الواقعية: المصطلح
- د. محمد النهاري الأربعاء , 22 يـنـاير , 2025 الساعة 12:11:17 AM
- 0 تعليقات
د. محمد النهاري / لا ميديا -
يعرّف النقاد الواقعية بسهولة اللغة وبعدها عن التكلف والصعوبة، وكذلك البعد عن الإطالة والابتذال التي لا ضرورة لها. وتتميز الواقعية باستخدام شخصيات واقعية في حبكة معقدة. وتتضمن الواقعية التركيز على القضايا الاجتماعية وصراعات الحياة اليومية وحقائق الحياة. وهي حركة أدبية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، وجدت ضد الرد الرومانسية. والواقعية شكل من أشكال التعبير الأدبي ولون من ألوان النقد الفني.
ونرى أن نقف عند ما يؤديه هذا المصطلح، وهو أن يكون معناه وصف حدث ما موافقاً للحدث بجانبيه الزمني والفني، والفني أي أن يكون الحدث وقع بالفعل ملتبساً بزمن، وأن يكون متخيلاً، بعبارة ثانية أن الخيال قد يختلق حدثاً غير مطابق للواقع، يعني أن يكون الفنان قد اختلق حدثاً من ذات نفسه يطابق زمناً، وهذا يسري على كل التعابير الفنية والأجناس الفنية، شعراً وقصة ومسرحية ومقالة. وفي العادة لا يسأل المبدع أو الفنان إن كانت قصيدته أو مسرحيته قد حدثت بالفعل. ولا بد أن نشير إلى أن بعض الأعمال الأدبية قد تلتبس لعمقها وصدق تجربتها بأحداث وقعت على الحقيقة، ليقوم «معالي» الرقابة بمنع هذا العمل أو ذلك، كما حدث لرواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، إذ اتُّهم بالتجديف نحو الذات الإلهية. ومن العجب أن رئيس الجمهورية، جمال عبدالناصر، كان يتدخل أحياناً لإجازة روايات أو مسرحيات ممنوعة من قبل الرقيب. كما أن بعض روايات سينمائية قد تمنع بعض مقاطع فيها كما في روايتين لإحسان عبدالقدوس: «لا أنام»، و»الوسادة الخالية». كما منعت قصيدة البردوني «الغزو من الداخل» بعض الوقت واعتزم الرقيب منعها كونها تعقد الخلاف بيننا وبين «الأشقاء» في المملكة السعودية. بل وتتداعى الرقابة لتشكل أغنية تحمل إشارات جنسية كما في: «ارجع لحولك»، والتي غناها أيوب طارش، ومنع فنان ممتاز ذو صوت خاص، محمد أبو نصار، كونه من آل حميد الدين، لولا تدخل الرئيس علي عبدالله صالح للإفراج عن أغانيه وتأنيب حسن اللوزي -كما يقال- الذي قفز به التقرب من السلطة ليمنع عن الجماهير هذا الصوت الفريد النّدي لهذا الفنان الذي اضطر للهرب ليلاً من صنعاء لأنه «حميدي» باتجاه السعودية ولأنه يهاجم النظام!
في قصيدة لطفي أمان نقف عند معطيين اثنين:
الأول: واقعي زمني وتاريخي، ونعني به رصد البعد الزمني لقصيدة «ساحل أبين»، فنحاول تفكيك المصطلحين أولاً، أو نفكك الجملة المكونة من خبر ومتبدأ، «ساحل» الذي هو خبر وتقديره «هذا ساحل»، ثم الإضافة التي هي رسم المكان وتوقيته «أبين»، فالساحل هو الشاطئ أو شاطئ البحر، وهو المكان الذي يفصل بين البر والماء. أما «أبين» فهي محافظة يمنية تقع في الجزء الجنوبي الغربي لجنوب الوطن اليمني، وتحديداً العنوان من معطيات الواقعية الأدبية، أي أن الواقع يصبح مكانية ذا حدث أو يعبر عن زمانية حدث.
الثاني: حدث صياغي يلتبس بالواقع الفعلي الذي حدث بالفعل. ومن هذه الواقعية يحدد الشاعر وقوع الفعل متوخياً جعله واقعاً. فإن هي إلا الصدفة والصدفة وحدها مشاراً إليها، مراعاة للذوق الاجتماعي، وربما للعرف الديني، إذ يلتقي الشاعر هذه الفتاة الجميلة الرائعة. ولا بد أن نلاحظ السكوت البلاغي -إن صح التعبير- إذ يسقط مقدمات تمنح القارئ فرصة التخيل لبداية الحدث وتقف به على مباشرته:
«صدفة التقينا على الساحل وما به حد
صدفة بلا ميعاد جمع الهوى قلبين».
فللمصادفة دور في اختصار المقدمات الطبيعية الباعثة للمباشرة وتوحد الكيانين والتحام بعضهما ببعض، وهذا ما يعبر عن رغبة كظيمة سمحت الصدفة بالتعبير عنها بمشاعر دافئة وحميمية!
تعمل مدرسة نقدية حديثة على إلقاء المقدمات والتعبير عن الحدث بدون مقدمات وبدون نهايات، تاركة للقارئ أن يتخيل شكل البداية والنهاية معاً، ليتداول القارئ والمؤلف (المبدع) الكتابة كلتيهما، ليس واقعية الحدث وإنما الصياغة أيضاً!
والسؤال: هل من الضرورة أن يرسم المبدع المشهد أو على الصحيح لحظات المقدمات أو النهايات؟ وبصيغة أخرى: هل يقوم المبدع برسم ملابسات الفكرة كما هو الواقع (الجغرافي) إن صح التعبير؟ وهنا تتكون المفارقات التي تعبر عن طبيعة جنس أدبي أو آخر. فالسينما فن يعبر عن تتبع لحظات متتالية دون انقطاع، بينما الشعر قد يكتفي بالاختزال ويميل للرمزية: «والزرع أخضر والجهيش بالاحجان»، حيث الزرع جسم المرأة الثري، و»الاحجان» صدر الفتاة التي في سن النضج، ينبغي للراعي أو البتول أن يحرسه و»يسقيه». ولست بحاجة إلى إيضاح ما هو «الشقاء» هنا، بينما لطفي أمان يرسم الحركة بكاميرا مسموعة مرفقة بعدسة تصوير، تصور الواقعية بحركات بطيئة (Slowly) حيث يكون التعبير عن رغبة عارمة (longing).
يقوم نص لطفي أمان على تراتبية واقعية متوازية بين واقعية الحدث وواقعية الزمن. ويكتفي النص بمشهدين حسيين: الأول هو: مشهد يكون صادراً عن إعجاب بقضية جمالية صرفة تتمثل في جمال الخد والشفاه والعيون، ومشهد حي آخر يتمثل في حركة حسية تكون نهاية أو خلاصة «ساحل أبين»، فضلت عدم روايتها في شهر رجب!
لنتفق بداية على أنه لن يكون بإمكاننا تصنيف الواقعية تصنيفاً مجانياً فجّاً، من حيث صدق التجربة كمصطلح حاسم عند الجميع، فالمتلقي يختلف بحسب الملكات والاستعدادات الذهنية والذوقية؛ غير أن بإمكاننا -مؤقتاً- أن نقول إن الصدق الفني هو ما يمكن قبوله -كما أسلفنا قبل سطور- عند الجميع لنعبر بقولنا إن كاتباً ما يعبر عني إلى درجة أنه يقرأ شخصيتي ويفضحني أو يفضح أسراري ويقدمني للآخرين، مع أنني لا أقول له شيئاً، وهذا «التوقيع» -أي ما يجعل الأشياء واقعاً- يدلف بنا إلى سؤال آخر على درجة من الأهمية: لماذا استطاع أبو نواس أن يكون شاعر الخمرة بإطلاق؟ إن الخمرة قد شربها أناس قبل أبي نواس منذ أول عصرت الخمرة سكراً ورزقاً حسناً، وقال عنها شعراء عابثون كالوليد بن يزيد، أستاذ أبي نواس، وشاعر أقر لها معلقة، عمرو بن كلثوم الجاهلي، غير أن خمرة أبي نواس ذات مواصفات واقعية!
لنضرب مثلاً «توقيعياً» بين تفاعل المتلقي لواقعية الأدب تلك الواقعية بفاعلية تأثيرها السحري، فهذا شاعر المعنى في عصر بني العباس، أبو تمام، يرثي محمد بن حميد الطوسي بغرة مرثية رائعة:
كَذا فَليَجِلَّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ
فَلَيسَ لِعَينٍ لَم يَفِض ماؤُها عُذرُ
تُوُفِّيَتِ الآمالُ بَعدَ مُحَمَّدٍ
وَأَصبَحَ في شُغلٍ عَنِ السَّفَرِ السّفرُ
وَما كانَ إِلّا مالَ مَن قَلَّ مالُهُ
وَذُخراً لِمَن أَمسى وَلَيسَ لَهُ ذُخرُ
غَدا غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ
فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ
تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما أَتى
لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
مشهد ملحمي على درجة من الواقعية الزمنية والحديثة، حتى أن كثيراً من كبار القوم تمنوا أن تكون هذه المرثية فيهم، إذ في الواقعية وصف لتجربة حسية فنية معاً. وفي النص القرآني واقعية تجمع بين الحدث والتعبير عنه، ولنقف بسرعة عند هذا المثل المبين إذ يصف القرآن هذا الشراب بأهل الجحيم، فهذا الكافر «يسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وليس بميت».
فلتكاد واقعية الصورة تدفع بالمرء ليعيش واقعيتها فيتخيل الموقف حتى لكأنه هو.
وجهة نظر نقدية:
إذا كانت الواقعية -كمذهب أدبي- تخالف زمنياً الكلاسيكية والرومانسية والرمزية من حيث التراتب التاريخي، فإنها ومن خلال المصطلح تحاول إقامة علاقة وطيدة بين الزمنية والفعلية، أي بين النتاج الأدبي وتاريخ حدوثه، بين الزمن والفعل، ومن ثم فإن المسألة تنصرف إلى موضوع آخر وهو كيفية الأداء، وهو سؤال عن صدقية التجربة التي خاض فيها كثير من كتاب النقد الأدبي، ولما تزل حتى الآن لا تجد تعريفاً مناسباً: ما هي التجربة؟ وإن كان النقاد قد حاولوا أن يقاربوا هذا المصطلح (التجربة) مقاربة تكهنية، ليس باعتبار أن الأدب كذلك وحسب، وإنما لعدم البت في التعريف، كالتعريف الذي نلاقيه عندما نقف عند اللغة والصورة ومكونات النص الأدبي الأخرى.
إن صدق التجربة رغم عدم تعريفها مفارقة تدعونا كنقاد إلى «التأمين» على أن بإمكاننا أن نذكر أن بعض القناعات التي تشبه المجاملات في العلاقات الاجتماعية تصبح تعريفا للتجربة مؤقتاً، بأنها تشبه الرضا الذي يصلك بنجاعة العمل الإبداعي لتقول في قرارة نفسك إن الكاتب لفت انتباهك إلى أنه يعبر عنك بكل ثقة وصدق.
ومن هنا نجد الفرق بين كاتب وآخر، فعلى سبيل المثال نجد ثلاثية نجيب محفوظ: «بين القصرين» و«السكرية» و«قصر الشوق»، تقدم لك حياة القاهرة القديمة، أو المجتمع المصري الطبيعي، كما لو كنت تتسكع في حارات القاهرة بكل أريحية.
الاكتشاف أنك تجد مجتمع القاهرة فيما كتبه نجيب محفوظ أكثر مما كتبه إحسان عبدالقدوس وجمال الغيطاني ومن قبلهما محمد حسنين هيكل ويحيى حقي. عند نجيب محفوظ واقعية يتلازم فيها الحدث الواقعي والواقع الفني لتحدث نفسك قائلاً: هنا القاهرة! وإن كان محفوظ يركز على الرغبة الجنسية باعتبارها بعداً طبقياً في هذا المجتمع المحافظ! لتصبح الشغالة مما يتلاعب به، وليكون الغني وحده القادر على تحقيق رغباته على نحو موصول.
المصدر د. محمد النهاري
زيارة جميع مقالات: د. محمد النهاري