صنعاء القديمة.. روحانية تتسامى على العدوان
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا

(المدينةُ التي تتنفس التاريخ
هذا الحجر في هذا البناء الذي تضع يدكَ عليه
ينطقُ بحديثٍ طويل
يحكي تعب القرون
وهذا بابُ اليمن
وكل لحظةٍ تستحق التصوير
لكن الصورة خرساء
لا يمكن للصورةِ أن تنطقَ مهما برع المصور
لا يمكنها الحكي كهذه البيوت القديمة )
....
ومن أزقتها القديمة وروحانيتها الفريدة التي افتتحها عاشقها د. عبدالعزيز المقالح.. نُلقي ضوءًا ينيرُ درب إطلالتنا عليها من (مشربياتِ) الشهر الكريم، فرمضان هذا العام أطل على أزقتها، ومساجدها، وأسواقها، حزيناً متألماً مما آلت إليه حالها..
صنعاء الروح التي تشتهر بتميز عادات وتقاليد الشهر الكريم، وطقوسها فيه التي لا تضاهيها أية مدينة عربية في استقباله، بدت هذا العام تقاوم حزنها جراء العدوان البربري الغاشم والحصار الاقتصادي، وتراجع القوة الشرائية، واختفاء (بعض) العادات الجميلة التي هي من خصوصياتها..
فكان لصحيفة (لا) أن تجولت في أسواقها، والتقت بعض (سكانها)، لتنقل للقارئ الكريم تلك الأجواء، وكيف هي صامدة في مواجهةِ كل طارئ يحاولُ عبثاً أن يفقدها خصوصيتها..
الليلةُ الأولى لرمضان..
في الليلةِ الأولى للزائرِ الكريم، يترقبُ سكان صنعاء القديمة ثبوت رؤية الهلال، ثم تبدأ مآذنها بروحانيةِ استقباله، وإحياء تلك الليلة بحلقاتِ الذكر وتلاوةِ القرآن حتى الساعاتِ الأولى للفجر، أما على المستوى الاجتماعي فتجتمع نساء (الحارات) في بيتٍ واحدةٍ من (رباتِ البيوت)، مع تنسيقٍ مسبق، ويستمر السهر حتى وقت إعداد وجبة السحور... بتلك المقدمة بدأت حديثها (أم لجين)، ربة بيت، وأضافت: هناك أكلات خاصة في رمضان، لا تظهر إلا خلال هذا الشهر، ومنها الحلبة الحامضة و(فتة) الذرة، اللتان يفضل تناولهما في وقت السحور، أيضاً الحليب لقدرة تلك الأصناف على مقاومة الجوع، كذلك (فتة) الحلبة البيضاء وجبة هامة في رمضان، وهي مقاومة للعطش. كذلك معظم أهالي صنعاء القديمة يستخدمون شراب (القديد)، وهو عبارة عن نقيع المشمش المجفف، وذلك أثناء الإفطار، إضافة إلى صنف آخر لا يوجد إلا في رمضان، وهو الخل البلدي الذي كان يصنع على نطاق واسع عند الكثير من الأسر في صنعاء القديمة، ويباع في الأسواق، ولكنه الآن أصبح يصنع على نطاقٍ محدود عند بعض الأسر فقط.
وتختم (أم لجين) بقولها: كل هذه العادات والطقوس لا زالت موجودة رغم تأثر البعض منها بالحصار الاقتصادي الذي فرض على بلادنا من خلال (العدوان) الجائر، والذي له أكثر من عامٍ ونصف.. فيلاحظ تراجع الاهتمام بشراء بعض الحاجيات التي قد تُكلف (رب الأسرة) الكثير من توفير ميزانية خاصة.

فرصة لتقوية أواصر القرابة
لرمضان في صنعاء القديمة نكهة أخرى، وهي تقوية الصلات الأسرية، حيث لا بد للأسر التي تفرقت وسكنت في منازل منفصلة، أن تجتمع مرتين أو ثلاث مرات على الأقل في المنزل الكبير، أو منزل العائلة، للعشاء، وأحياناً (السمرة). والسمرة كانت في صنعاء القديمة لها أوقات خاصة للنقاش والأدب وقراءة الكتب وتلاوة القرآن مع التفسير، ولكن هذه العادة بدأت تختفي قليلاً، وذلك لتأثير التكنولوجيا المعاصرة.. بحديثه الشجي أضاف محمد جار الله: كذلك كانت هناك عادة أخرى اختفت تماماً، وهي أنه قبيل الذهاب إلى السمرة، تجتمع كل أسرة لقراءة سورة ياسين، إما على شكل أدوار واحداً تلو الآخر، حتى تكتمل، أو قراءتها بصوت واحد. وهذه الطقوس تؤدى كل يوم، وبعدها يذهب الجميع إلى السمرة..
واستدرك جار الله: في الوقتِ الحالي، مع استمرار الحرب الظالمة والعدوان على بلادنا، ونظرًا لعدم وجود الكهرباء كما كانت سابقاً، يكتفي البعض بالزياراتِ القصيرة، حفاظاً على أواصر العلاقات الاجتماعية على مستوى الحي الواحد، وحتى لا تحدث القطيعة والجفاء.
الحلويات الصنعانية
ولا تكتمل تلك الأماسي الرائعة إلا بوجود (صحن الحلويات) الصنعانية بعد الإفطار، والتي ترافق لياليه طوال الشهر الكريم، حيث اشتهرت بها صنعاء القديمة منذُ زمنٍ طويل. يقول عادل المفلحي، أحد بائعي الحلويات، إن محله يشهد ازدحماً كبيراً مع إطلالةِ هلال رمضان من كل عام، وأن الإقبال على الحلويات يزداد بشكلٍ كبير خلال الأيام المباركة، لا سيما الرواني والقطايف، والشعوبية والبقلاوة، حتى إنه في كثيرٍ من الأحيان تنفد الكمية ولا يزال الطلب موجوداً.. ويضيف المفلحي بحسرة: لكن في الوقتِ الراهن مع الحصار الاقتصادي والعدوان على الوطن، والذي من خلاله تراجعت القوة الشرائية عن ذي قبل، بات أغلب الزبائن يكتفون بشراءِ كمياتٍ محدودة، وقد لا تكون بشكلٍ يومي!
الاستغناء عن الكماليات
رؤية أخرى يلخصها في بضع كلمات الأخ محمد عبدالله المنصوري ـ مدرس ـ بقوله: يمتاز اليمنيون عموماً، وسكان صنعاء خصوصاً، بالصبر والجلد، وعزة النفس والكبرياء. هذا ما جعلهم يستغنون عن الكماليات التي تعد في مجتمعات متحضرة من الضروريات؛ فبدل الغاز الحطب، وبدل الكهرباء اللوح الشمسي، ... إلخ. كما أن ثقته بالله والحكمة اليمانية جعلته أكثر تفاؤلاً بالغد المشرق.
ويضيف المنصوري: بلغ الحال بنا منتهاه، ولم نعد نحتمل أكثر من ذلك.. لا كهرباء، ولا ماء، ولا خدمات، ولا أعمال.. المواطن يبكي، والتاجر يبكي، الأطفال لم يعد لهم متنفس، الصغير والكبير يعاني. وهنا نناشد الجهات المختصة في الداخل توفير مادة المازوت لتشغيل محطتي حزيز، وذهبان، وهذا بدوره سيحسن عيشة المواطن، ويخفف عنه وطأة الحصار الجائر والمفروض لأكثر من عام .كما نناشد الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والداعمة، القيام بدورها تجاه سكان العاصمة البالغ عددهم ستة ملايين نسمة.
في وسط صنعاء
ورأي مختلف تميز به نظماً ليعبّر به عن خلجات نفسه تجاه الوضع القائم، الأخ خالد عكاشة ـ بكالوريوس مختبرات ـ قائلاً:
أيا صنعاءَ غُطي في سباتٍ
فما يجديكِ بعد اليوم صحوى
فأطفالكِ تموت ألمًا وقهراً
وليس سواكَ يا ربي فيدعى
تخاذل كل من حولكِ وأعرض
وما فيهم لنا نفع وفحوى
فلا ماءٌ ولا نورٌ وأمنٌ
ولم يبقَ لطفلي أي سلوى
ظلامٌ موحشٌ ونهارٌ قاسٍ
وجودي فيكِ ما له أي جدوى
فعذراً منكِ نلمسه مراراً
قتلتم روحنا في وسطِ صنعا
آخر الأوراق...
من خلالِ جولةِ (لا) وعدستها في أزقةِ وحواري صنعاء القديمة، مروراً بأشهرِ جامعٍ يتوسطها (الجامع الكبير)، وأبوابها الشهيرة (باب اليمن) و(باب السلام)، فإن الانطباع المستخلص من ذلك: أن هذه المدينة الصامدة والتاريخية تقاوم كل الخذلان بصمودٍ أسطوري يحاول العدوان أن يمحوه عنها، أو يؤثر على أشياءٍ مغروسة في أحشائها منذُ عصورٍ طويلة..
حتى أسواقها مفتوحة على مدار الساعة، تهزأ بأصواتِ الطيران حين يحلقُ بفجاجةٍ في سمائها، وتشهدُ ازدحاماً شديدًا لا يعترف بأي طارئٍ يفقدها روحانيتها، وجمالياتها الساحرة التي أخذت بألبابِ كل من اكتشف سحرها ونكهتها الخاصة..
الناس هنا يمارسون طقوسهم الرمضانية بكلِّ حفاوةٍ وترحاب بالشهر الكريم، رغم الوجع الذي يؤلم هذه المدينة وغيرها من مدن اليمن.
صامدون في وجه الحرب القذرة التي طالت العديد من معالمها، وتحاول عبثاً أن تؤثر على طقوسها الروحانية، بسببِ الحصارِ الاقتصادي المفروض لأكثر من عام.
صنعاء القديمة.. جميلة المدائن، وفاتنة عشاقها، تُرسل حمائم السلام لكلِّ العالم من أزقتها، وتُثبت أنها مدينة تعشقُ الحياة وتقدسها، ولن تؤثر فيها نائباتُ الزمن.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا