صلاح العلي/ لا ميديا

تعرف (عملية بيرنهارد) الألمانية التي وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، بأنها أضخم عملية تزوير عرفها التاريخ آنذاك، خاصة وأن سلطة الفوهرر هي التي أدارتها.. وعلى مستوى التاريخ اليمني على الأقل، قد تعرف عمليات التزوير التي كشفت عنها الداخلية قبل أسبوعين، بأنها أضخم عملية عرفها التاريخ اليمني.
والأضخم هُنا، ليس من حجم المنهوبات كما هو في (بيرنهارد)، بل من كون عصابات التزوير استنسخت دولة بأكملها، وانتحلت شخصية مؤسساتها بدءاً من أعلى مستوى في البلاد حتى أصغر الإدارات. ولعل وجه التشابه بين العمليتين، هو التحامهما بمشروع سياسي وحربي، وليستا مجرد عمليات نصب واحتيال وحسب، بل كانتا جزءاً من معركة على الأرض...
وهُنا تقارب (لا) جانباً مخيفاً من حروب الظل العدوانية الأكثر شراسة في تاريخ هذا النوع من الحروب، وبالمقابل، تستعرض حجم الإنجاز الأمني لرجال كانت عقولهم وإرادتهم على قدر مدهش من التحدي والدهاء.
استنساخ الدولة
المجلس السياسي الأعلى ورئاسة مجلس الوزراء ومجلس النواب واللجنة الثورة العليا، ووزارات الداخلية والدفاع والقضاء والمالية و7 وزارات أخرى، إضافة إلى عشرات الجامعات والمستشفيات والمدارس وجهات مالية وإنسانية...، وما يتفرع عن هذه الجهات من مكاتب ووحدات وأجهزة (ضمنها عسكرية مثل القوات الخاصة)...؛ كلها قد انتُحلت شخصيتها من قبل 4 عصابات زورت (أختامها) ومستنداتها الرسمية ومذكراتها وكل ما تحتاجه للتخاطب مع المؤسسات المالية والشركات والعديد من الجهات.
ليس ذلك وحسب، بل تقوم بتزوير الأوراق الثبوتية والشهادات الدراسية بأنواعها ورخص العمل ووثائق جمارك وضرائب وأرواق تمليك عقارية... 

نصب باسم المجهود الحربي!
منذ بداية العدوان على اليمن، اشتغلت حملات إعلامية مسعورة رافقتها شائعات على الأرض، عن نهب أموال الدولة والتجار كجبايات وإتاوات باسم (المجهود الحربي والتعبئة العامة ودعم الحكومة)، وبين الحين والآخر يتم نشر وثائق ومعلومات وأسماء عن ذلك، في محاولة لجعل ذلك حقيقياً.
لم يكن ذلك عملاً دعائياً وحسب، بل نشاطاً منظماً يجري في الواقع فعلاً!
الأجهزة الأمنية التي ألقت القبض على العصابات الأربع، وجدت عشرات الوثائق والمستندات المبينة استلام مبالغ مالية من جهات عدة باسم (دعم الحكومة والمجهود الحربي)، أو تسلم أموال تحت بنود (تحصيل ضريبي) أو (تكاليف دورات في الصحة) أو معونات باسم (أسر الشهداء) وحملات إغاثة ورعاية صحية باسم (منظمة أطباء بلا حدود) أو باسم جهات وهمية مثل: (الجمعية الوطنية للحفاظ على البيئة) و(روافد لإغاثة المنكوبين)، والعديد من البنود.. كما توضح ذلك الصور المرفقة التي حصلت (لا) على نسخة منها..

وجه آخر للعدوان.. خلايا تزوير أم تنظيمات إرهابية!
ارتبطت هذه الخلايا بغرف عمليات العدوان ومطابخه الدعائية والإعلامية، وكانت هي من تقوم بتزويده بالمعلومات والوثائق لاستخدامها لتشويه السلطة الوطنية وقوى الثورة والمدافعين عن البلاد.. والجلي كيف أنها تخصصت في التزوير باسم الجهات الرسمية لاسيما السيادية منها، وباسم أعلى جهاتها! وعلى نحو دقيق يعي خبايا العمل الحكومي وثغراته والمجالات التي يعمل فيها أو يتجنبها، وكذا صياغة خطابات المذكرات والرسائل بذات القالب الرسمي وصياغة محبوكة بما لا يثير الشكوك، وهو ما يشي بعمل مخابراتي يتعدى كونه نشاطاً إجرامياً مدنياً وعمليات تزوير عادية.
وأعضاء الخلايا، كما تفصح التحقيقات، مدربون على درجة عالية، ليس على عمليات التزوير وحسب، بل كيفية التخفي وإتقان الأدوار المنتحلة وضبط عمليات التواصل والتحرك... الأمر الذي يقترب من كونها تنظيمات خلايا (إرهابية) وليست مجرد عصابات تزوير.

صناعة الأقنعة!
فهد الغنامي في الإعلام الأمني التابع لوزارة الداخلية، في حديثه لـ(لا)، بين أن العصابات (جُهزت بما تحتاج من أدوات ومعدات لخوض معركة العدوان الناعمة في تزوير كل ما يمكن أن يخطر على البال) ضمن سعي العدو إلى (تحقيق مكاسب أمنية وسياسية واجتماعية وإعلامية واستراتيجية تخلق ضغطاً داخلياً ينعكس على جبهات المواجهة).
أحد أهم الأدلة الدامغة على التحام الخلايا بالعدوان، قيامها بتزوير الهويات للمجرمين والعناصر الإجرامية لتسهيل نشاطها في مناطق السيطرة الوطنية، فضلاً عن تلفيقها وثائق ثبوتية للسيارات المفخخة كي تمر بسلام في نقاط التفتيش وتقوم بمهمتها.
ومن جانب آخر، فقد هرب أحد أهم أعضاء الخلايا بعد إلقاء القبض على شركائه، إلى محافظة مأرب، ليحتمي بتحالف العدوان هناك. وهو يدعى (إبراهيم صالح المطري، وينتحل أسماء وهمية مثل: علي دغسان وأكرم عبدالحميد الرجوي)، وهو مطلوب للعدالة.
يقول الغنامي: عملت الخلايا لتسهيل تحرك عملاء العدوان، وخلق المناخ الملائم لحدوث الاختلالات الأمنية العميقة والواسعة، الأمر الذي اعتقدوا بنجاحه بأن يشتت جهود الأمن بعيداً عن ميدان المعركة الحقيقية.

كيف وقعت في الأسر؟
كانت البداية في التوصل إلى خيط رئيسي ربط كل ما تم جمعه سابقاً بهذا الخصوص، وكان مفتاح الإنجاز الضخم.
عقب صعود حكومة الإنقاذ ثم وقوع الأزمة المالية، شرعت عصابة يتزعمها المدعو (إبراهيم محرم، وينتحل اسم محمد الضياني ويحيى شويل)، بتزوير مذكرة تحمل اسم المجلس السياسي الأعلى، وموقعة باسم الرئيس الشهيد صالح الصماد. ولضمان عدم انكشاف الورقة كُتبَ برأسها: (سري للغاية)!
المذكرة –حصلت (لا) على نسخة منها ضمن وثائق أخرى- تطالب شركة (واي)، بتقديم دعم مالي لحكومة الإنقاذ الوطني نظراً للظروف التي تعيشها البلاد وانعدام الدخل.
حمل المجرمان محرم وشريكه المذكرة للشركة التي وافقت على تقديم دعم بمبلغ 5 ملايين ريال. وكما هي الإجراءات، طلب الموظفون رقم حساب لإيداع المبلغ فيه، بيد أن المجرمين رفضا ذلك، وأصرا على أن يكون المبلغ نقدياً، وأخبرا الشركة أنهما سيعطيانها سند قبض من المجلس السياسي الأعلى الذي زورا كذلك سندات قبض باسمه.
كان ذلك دافعاً ليشكك موظفو الشركة في الأمر، فسلموا المذكرة إلى مندوب الأمن لديهم للاستفسار حولها، وبدوره أبلغ الجانب الأمني للتحقق من الأمر.
في الأثناء، اكتشفت الأجهزة الأمنية الجريمة، فخططت بسرية للإمساك بهما في اليوم التالي حتى دون إخبار الشركة. وبعد قدومهما وتسلمهما نصف المبلغ ووشوكهما على المغادرة على متن سيارتهما، داهمتهما القوى الأمنية، بمقدمتها جهاز (الأمن القومي).
الخلايا الأربع التي تم القبض عليها، سبقها 9 خلايا تزوير منظمة، و95 قضية تزوير، بحسب تقرير البحث الجنائي بالعاصمة عن الإنجازات الأمنية للعام 2017م.
في هذا السياق، أنتجت دائرة العلاقات والتوجيه بوزارة الداخلية، فيلماً وثائقياً عن العصابات، وسمي: (محابر الشيطان)، عرض في الفضائيات، ونشر على (يوتيوب).