في البدء كان موقف. ثم ترتب على الإنسان أن يكون، إنساناً أو مسخاً، مع أو ضد، وليس بين الضدين موقع، إلا أن يكون في حيز أحدهما، بصورة أو بأخرى.. خلال فترة العدوان على الوطن، كان جديراً أن يفرز الصراع الوطني القائم مواقف متعددة، لاسيما وسط نخبة البلد المثقفة، بين أدعياء وأتقياء، لصوص وكادحين، وطنيين وخونة، أناس ومسوخ.. بهذه الصورة المحددة بالضدين، نرسم رصداً للموقف الذي يعبر عنه تراكم الثقافة والفكر، لنماذج مثقفين يمنيين جاء العدوان بمثابة ممحص عن الموقف الفعلي لهم.
إن الثقافة موقف، على المستوى العملياتي والنظري، خاصة في التواريخ الوطنية والاجتماعية الفارقة، كالتي تمر بها بلادنا، إذ يناط بها المهمة التنويرية للمجتمع، وتشكيل الوعي الجمعي له، وتقديم المعرفة والنظرية الخادمة لمجرى التحول الاجتماعي والوطني المنشودين، وليس من مثقف يزعم أن لا موقف له، تجاه جملة المتغيرات الجارية في واقعه، وموقعه منها، وبالضرورة له موقفه، الذي مهما أخفاه أو أجله، يكون الوقت كفيلاً بإظهاره. إذ للمجتمع آليته في إحداث هذه التحولات والتغيرات في بنية الثقافة والوعي.

نافذة فيسبوكية
ياسين سعيد نعمان، أمين عام الحزب الاشتراكي السابق، لا غرابة من الخاتمة التي حاكها لتاريخه السياسي، ذهاباً للرياض، وانتهاءً بسفير لدى المملكة المتحدة (بريطانيا)، ومزاولاً لشيء من النشاط السياسي من نافذة فيسبوكية، إذ جاءت الخاتمة انسجاماً مع نهجه الفكري والسياسي وانحيازه، على الرغم من دوغمائية مواقف عدة له وبراجماتيتها، وبرغم اندهاش البعض بذهابه للرياض.
كان ياسين أحد صانعي المبادرة الخليجية بكل ما تحمله من سوء، ثم عرف بأنه صاحب الفضل الكبير بإقناع روسيا بعدم رفع الفيتو على إدراج اليمن تحت الفصل السابع الاستعماري. وفي كتابه (عبور المضيق)، ضاقت الفكرة على كل قضية عدا الفصل السابع، حين جاء به مبشراً! أن أذعنوا رقابكم ليطالها سياف (الناتو)، وبـ(المجتمع الدولي ومعه) صلوا، فهو بحسب ما يذكر ياسين، مالك السبيل للحل!
راجعوا كتابات ياسين، خاصة زمنية ما بعد 2011م إلى مطلع 2015م، إنها تعج بتناقض أفكارها وأطروحاتها واعترافاتها، كل فكرة وشهادة تنقلب على الأخرى، وكأنه يحرص على ألا يكون له موقف ثابت من كل مفردة سياسية يناقشها. مثلاً حين يهلل للفصل السابع والمجتمع الدولي بالزعامة الأمريكية، يقول عن الحوار الذي جاء ثمرة عنهم بأنه (ذبح من الوريد إلى الوريد) على يد وكيلهم هادي!
بين كتابات ياسين كلها، يحضر مقطع لافت، لم يكن كذلك قبل بداية العدوان. كتب في 2014م تحت عنوان (بقع البارود على جدارية الحلم بوطن)، فقرة: إما الحل على قاعدة التوافق أو الحرب!
ضع عدة خطوط على هذا الطرح.. ساعة كتابة الموضوع، نُقد الكاتب على قاعدة خلل في المنهج واختلاف فكري وأيديولوجي، لكن؛ ومع شن العدوان، يقول واقع الحال بتفسير مغاير، إن ياسين كان يدرك ما الذي يخبئه لنا الخارج، فإما أن نمضي ونطيع الخط المرسوم لنا سلفاً في دوائر السيطرة العالمية، أو ستدركنا الحرب والكارثة، وهو حقاً ما حدث، حين انقلب شعبنا على عصا الطاعة الذي أشهر لتركيعه وتدجينه للإسطبلات الخليجية بالوكالة، وكفر بها.
بعد شن العدوان على الوطن، في مارس العام المنصرم، تخلص ياسين من موقف المخاتلة والبراجماتية في موقفه وكتاباته، فظهر جلياً بانحياز تام لصفوف العدوان وقادته، وتمت مكافأته بمنصب سفير، بعد أن كان يُرى بعيون الناس كرئيس قادم. انقلب ياسين على اشتراكيته التي يدعي، وعلى فكره وثقافته التي يبدو قايضها عند أول (صندقة) سمسار يدفع نقداً.
لنعد للخلف أكثر، (كلمة للتاريخ)، الصادرة عام 2012م، بمطبوع تبنته (المصدر) الإخوانية، كان ياسين من أشد الصارخين بوجه الثورة وأبنائها، وإن بطرق أكثر حذاقة والتفافاً، وهو يخاطب الثوار بـ(الدونكيشوتيين)، وبأصوات صاخبة (بلا سقف)، لأنهم رفضوا المبادرة التآمرية، والانصياع لمسار (المشترك) الالتفافي على الثورة والمجهض لها. وفي الوقت ذاته يحذر ياسين من (التماهي مع النظام الحاكم)! على اعتبار أن تلك إشكالية أفضت إليها الثورات العربية، وراحت تصنع زعيماً أوحد آخر يتملك السلطة والقرار، على ذات الشاكلة التي انتهت فيها تجربة المشترك وتنظيرات ياسين الكثيرة.

أنبياء الكلمة
ما أطهر الكلمة وأصدقها، نبيها المغدور، المنسحب من بين الأعين إلى فضاء الحضور الكبير، في الذاكرة والروح، في لج القضية والنضال والانتصار للإنسانية. ما أعظم الكلمة اليقف خلفها ضمير متقد، وقلب شجاع لا يحيد، وعينان لا تطرفان عن وجهتها.
للكلمة أنبياء، لا شك أن عبد الكريم الخيواني أحدهم. ولسنا هنا بصدد أن نقيم معه مقارنة، ذلك من اللاإنصاف؛ لكنه، لا يمكن الحديث عن المثقف الموقف دون أن يكون حاضراً.
مذ نطق الشهيد، كان ملتزماً بموقف ثابت، وأبعد ما يكون عن صبو مكسب ما، عدا القضية التي آمن، تحرير الإنسان اليمني من واقع القهر والعبودية والتبعية والجوع، منذ انخرط في العمل السياسي والصحفي، حتى اللحظة التي استقبل فيها رصاصة قاتلة، الثمن الذي أخذه القتلة من الخيواني مقابل ما تسبب به من خسارة فادحة لمصالحهم القائمة على حساب ملايين الجياع.
كان صادقاً بنضاله ضد السلطة القديمة، وسلطة (الوفاق) التي ورثتها، وبنضاله حين تكالب العالم بقواه العظمى على البلاد بعد 21 أيلول.. لم تتمكن قوة الإرهاب من ثنيه تهديداً ولا اعتقالاً وتعذيباً وتجويعاً وملاحقة، لا مخازن الأموال تمكنت من شراء موقفه، ولا عروض المناصب والإغراءات الطائلة. كان يعلم يقيناً أنه على الطريق الصحيح، وأنه سيضيئه بدمه.

المثقف والموقف
طيلة فترة العدوان، كانت المفاجآت تتقاطر على أعيننا وأسماعنا، إما بشخصيات مغمورة جاء موقفها المشرف ليضع لها مكاناً من حيز الانتباه الجماهيري والتأثير بهم، أو بشخصيات كانت على النقيض مما توقعه عنها الشارع، على اعتبار أنها ساهمت بطريقة ما في تشكيل وعيه السياسي.
للخيار الأول، ينتمي عبد الله سلام الحكيمي، وللثاني ينتمي خالد الرويشان.
يعد حدث انقلاب أكتوبر 78م الذي قام به التنظيم الناصري، من أهم اللحظات السياسية للمخضرم السياسي اليمني عبد الله سلام الحكيمي، رئيس تحرير صحيفة (13 يونيو) وعضو القيادة التنفيذية للتنظيم تلك الآونة.
في محطتي 2011م و2014م، كان للحكيمي مشاركته السياسية الفاعلة البارزة، لاسيما عبر وسائل الإعلام، لكن المسألة كانت مختلفة مع بدء العدوان على اليمن أواخر مارس العام الماضي. فقد ظهر السياسي المخضرم من على الشاشات بتصريحاته السياسية الثورية الرنانة بمواجهة العدوان على الوطن، وبمواجهة كل من وقف معه، وخاصة من أحزاب اليسار، التي بين في إحدى مداخلاته، أنها تلاشت طيلة سنوات، واختتمت تاريخها بذهابها للرياض، ووقوفها ضد الشعب مع العدوان. ولا يزال الحكيمي حتى اللحظة، يغترف من مخزون تجربته النضالية، النصائح والانتقادات والتحليلات الإيجابية، بمساندة القيادة الوطنية اليمنية في مواجهة العدوان.
وفي المقابل، تمسك خالد الرويشان، وزير الثقافة الأسبق، طيلة سنوات خلت، باللاموقف، أو لنقل موقف (الحياد)، إزاء جملة المتغيرات والتحولات في المشهد السياسي الاجتماعي والوطني اليمني. حتى اللحظة التي فرَّ فيها العميل هادي إلى عدن، ليلحقه الرويشان إلى هناك، معلناً له الولاء والطاعة، وللمشروع الذي يقوده بالوكالة.
ولم يبقِ الرويشان، إلا على مقولة: سكت دهراً ونطق كفراً، وغزل عقيم بالأرض اليمنية في جماليتها كـ(فيسبوكي) آخر، فيما يتجاهل مشاريع التمزيق لها، ولا يعدو الغزل هذا عن كونه تناسقاً ورغبة أنانية منمقة ومغلفة بالكلمات وتركيبها، والغرض منها، أشبه ما يكون اغتراباً عن واقع الحال، وهروباً ومغالطة عما يدور في الميدان.
أنموذجان، الأول من صلب التحول الوطني يتخلق للمشهد السياسي مجدداً، وآخر من بلاط النعمة وأرباب الأمر وفردوس الحياة، يخرج من المشهد السياسي، ويتحلل حتى يصبح بلا ذكر، مقابل من تخلدت أسماؤهم على صخرة الذاكرة الوطنية اليمنية.

قبلة غير القبلة
تتالياً، يبدع أحدهم، في تجسيد حالة الانقلاب على مواقفه وادعاءاته، وفي براعة التلون المستمر.
في مقابلة له مع قناة (الميادين)، العام 2013م، يظهر عبد الملك المخلافي، وزير خارجية الفار هادي الحالي، كخصم لدود للرجعية العربية التي وضع السعودية زعيمة لها، باعتبارها متآمرة على القضايا العربية، والثورة القومية والتحرر، والوحدة العربية، ومشروع عبد الناصر. وكذا تآمرها على اليمن وتخريبها وحربها المتواصلة عليه، واغتيالها الشهيد الحمدي.
كل ذلك، كان زيفاً، لوناً تلبسته الرغبة في مواكبة الزخم الثوري والوطني المتصاعد في الشارع اليمني على امتداد الرقعة الوطنية آنذاك، وفي لحظة كان غضب الجماهير وقود هؤلاء للوصول إلى مكاسب السلطة وموقع النفوذ السياسي والمالي.
فمع بدء العدوان، كان المخلافي أحد الذين حجوا حراماً إلى قبلة غير القبلة، إلى الرياض، ضمن موكب العميل هادي، في أكثر الانقلابات صخباً على كل موقف وكل قيمة ومبدأ أعلنوا انتصارهم له والنضال لأجله. إذ بين ليلة وضحاها، لم تعد السعودية رجعيةً، ولا ربيبة للاستعمار، ولا انقلابية ومتآمرة، بل أصبحت، وفقاً لما تنضح به جعب هذه النخب، قائدة لـ(النهوض العربي).
على هذا الخط الملعون، لكم هم كُثر، يتساقطون أمام لمعان القطع الذهبية، وما أصدق العبارة التي لا يمكن إلا أن نواصل استحضارها لمدى بلاغتها ونجاعتها: المثقفون هم الأكثر قدرة على الخيانة، لأنهم الأكثر قدرة على تبريرها (لينين).
والمخلافي، واحد من بين العشرات والمئات من مثقفي اليسار والقوميين، الذين ظلوا طيلة سنوات يرددون الشعارات الرنانة والخطابات الندية الوفيرة، وادعاء العداء والصراع مع الاستعمار و(الإمبريالية)، ومع الرجعية العربية، بمقدمتها السعودية، التي اتضحت أنها محض خدعة ليس إلا، اتخذوها لسرقة عقول الشارع وضمائرهم، وسريعاً تهاوى كل ذلك، حين جعلها الشعب برنامجاً لكفاحه الذي كانت 21 أيلول أبرز تبلوراته، وصارت مساراً فاصلاً، فتنصلوا عنها وأنكروها كما ينكر الرجل طفله الحرام، وتبرأوا منها كلص فزع يفعل مع خطيئته ويديه، وككهنوت وضيع ينقلب على تعاليمه ويكفر بها حين تواجهه.