عقب وأد الفتنة مباشرة انتشرت الشائعات بشكل كبير جداً في أمانة العاصمة، ولحقت أضرار كبيرة بمن صدّقوا تلك الإشاعات، وكون المجتمع يُصدق كل ما يقال له، فقد أرجع المختصون سبب ذلك إلى قلّة الوعي، وعدم التأكد من صحة ما يُنقل، مما أوجد بيئة خصبة لانتشار الشائعة. (لا) ناقشت ذلك مع المختصين، والتقت ضحايا وقعوا فريسةً للشائعات في أحياء من أمانة العاصمة...
منشورات مزيفة
تفاجأ أهالي المدينة السكنية الواقعة بمحيط السفارة الأمريكية بصنعاء، عقب وأد الفتنة بيومين، بانتشار شائعة مفادها: على من يسكنون بالقرب من السفارة مغادرة مساكنهم، لأن الطيران سيقصف المكان.. وتم توزيع ذلك بين الأهالي كمنشورات صغيرة، وتفاجأ البعض ممن لم يستسلموا للشائعة أن مجموعة من اللصوص استغلوا الوضع الأمني، وقاموا بسرقة منازل من هربوا..!
أم أنس (ربة بيت) أسرتها ممن لم يستسلموا للشائعة، وظلّوا بمنزلهم منتظرين لأي طارئ قد يحدث، تقول في حديثها لصحيفة (لا): خشي جيراننا أن تلك المنشورات تكون صحيحة، فأخذوا بعضاً من أغراضهم القليلة، وغادروا إلى أقاربهم، والبعض إلى القرى المحيطة بصنعاء. وعند الصباح وُجدتْ منازلهم منهوبة، فعاد أصحابها وقد سُرق معظم الأثاث، واتضح في الأخير أن مجموعة من اللصوص قاموا بتوزيع تلك المنشورات ليسهل لهم سرقة المنازل وترويع الآمنين، واستغلال انشغال الجيش واللجان الشعبية بإعادة الهدوء للعاصمة. تختم أم أنس: أتمنى أن يتم ضبط أمثال هؤلاء من خلال الأجهزة الأمنية، وملاحقة من يزعزعون السكينة العامة، ومعاقبتهم قانونياً.
صنعاء بعيدة..
وفي ذات الأسبوع انتشرت شائعة أخرى ممن يسعون لزعزعة الأمن في العاصمة، بأن ما يسمى (جيش الشرعية) سيقتحمها، وأن على من يقطنون صنعاء مغادرتها، وبالفعل بعد انتشار تلك الشائعة شوهد العشرات ينزحون زرافات ووحداناً، وتفاجأوا مع بداية الأسبوع التالي أن الأمور طبيعية وبدأ الدوام الرسمي في الجامعات، والمدارس، والأعمال الحكومية، وأن لا شيء من تلك الأكاذيب.. يقول سهيل محمد (34 عاماً): غادرتُ مع عائلتي وأطفالي إلى القرية التي تبعد مسافة 7 ساعات عن العاصمة، وخسرت مصاريف سفر على الفاضي، حسب تعبيره، ثم عدنا بعد يومين من مغادرتنا لأن الدوام كان طبيعياً، ولا شيء مما أُشيع، وصدق من قال: (صنعاء بعيدة). وختم سهيل: هنا نحمّل الإعلام المسؤولية الكاملة، وتوعية المواطنين بعواقب تصديق الشائعات الكاذبة.
أرعبوا الأطفال بالمدارس
نوع ثالث من تلك الإشاعات حصل في المدارس، حيث جاء أحدهم إلى مدرسة أطفال بالعاصمة، واتجه مباشرة إلى مدير المدرسة ليقول له أنصحك بإخلاء المدرسة فوراً، فقد تم تحذير أهالي الحارة بإخلاء الأماكن، لأن الطيران سيقصف، فما كان من مدير المدرسة إلا أن بلّغ جميع المدرسين السماح للتلاميذ بمغادرة الفصول الدراسية..!
أم بتول (36 عاماً) تصف الحادثة لأنها تقطن المكان المجاور للمدرسة، وكذلك ابنتاها بتول وشقيقتها تدرسان بنفس المدرسة، قالت: كان التلاميذ بحالة يرثى لها، مثل يوم القيامة، تم إخراجهم من الفصول وتنبيههم بسرعة المغادرة لأن الطيران سيقصف المدرسة. تضيف: لا أستطيع أن أصف لكِ مدى الهلع الذي أصاب الأطفال وهم يتدافعون مرعوبين، ورغم ذلك كله لم يحدث شيء، وختمت: مش بحق (الفجيعة للصغار).
ما هي الشائعة؟
يعرّف المختصون الشائعة بأنها: (خبر ينتقل من فم إلى فم مجهول المصدر يتحرك بين الأفراد ولا يحمل معه دليلاً على صحته، ويفتقر إلى المسؤولية، وتتغير بعض تفاصيله من فرد لآخر).
وهناك من يرى أن الإشاعة عبارة عن (عملية نقل خبر مرتبط بواقعة أو رأي أو صفة مختلقة من خلال الكلمة المسموعة الشفهية تعبيراً عن حالات الكبت الجماعي).
فيما يعرّفها د. عبدالكريم زبيبة، أستاذ العلاج النفسي، عميد مركز الإرشاد والرعاية النفسية بجامعة ذمار، بأنها ظاهرة اجتماعية، وتكون في شكل أحاديث عابرة أو أخبار مجهولة المصدر يتناقلها الناس، وأخطر هذه الشائعات ما يكون في فترة الحروب، وتكون كموجات من العنف تثير الذعر والفزع بين الناس أو تسبب نوع من الفوضى والانفلات الأمني، ويستفيد منها العدو أو مجموعة من المفسدين الذين لهم أغراض إجرامية.
حرب كلمات...!
ويُجمع الكثير من المختصين أن الإشاعات تنشط في بيئات الحروب والصراعات، ويطلقون عليها مصطلح (الحرب النفسية)، التي يعرفها د. زبيبة: الحرب النفسية مصطلح معناه ممارسة التأثير النفسي، وذلك بغرض تقوية وتدعيم الروح المعنوية لأفراد الأمة من مدنيين وعسكريين، وتحطيم الروح المعنوية لأفراد العدو، فهي إذن حرب أفكار تستهدف تحطيم إرادة الأفراد، وحرب دعائية، وحرب كلمات.
فيما يعرفها د. كمال الأسطل، مدير عام مركز السلام للتدريب المجتمعي والأبحاث - خان يونس: أنها استخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول، للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية التي تستهدف جماعات معادية أو محايدة، أو صديقة، للتأثير على آرائها وعواطفها واتجاهاتها وسلوكها بطريقة تساعد على تحقيق سياسة الدولة أو الدول المستخدمة لها وأهدافها.
الهدف من ورائها
وللشائعات أهداف قد تصل لحد الأضرار المباشرة، والنفسية للمستهدف منها.. يضيف د. كمال: تحطيم إيمان الخصم بعقيدته السياسية، تحطيم الوحدة النفسية للخصم العقائدي، استغلال بعض الانتصارات للطرف المهاجم لإضعاف الثقة في عقيدة الخصم، رفض دعاية أو حملة عكسية، تحطيم معنويات العدو وتدمير روحه القتالية وتشكيكه بمقدرته القتالية، تشجيع السكان المدنيين في منطقة القتال على تقديم المعلومات عن قوات العدو، إزالة العقيدة والإيمان بالمبدأ الموجود في ذهن العدو وتلقينه المبدأ والعقيدة التي يريدها...
قلّة الوعي
يضيف د. زبيبة أن من أهم أسباب انتشار الشائعات: ضعف المستوى التعليمي والثقافي لدى أفراد المجتمع، حيث إنهم يتناقلون المعلومات والأخبار دون التأكد من صحتها أو محاولة تحليلها والتفكير في مدى عواقبها. غياب المعلومات الصحيحة والشفافية، وهو ما يساعد على انتشارها، وضعف العلاقة بين أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة. اتباع النفس الأمارة بالسوء، فمروجو الإشاعات يعانون من أفكار غير سوية ومشاعر سلبية تجاه المجتمع، حيث يشعرون بالارتياح عندما يشاهدون الفوضى والبلبلة بين أبناء المجتمع الواحد.
إلحاق الضرر النفسي بالمجتمع
لوحظ بعد وأد الفتنة أن الشائعات انتشرت بشكل كبير، وتأثر معظم المستهدفين نفسياً، وهنا وضع بعض المتابعين للظاهرة عدة استفسارات من ضمنها ما الآثار السلبية لانتشار هكذا أكاذيب.. فجاء الرد من د. عبدالكريم زبيبة: انتشار المفاسد في المجتمع والفوضى، إلحاق الضرر النفسي بالأفراد، إضعاف المجتمع وسهولة السيطرة عليه، الانتصار في المعارك، فهي تعد سلاحاً فتاكاً في الحروب والنزاعات، وتؤثر على نفسية الجنود في أرض المعركة، إلحاق الأضرار الاقتصادية بالمجتمع.
تدمير المجتمعات
إحصائية تؤكد أن 70% من تفاصيل المعلومات يسقط ويحرّف بحال تناقلها من شخص لشخص حتى وصولها إلينا.
الشائعات تنتشر في المجتمعات غير الواعية لسهولة انطلاء الأكاذيب عليهم. كذلك انتشار وسائل الاتصال الحديثة يسهم في سهولة وصول الشائعات، وبنشر كم هائل جداً من المعلومات في وقت يسير وبكل يسر وسهولة. شدة الشائعة = الأهمية * الغموض، كما أن للشائعات آثاراً نفسية وحسية بالغة، فبمقدورها القضاء على مجتمعات كاملة.
فالشائعة ببساطة تجعل من الصواب خطأً، ومن الخطأ صواباً، وقد يدعمها أحياناً بعض الوجهاء ورجال الدين، وبانتشارها وسيطرتها على عقول المجتمع قد تغير في السلوكيات.
كيف نواجه الإشاعة...؟
يرى د. زبيبة أن هناك نقاطاً مهمة جداً لمواجهة الشائعات، كالتأكد من المصدر، خصوصاً مع الأخبار الحساسة والمهمة، المنطقية في التعامل مع الأخبار، التوعية وعدم الإسهام في ترويج الأخبار بلا مصادر، عرض الحقيقة عند معرفتها على أوسع مدى لأن الناس تريد الحقائق فإذا لم يستطيعوا الحصول عليها فإنهم يتقبلون الشائعات.
وختم د. عبدالكريم زبيبة بكيفية التعامل مع أية شائعة تنتشر: عدم قبول الأخبار والأقوال دون مصدر، عدم إعادة نشر الإشاعة وترديدها وتكرارها، تفنيد الإشاعة بموضوعية وصدق.
وعلينا تذكر أن الإشاعة مصدرها خارجي من الأعداء، وداخلي من الجهلاء بهدف تمزيق وحدة الصف والتشرذم والشتات.
وقبل كل شيء عليك أن تتدبر قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسق بنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْمًا بجَهَالَة فَتُصْبحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادمينَ)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع).
همسة أخيرة..
إذن.. لا تكن كالببغاء يردد كل ما يسمع، بل تحقق، وتأكد من صحة ما نُقل إليك، قبل أن تضر نفسك والآخرين بأكاذيب لا صحة لها، وكن أنت من يئد الفكرة السلبية التي يُراد من ورائها زعزعة السكينة العامة للجميع، وبث الرعب والشائعات التي لا تخدم سوى من يود إلحاق الضرر النفسي والمجتمعي بالدرجة الأولى.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا