليون يورو، بينما أتى رونالدو (33 عاماً) ثانيا، بقيمة بلغت 120 مليون يورو.. ويحتل الكلاسيكو صدارة المباريات الأكثر مشاهدة حول العالم، حيث وصل عدد مشاهدي ذلك الكلاسيكو في الليجا، إلى 650 مليون متابع.. فيما وصلت قيمة التذكرة الواحدة إلى 120 ألف يورو... أتظن أنك لم تقرأ الرقم بشكل صحيح؟! الحقيقة أن هناك أكثر من تذكرة أطلقت بالفعل بهذا المبلغ، بينما كانت أرخص تذكرة أطلقتها الشركات الراعية بقيمة 1100 يورو، وهو ما يؤكد أن مباراة برشلونة ضد ريال مدريد أو كلاسيكو الأرض كما يطلق عليها تمثل ثروة كبيرة بالنسبة للأندية وشركات الرعاية وفرصة ذهبية للجمهور بحضور اللقاء من المدرجات وعيش أجواء رائعة في مباراة لا يمكن تفويتها.

صراع الأموال
مع بدء الألفية الثالثة، خرج السويسري جوزيف بلاتر رئيس جمهورية الفيفا الكروية بفكرة "كرة المال" عبر الاستثمار وحقوق الرعاية والبث، لتصبح كرة القدم الدجاجة التي تبيض ذهباً للدول الواقعة فوق خط شمال الكرة الأرضية.
وأضحت الكرة محشورة في خانة سباق العولمة. وضمن هذا السباق باع الإنجليز أنديتهم وملاعبهم العريقة للمليارديرات الأمريكان والخليجيين والمصريين والتايلانديين، لينعطف السباق في مساراته نحو إسبانيا وفرنسا وإيطاليا, وليس آخراً الاهتمام الصيني بالدخول والاهتمام بعالم كرة المال.
وبحسبة كرة البنكنوت سجل الاقتصاد الروسي رقماً مميزاً بعد انتهاء مباريات كأس العالم 2018، إذ تجاوزت إيراداته من البطولة 850 مليار روبل (13.5 مليار دولار). فيما بلغت ارباح الفيفا 6,4 مليار دولار من حقوق البث التلفزيوني والتسويق وعائدات بيع التذاكر.
وتصل القيمة التسويقية للدوري الإنجليزي الممتاز (البريميرليغ) إلى 8.14 مليارات يورو، حيث يعد الأغلى عالميًا، علمًا بأنه يضم 566 لاعبًا في عشرين فريقًا، متقدماً على الدوري الإسباني (الليغا) بقيمة تسويقية تصل إلى 4.95 مليارات يورو، بإجمالي 479 لاعبًا في عشرين فريقًا.
ويتصدر ريال مدريد قائمة ديلويت للعام 2018, وذلك بعد أن بلغت إيراداته 750.9 مليون يورو، متفوقاً على غريمه التقليدي برشلونة صاحب المركز الثاني بـ 60.5 مليون يورو، ليصبح الريال أول نادٍ يتمكن من كسر حاجز الـ750 مليون يورو من المداخيل.
في العام 1984 اعتبرت عملية شراء الأسطورة الأرجنتيني دييغو مارادونا من قبل برشلونة الإسباني بمبلغ 5 ملايين دولار الصفقة الأغلى في تاريخ كرة القدم, لتتسارع خلال السبع السنوات الأخيرة (من 2011 حتى 2018) العملية بشكل جنوني, حيث بلغت صفقة شراء البرازيلي نيمار البالغ حينها (25 عاما) من قبل نادي باريس سان جيرمان الفرنسي رقم 222 يورو في العام 2017, كما بلغت قيمته السوقية اليوم 233.6 مليون يورو.
حين علم توفيق الحكيم أن أحد لاعبي كرة القدم وهو دون العشرين قد دفعوا له ثلاثة ملايين جنيه، قال: "انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم، أخذ هذا اللاعب فى سنة ما لم يأخذه كل أدباء مصر منذ أيام أخناتون".
ماذا لوكان الحكيم عائشاً اليوم ليرى ابن بلده محمد صلاح نجم نادي ليفربول الإنجليزي، والذي وصلت قيمته في سوق الانتقالات العالمية إلى 151 مليون جنيه إسترليني، ما يعادل 168 مليون يورو، محتلاً بها المركز الأول في الدوري الإنجليزي والرابع في قائمة أغلى لاعبي العالم.

حوارات قاتلة
كرة القدم لها جانب مظلم، فليس الفرح فقط هو ما تعطيه كرة القدم بل الحروب وعمليات القتل أيضا!
الواقعة التي نحن بصدد سرد تفاصيلها تدعم هذا الرأي، يسميها المؤرخون (حرب كرة القدم) أو (حرب الـ 100 ساعة).
فما زال العالم يتذكر حربا استمرت 4 أيام بين دولتين جارتين في أميركا الوسطى هما هندوراس والسلفادور جرت في 14 يوليو 1969, فبعد أن فازت السلفادور 3-2 في الوقت الإضافي وصعدت إلى المونديال, انتهت المباراة بكارثة: أكثر من 4000 قتيل معظمهم مدنيون، ومعهم 10 آلاف مشوه و120 ألف مشرد، ودمار مئات البيوت والمنشآت التي تزيد قيمتها اليوم على ثمانية مليارات دولار، وكله بسبب شرارة صغيرة من كرة مطاطية تقاذفتها الأقدام فوق عشب يوحي لونه بالسلام.
الأمر ذاته كاد أن يحصل تماماً بين مصر والجزائر, فقد ألحقت مرحلة الشحن الإعلامي للمصريين والجزائريين قبل المباراة الفاصلة المؤهلة لمونديال جنوب أفريقيا بين منتخبيهما في أم درمان في 18 نوفمبر 2009, عشرات الإصابات بين جمهور المنتخبين الذي ذهب ضحية صراع سياسي بين جمال حسني مبارك نجل الرئيس المصري وبين شقيق الرئيس الجزائري بوتفليقة على صفقة سلاح.
كرة القدم لم تكن السبب الرئيسي للحرب، لكن المباريات استخدمت كواجهة لأهداف سياسية واقتصادية بحتة، ولصراع إعلامي يشحن الشعوب بالكراهية، فمنذ شهرين رأينا كيف كاد أن يدفع لاعبو المنتخب القطري حياتهم ثمناً لحنق وغباء قادة أبوظبي بعد انتصارهم على منتخب الإمارات مستضيفة بطولة أمم آسيا ومن ثم ظفرهم باللقب الأول.
واقعة أخرى تظهر مدى الشحن والغبن والانتقام حتى ولو كان داخل العشب الأخضر، فقد شاهد عُشّاق كرة القدم الهدفين الشهيرين لمارادونا في مباراة الربع النهائي من كأس العالم بمكسيكو سنة 1986. الهدف الأول الذي جاء بعد أن راوغ مارادونا أغلب لاعبي المنتخب الإنجليزي وتلاعب بهم كالأطفال، بينما كان الثاني هدفًا دخلت به يدُ مارادونا التاريخ، إذ استطاع مُخادعة حكم المباراة الذي لم يلحظ أن مارادونا قد سجّل الهدف بيده، لتفوز الأرجنتين على إنجلترا وتتأهّل إلى النصف النهائي، لتصبح بطلة العالم في تلك الدورة.
لكن ما قد لا يعرفه الكثيرون، هو السياق السياسي الملتهب الذي لُعبت فيه تلك المباراة، فقبلها بأربع سنوات فقط، كانت الحرب تدوّي بين بريطانيا والأرجنتين بسبب دخول قوات الدولة الأخيرة لجزر الفوكلاند التي تبعد عن الأراضي الأرجنتينية حوالي 500 كم والمحتلة من قبل بريطانيا، ممّا أشعل صراعًا عسكريًّا بين الطرفين سقط على إثره 900 قتيل، وبالتالي فإن المباراة التي دارت بينهما كانت بطعم «الانتقام» لمن قُتلوا على أيدي الطرف الآخر. وقد كان النجم الأرجنتيني دييغو مارادونا قد أعلن أنّه وزملاءه قد دخلوا المباراة «وهم يفكّرون في مواطنيهم الذين سقطوا جراء الحرب كالعصافير الصغيرة.. معتبراً بأن يد الله هي التي انتقمت من الإنجليز في الملعب.
ومنذ تلك الوقائع الدموية أصبحت مباريات كرة القدم بين البلدين أكثر مدعاة للتوتر عن سواها في عدد كبير من الدول، فالخسارة أو الفوز يليها كرنفال من الفرح في معظم الأحيان.