فجأة وبدون سابق إنذار، نُصبت الخيام، وخُصصت المراكز، وأخذت الاجتماعات تنعقد، والتصريحات تتوالى، فقد عاد وباء الكوليرا بعد هدنة لم تدم أكثر من 5 أشهر، بهجمة شرسة امتلأت على إثرها أسرَّة المستشفيات، والأخطر أن ما بات يعرف بـ(موسم الانتشار الثاني للكوليرا) وجد في الأم اليمن المثخنة بجراح الحصار والعدوان، بيئة مناسبة للانتشار السريع، بعد أن مزق العدوان أبسط مقومات الحياة، مدمراً البنى الصحية والبنى الجسدية للإنسان، مما أتاح للكوليرا حرية في نهش اليمنيين بعد أن جردهم العدوان والحصار من كل الوسائل اللازمة لمواجهة الوباء. وفي حين أن السلطات الصحية تحتفظ بخانة لاتهام العدوان بتوجيه ضربة جرثومية لليمن، تحذر المنظمات الصحية من كارثة خروج الوباء القاتل عن السيطرة.
خيط في الوريد يربطه بالحياة
عندما أسعف الطفل علي أحمد ناجي (8 أعوام) من منزله في حي شعوب إلى مستشفى السبعين، كانت حالته في مرحلة حرجة، فقد أنهك الجفاف الناجم عن الإصابة بالكوليرا كافة تفاصيل الجسد الصغير، فلم يعد في فمه لعاب، ولم تعد مساماته قادرة على النضوح بالعرق، وبعينين غارقتين ووعي ذاهل تم وضع الطفل علي في سرير داخل المركز المخصص لعزل المصابين في المستشفى. آمال الوالدين بعودة علي معهما إلى البيت، كانت منخفضة نظراً للوضع الخطير الذي كانت عليه حالة الطفل، وخلال 3 أيام كانت ذراعا الطفل موصولتين ليل نهار بقرب التغذية بالسوائل عن طريق الوريد، وشيئاً فشيئاً أخذت حالة الطفل علي تتحسن، يقول أحمد ناجي، والد الطفل، والشعور بالامتنان يغمر كلماته: (لقد كدنا نفقد الولد لولا فضل الله والجهد الذي بذله العاملون في المستشفى، فأنا لم أكن أعرف أن الكوليرا خطيرة إلى حد الموت).
 
ماراثون السباق على المقابر
وبحسب تعبير الأطباء، فإن حالة الطفل علي تعد (استثناء) بكل معنى الكلمة، في المجتمع اليمني، الذي يرزح تحت حالة من الفقر وسوء التغذية، إضافة إلى انعدام الخدمات الصحية وغياب حملات التوعية، وهي عوامل تآزرت مع بعضها لتصنع من الموت ملحمة يومية تتسابق فيها ماراثونات مواكب تشييع الجثامين إلى المقابر.
فالفقر وانعدام فرص العمل جعلا الناس أقل إقبالاً للحصول على الخدمات الصحية، التي لم تعد أصلاً في متناول الجميع، والفقر أدى إلى حدوث سوء تغذية بسبب عجز الأسر عن توفير احتياجها من الغذاء المناسب، وبالكميات الكافية.
 
المتزاحمون على بوابة الكوليرا
أمام بوابة مركز العزل المخصص للمصابين بالكوليرا في مستشفى السبعين بصنعاء، يتزاحم عشرات الأشخاص من الجنسين من مرافقي الأطفال الذين تم تخصيص هذا المركز لهم، بينما يضطر القائمون على المركز إلى رفض استقبال حالات البالغين، لأن المركز مخصص للأطفال المصابين فقط، مما يدفع مرافقي المرضى للصراخ وشتم القائمين على المركز لأنهم رفضوا استقبال مرضاهم، قبل الانصراف بحثاً عن مركز آخر.
وفي حديقة المستشفى هناك أسر استقرت تحت ظلال الأشجار إلى جوار أطفال ممددين على الأرض، بانتظار نتائج الفحوصات لتأكيد الإصابة حتى يسمح للحالة بدخول مركز العزل.

المرضى في كل مكان
عندما دخلت صحيفة (لا) إلى مركز عزل مصابي الكوليرا في مستشفى السبعين، كان المشهد مروعاً، عنابر الرقود وغرف العيادات تكتظ بالمصابين، أطفال ونساء من مختلف الأعمار اضطروا من كثرتهم إلى افتراش ممرات وطواريد العبور، بشكل يجعل من يشاهدهم يعتقد أن الكوليرا وباء ينتقل عبر الهواء، وليس عن طريق الجهاز الهضمي مثل ما هو معروف علمياً.
الدكتور ماهر الحداء، نائب مدير عام مستشفى السبعين، قال لصحيفة (لا) إن المركز كان يستقبل في بداية مرحلة تفشي الوباء بين 60 و70 حالة يومياً، وعندما تم تخصيص مستشفى السبعين لحالات الأطفال فقط، أصبح المركز يستقبل من 30 إلى 40 حالة يومياً.

تحالف القمامة والأوبئة
حتى يوم الأربعاء الفائت كان هناك 68 حالة رقود في مركز استقبال حالات الكوليرا بمستشفى السبعين، والتي تأخذ فترة رقودها من اسبوع إلى أسبوعين حسب نوعية المضاعفات التي تعرضت لها الحالة، باستثناء عشرات الحالات التي يستقبلها المركز على مدار الـ24 ساعة لمصابين بوباء الإسهالات المائية (الكوليرا)، والتي تقضي مدة تترواح من يوم إلى يومين قبل أن تشفى وتغادر المركز.
الدكتور ماهر الحداء قال إن (المركز يواجه عجزاً في كل شيء، سواء من حيث نقص المحاليل والأدوية أو نقص الكادر).
في حين سجل مستشفى السبعين منذ بدء موسم التفشي الثاني، وفاة حالتين؛ الأولى لطفل في الـ4، والحالة الثانية لشابة في الـ23، حسب إفادة المختصين في المستشفى.
وحول التوقعات لارتفاع أعداد الإصابات من عدمه، أفاد الدكتور ماهر الحداء باحتمالات تراجع أعداد المصابين، رابطاً بين تفاقم أعداد المصابين بالوباء في أمانة العاصمة، والقمامة التي تكدست في الشوارع، مؤكداً أن الأوساخ لها علاقة في تفاقم الوضع، وأشار إلى أن حجم الإصابات قد يشهد تراجعاً مع رفع القمامة من الشوارع.
الإحصائيات التي حصلت عليها صحيفة (لا) من وزارة الصحة حتى يوم الأربعاء الماضي، قالت إن عدد الحالات بلغ 3381 كاشتباه، منها 85 مؤكدة، وهنالك 39 حالة وفاة اشتباه كوليرا، أما المؤكدة فهي 6 وفيات.

أين كانت الكوليرا ونحن نشرب من الآبار سابقاً؟
حتى الآن لا يبدو أن تحميل المسؤولية على قضية المياه التي لا تحظى بإضافة مواد المعالجة الكيميائية، وانعدام شبكات الصرف الصحي، مقنعة لدى كثيرين من أفراد المجتمع، لتحميلها سبب تفشي وباء الكوليرا بهذا الحجم.
 حيث إن المجتمعات الريفية التي تشكل نسبة 80% من سكان اليمن، لم تكن تعتمد أصلاً على المياه المعالجة بالوسائل الكيميائية الحديثة، بل إن سكان الريف كانوا يعتمدون أصلاً على مياه الآبار والبرك، التي كانت محل قصف مركز من طيران العدوان الذي دمر 307 مصادر للمياه خلال عامين من العدوان، بحسب بيان المركز القانوني للحقوق والتنمية، في حين أن مسألة توافر شبكات صرف صحي، والتي يصنف غيابها على أنه السبب الرئيسي لتوفير البيئة الحاضنة للكوليرا، لم تكن متواجدة في معظم أنحاء اليمن سواء المدن الحضرية أو الأرياف، فما الذي وفر المناخ المناسب لانتشار وباء الكوليرا خلال العامين الأخيرين، بشكل دفع منظمة الصحة العالمية لإعلان أن (الكوليرا أصبحت وباء يجتاح اليمن)؟ واتهام المياه يجعلنا مثل الببغاوات نردد ما يُقال لنا دون أن نعرف حقيقة ما يقال، خصوصاً أن محافظات ذات طابع ريفي مثل صنعاء والمحويت وحجة وذمار وعمران والبيضاء، تعد الأكثر إصابة إلى جانب أمانة العاصمة.

من يُقنع أهالي العاصمة؟
أمانة العاصمة صنعاء لم تكن بمنأى عن اجتياح وباء الكوليرا، رغم أن الأمانة تعد مخدمة أفضل من غيرها بشبكات المياه والصرف الصحي، إلا أن ذلك لم يشفع لها، حيث تدخل ضمن المحافظات الـ7 التي تتصدر قائمة محافظات اليمن المنكوبة بالكوليرا.
فإذا كانت المشكلة تكمن في تلوث المياه وعدم وجود خدمات صرف صحي في الأرياف، فكيف يمكن تبرير انتشار الوباء في أمانة العاصمة؟

هذا الصيف مع الكوليرا
الدكتور عبدالحكيم الكحلاني، المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، في حديثه مع صحيفة (لا)، لم يستبعد احتمالات أن يكون العدوان قد استهدف اليمن بحرب جرثومية، فإلى جانب تعريف الكحلاني بأن (الكوليرا مرض بكتيري ينتشر عن طريق مياه شرب ملوثة أو أطعمة ملوثة، وأن فصل الصيف يعد موسم انتشار الإسهالات، وأيضاً موسم الأمطار التي تزيد من المشكلة عندما تجرف السيول كل قاذورات ومخرجات الإنسان الملقاة في الشوارع والطرقات إلى داخل الآبار السطحية المكشوفة، كما أن تكدس القمامة سبب في حدوث الإسهالات).

الحرب الجرثومية في مسرح الجريمة
وأضاف المتحدث باسم وزارة الصحة: (ويبقى هنالك خانة لاتهام العدوان بأن يكون قد استهدفنا بحرب جرثومية، وهذا سؤال مطروح فعلاً، فهو عدوان غاشم بدون أخلاقيات أو شرف أو قيم، ولا يتورع عن استخدام أي حرب ضد الشعب اليمني كالحرب العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية، فهو يحاربنا حرباً صحية قذرة؛ يريد فيها أن ينهار النظام الصحي كحرب إبادة جماعية لشعبنا بالتجويع وسوء التغذية وبالأوبئة، إن كل وضع متردٍّ يعيشه الشعب اليمني هو بسبب العدوان والحصار، منظمة الصحة العالمية حذرت من كارثة الكوليرا، وقالت إن الحرب هي سبب رئيسي لانتشار الكوليرا).

لازلنا في البداية
في موجة الانتشار الأول لم تسجل أمانة العاصمة سوى 14 حالة كوليرا، وخلال شهر انتهت الحالات في أمانة العاصمة، ولم تسجل أية حالة جديدة منذ نوفمبر 2016. وقد بقيت أسرة المستشفيات في العاصمة فارغة من أية حالة كوليرا، على حد تعبير الدكتور الكحلاني.
لكن منذ الـ27 من أبريل الماضي اندفع وباء الكوليرا بشكل لا يعرف التسامح، مما جعل المؤسسات الطبية العاملة في اليمن تقرع نواقيس الخطر بسبب الأعداد المتزايدة للمصابين، محذرة من كارثة على وشك الحدوث، حيث قالت منظمة أطباء بلا حدود، في بيان أطلقته الخميس الفائت: (نحن قلقون للغاية من أن انتشار المرض سيستمر ويخرج عن السيطرة)، وهذا الكلام يعني أنه قد تتكاثر الحالات بحيث لا يستطيع أحد أن يسعفها بالخدمة الصحية اللازمة، خصوصاً أننا نتحدث عن وباء يقضي على حامله خلال ساعات قليلة.
بينما أجاب المتحدث باسم وزارة الصحة في رد على سؤال لصحيفة (لا) حول إمكانية ارتفاع أعداد المصابين، قائلاً: (للأسف نعم لا نزال في بداية الهرم الوبائي، والحالات تتصاعد يوماً بعد يوم، فالوضع مقلق لنا كأخصائيي وبائيات).

محاولات لإقناع الوباء بالتوقف
الأعداد الكبيرة للمصابين، جعلت ما تبقى من مرافق القطاع الصحي عاجزة عن استيعاب الأعداد المتزايدة للمصابين بالوباء، وقد أفاد الدكتور عبدالحكيم الكحلاني أن الوزارة تستعد بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية لافتتاح مراكز جديدة لاستقبال المصابين خلال هذا الأسبوع، لتخفيف الضغط عن الـ26 مركزاً التي تعمل حالياً، وأضاف أن الوزارة اتخذت جملة من الإجراءات تتمثل في تجهيز الترصد الوبائي لتلقي البلاغات فوراً والاستجابة لها سريعاً، وتدريب أكثر من 100 طبيب وممرض كفرق استجابة سريعة للتحري عن البلاغات وجمع العينات منها بعد إجراء الفحص السريع، إلى جانب تدريب 30ـ40 طبيباً وممرضاً من كل محافظة لمواجهة الوباء، وبدء حملة توعية مكثفة، من قبل المركز الوطني التثقيف والإعلام الصحي.

الكلور لمنع حدوث الكارثة
وأشار الكحلاني إلى أن الإجراء الأخير في قائمة تلك الإجراءات، يتمثل بقيام وزارة المياه والبيئة، وبدعم من منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، (لكلورة) مياه الشرب لمحاصرة الوباء سريعاً. وقال في ختام حديثه إن هذا الإجراء يجب التحرك به سريعاً من قبل وزارة المياه والبيئة لإطفاء حريق هذه الموجة الشرسة من وباء الكوليرا قبل حدوث كارثة لا سمح الله.

التعنت والمماحكات
تعنت وزارة المالية في صرف رواتب عمال النظافة لم يكن خارج المعركة مع الكوليرا، حيث أشار الكثير من الأطباء إلى أن تكدس القمامة في شوارع العاصمة كان له دور في تفشي الوباء داخل أمانة العاصمة، والذين قالوا إن المعركة بدأت للأسف في بيئة متسخة وفرت مناخاً مناسباً لانتشار الوباء، ولم تساعد في محاصرته، والآن من الصعب أن نتحدث عن إمكانية الاجتثاث طالما أن أعداد المصابين كبيرة، وأصبح الإنسان هو الحامل للبكتيريا بعد أن انتقلت إليه من البيئة المحيطة.

أفيقوا فإن العدو لا يرحم
لم يدرك الكثير من المسؤولين، أن خطأً يرتكب من قبلهم له نتائج كارثية، في هذا الوقت الحرج الذي تمر به البلاد، والذي لم يعد فيه مكان لأي موقف متعند أو سذاجة، ورفع القمامة بعد تفشي الوباء لا يعفي وزير المالية من الاتهام بالتسبب في مساعدة الوباء على التفشي في أمانة العاصمة.
وإذا كان الجميع متفقين على أن العدوان والحصار يعد المسؤول عن انتشار وباء الكوليرا سواء بما فعله بتدني المستوى المعيشي للشعب أو بتدمير القطاع الصحي، إلا أنه يفترض به أن يكون حافزاً لدى الجميع للبقاء في حالة يقظة مع عدو أثبت أنه لا يتمتع بأدنى درجات الإنسانية، ولا مانع لديه في إبادة اليمنيين بأي سلاح متوافر.