في الوقت الذي يخوض فيه الوطن معركته المصيرية الكبرى في وجه العدوان وأرباب الاستكبار، ويحتاج الى جيشه الذي أعده على مدى سنوات طويلة لمثل هذا اليوم للدفاع عنه، اتجهت أعداد كبيرة من قوى الجيش للتخندق في جبهة الدفاع عن خزائن أموال وممتلكات جلادي الشعب من التجار وغيرهم، وولوا معركة الوطن الأدبار، وأصبحوا يعملون في شركات حراسة خاصة تدور حول طبيعة عملها والأشخاص الذين يمتلكونها كثير من الشبهات. 
الجبهة الخاطئة!
يمتهن آلاف من جنود القوات المسلحة والأمن اليمنية اليوم العمل في شركات الحراسة الأمنية، تاركين خلفهم مهمة حماية الوطن لمن يهمه الأمر! 
واستبدلوا متاريس الدفاع عن الوطن في معركته ضد العدوان الأمريكي السعودي، بكراسي أمام البنوك والمولات التجارية والمطاعم، لتضيع سنوات التدريب والتأهيل وكل ما صُرف فيها من أجل صناعة حُماة الوطن، هباءً، ويذهب مبدأ حب الوطن والدفاع عنه والعقيدة القتالية إن كانت موجودة أصلاً، أدراج الرياح.
وسقط المارد الذي كانت اليمن تعده ليوم الفداء في أول المنعطفات الخطيرة التي واجهها، وضيع عدد من العسكريين بوصلته، ونسي مهمته، وتبدو ساحات القتال اليوم التي تشتعل في أكثر من 14 جبهة رئيسية في بلادنا، شبه خالية من المجندين النظاميين، إلا من قلة صادقة سليمة العقيدة والمبادئ صادقة في حبها للوطن الذي اتجهت للدفاع عنه عندما ناداها الواجب لذلك، أما البقية فقد اختفوا عن الواجهة بين من اصطفوا مع تحالف العدوان، وبين المتدثرين في المنازل ينتظرون أن ينزل عليهم وحي التوجيهات، وبين من التحقوا بالأعمال الأخرى مثل شركات الحراسة الأمنية، وكأن هذه المعركة لا تعنيهم، تاركين خلفهم هم خوضها لشيبان وشباب وأطفال الشعب الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية حماية الوطن واسترجاع حريته وكرامته، مقدمين أرواحهم ودماءهم الغالية ثمناً لوطنهم المخذول. 

شركات الحراسة الأمنية في اليمن 
في اليمن عدد كبير من هذه الشركات، ويوجد في صنعاء فقط أكثر من 25 شركة حراسة أمنية، كبيرة ومتوسطة وصغيرة الحجم، تتراوح أعداد منتسبيها من 5 الى 6 آلاف، وتحصل على تراخيص العمل من وزارة الداخلية، وتشتري سلاحها من السوق المحلية، ويملكها عِدة تجار ونافذين في السلك العسكري، كان بينهم ابن أخ الجنرال الفار علي محسن الأحمر، ونافذون آخرون، وأحياناً يقوم أفرادها بالتدرب على الرماية في بعض المعسكرات التابعة للجيش، وتقول بعض الشركات إن هذا يتم بالتنسيق مع المعسكرات، بينما تشير المعلومات الى أن بعض هذه الشركات مملوكة لقادة تلك المعسكرات.
يعمل ضمن طواقمها ضباط وجنود من أفراد القوات المسلحة والأمن من المتقاعدين وغير المتقاعدين الذين مازالوا حالياً في الخدمة ويعملون كحراس أو مدربين، في الوقت الذي تفتقدهم فيه ساحات الدفاع عن الوطن التي جعلوها خلف ظهورهم، لأسباب كثيرة، منها العقيدة الهشة التي بنيت عليها كثير من وحدات القوات المسلحة، والولاءات المتعددة للجيش، ثم الهيكلة التي أفقدت بعض الوحدات البوصلة، فتاهت بين الاتجاهات، واختارت العمل النصف مدني بعيداً عن تعقيدات الوضع السياسي والعسكري، وهرباً من مواجهة الاختيارات الصعبة والمصيرية، والبعض اتجه لهذه الشركات بحثاً عن الراتب الذي انقطع بسبب العدوان، فالراتب كان الرابط الوحيد بين بعض المجندين ومعسكراتهم.

كيف بدأ وأين أصبح الجيش؟!
تأسس الجيش النظامي في شمال اليمن عام 1962، وذلك بقيام ثورة 26 سبتمبر، وفي الجنوب تأسس الجيش الاتحادي في 1959 قبل قيام ثورة 14 أكتوبر والاستقلال بعدة سنوات، وبعد حرب صيف 1994 الأهلية، تم تسريح معظم كوادر الجيش الجنوبي سابقاً، وتقويض مؤسساته، بإيعاز أمريكي، على اعتبار أنه ذو منشأ عقائدي مناهض للهيمنة الأمريكية ومشاريعها الاستعمارية. 
باتت الفرقة الأولى مدرع والحرس الجمهوري هما الوحدات الأكبر والأهم في الجيش اليمني عقب الحرب، إضافة الى وحدات أخرى تابعة للحرس الجمهوري، أطلق عليها الحرس الخاص والقوات الخاصة. وتولت الدفاع الأمريكية تشكيلها وتدريبها بموجب اتفاقيات ما يسمى (مكافحة الإرهاب). 
لم يخض الجيش اليمني أية حروب خارجية من بعد عام 94، ولكن دخل في عدة حروب داخلية أهلية، أبرزها الحروب الـ6 على صعدة. وفي 2012 تمت هيكلته خلال أزمة ما سمي الربيع العربي، وفي 2013 جاء ترتيب الجيش اليمني في المرتبة الـ43 عالمياً في قائمة أقوى جيوش العالم، والـ5 في ترتيب الجيوش العربية، بالرغم من الهيكلة. 
وفي 2015 شن تحالف قوى العدوان الأمريكي حرباً على اليمن، ولم يكن الجيش اليمني متصدراً فاعلاً وصاحب ثقل في المواجهة، ويعزو كثيرون ذلك الى أن الجيش كان متعدد الولاءات، وإلى الهيكلة التي طالته في عهد الرئيس الخائن عبدربه منصور هادي.

العقيدة المهزوزة ثم الهيكلة 
لا يبدو أن تعبير (هيكلة الجيش) تعبير دقيق لما حصل للجيش اليمني في عهد الرئيس الخائن عبد ربه منصور هادي، وتعبير (تفتيت الجيش عملياً وعقائدياً) هو المصطلح الأكثر دقة لوصف ما حصل له أو على الأقل ما تبقى منه.
فالجيش اليمني أو الجزء الذي كان يمثل جيشاً حقيقياً منه، إذا افترضنا أن أجزاء مثل الفرقة الأولى مدرع وكل الألوية التابعة لها، كانت ولاءاتها للجنرال الفار علي محسن الأحمر، ولم يكن ولاؤها للوطن، وتمثل الجناح العسكري لحزب الإصلاح، قد عُبث بعقيدته، وفقد المصداقية بقيادته، ما جعله عاجزاً عن اتخاذ القرار، وجعل المجندين يبتعدون عن الساحة القتالية، ويبتعدون عن الوطن وقضاياه، ويتجهون نحو أولويات أخرى ليس من ضمنها الدفاع عن الوطن والصبر من أجله في وقت المحن والشدائد. ورغم انضباط الحرس الجمهوري ومستوى تأهيله، إلا أنه هو الآخر كان مغلول الولاء ببطريركية شخصانية متمثلة في قائده نجل الرئيس الأسبق، كما أن الجيوش النظامية ـ في الغالب ـ تفقد قدرتها على الحركة والمبادرة في منعطفات الفراغ السياسي التي تعمَّد المدير التنفيذي الأمريكي إغراق اليمن فيه بغية وأد ثورة 21 أيلول، والتمكين لمشروع الأقلمة والتفتيت الاستعماري.  

تُقدم القليل وتربح الكثير
مع أن كل ما تقدمه شركات الحراسة هو خدمة أمنية متواضعة، إلا أنها في المقابل تجني أموالاً كثيرة من عملها القائم أولاً وأخيراً على الربح أكثر من أي شيء آخر، وهي أيضاً تحظى بسمعة سيئة في تعاملها مع منتسبيها في ابتزاز واضح لشظفهم، وتستقطب أو بالأصح تستغل أفراد القوات المسلحة والأمن للعمل معها، موفرة على نفسها التدريب والتأهيل اللذين يحتاجهما أفرادها المدنيون.
العودة للمعسكر هذه الفترة مخاطرة! 
محمود علي (اسم مستعار لحساسية وضعه) (26 عاماً) أحد أفراد قوات الحرس الجمهوري، والذي يعمل حارساً لمول تجاري مع إحدى الشركات الأمنية مُنذ أكثر من عامين، يقول إنه التحق بهذا العمل في البداية ليضاعف مصادر دخله، ولكن مع انقطاع الرواتب أصبح عمله مع الشركة هو العمل الأساسي، وقال إنه لم يعد يفكر بالعودة للمعسكر حتى وإن عاد الراتب، خاصة هذه الفترة..!

لم تصلنا أوامر بالتحرك!
أحمد محمد (اسم مستعار لحساسية وضعه) (28 عاماً) حارس يعمل مع إحدى الشركات الأمنية في مطعم، مُنذ عامين، علمنا منه أنه أحد أفراد القوات الخاصة، وأخبرنا أنه قد تلقى تدريبات خلال فترات كثيرة في دولة عُمان قبل العدوان على بلادنا، وقال إنه ذهب للعمل مع شركات الحراسة بعد أن تجمدت الأعمال في معسكره، وأنه وكثيراً من زملائه لم يتحركوا لأية جبهة لأن الأوامر لم تصلهم بذلك..!   

ولادة أكثر صلابة
هكذا تمزق الجيش اليمني وتباعدت أسفاره؛ بسبب بَنّاء قصير النظر وعدو حاقد ورئيس خائن، وأصبح ذكرى حزينة تعود الى الأذهان مع أهازيج (يا مارداً في هامة التاريخ يقهر المحن).
لكن ثورة 21 أيلول علمت اليمنيين أن ذرف الدموع والتحسر على الماضي لا يجدي، واتجه الشعب مع القيادة الثورية الوطنية اليوم لصنع جيش اليمن ومارده الجديد، ليعود عظيماً كما لم يكن من قبل.


الـ(بودي جارد) حرس جمهوري
للوهلة الأولى ترددت في الدخول، لأني اعتقدت أني أقف أمام مبنى سري لوزارة الدفاع؛ تمت المبالغة في تمويهه لينتصب في الشارع العام! ثم سرعان ما أكدت رائحة الطعام المنبعثة منه أني أقف أمام مطعم.
الحارس الضخم مفتول العضلات وحاد البصر، الذي يحمل سلاحه بتأهب تام، وكأنه يقف أمام مُنشأة نووية، يوحي بأن المكان موقع عسكري لا مطعم. عمود الشاورما الذي كان بجوار الحارس، والدجاجات التي كانت تتخصب، عفواً تنضج بداخل الشواية، تنعم بالأمان أكثر من شعب يعيش تحت غارات العدوان، إنها في مأمن من كيد البؤساء وغارات الجائعين.
كانت كثير من تفاصيله تحكي تدريباً وخبرة لفارس نوعي صُمم لأصعب المعارك، ولم يصُمم لحراسة المطاعم، إنه جندي تم إعداده وصناعته ليحرس الوطن، لكن ما الذي أتى به الى هنا؟  
كان لابد أن أصبح صديقه لأعرف قصته، وبعد أن صرنا كذلك، باح لي بقصته، وأخبرني أنه كان أحد جنود القوات الخاصة، وأنه تلقى شتى التدريبات في بلادنا وفي دولتين أُخريين، لكن تمزيق الجيش باسم الهيكلة، ولاحقاً العدوان الأجنبي ـ حد قوله ـ أوصلاه إلى هذا المصير: مجرد حارس على بوابة مطعم يذود المحتالين والمتسولين عن حدود المطعم، لا الأعداء عن حدود الوطن.