د. محمد النهاري

أ. د. محمد أحمد النهاري / لا ميديا -
لما يزل أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي (303 - 354 هـ) يتميز بين عباقرة العربية مستفزاً يقض مضاجع الأدباء بشعره الذي يسهر الخلق جراه ويختصم. وهو أبو الطيب معجزٌ في ذاته، فهو عاقل حكيم، مجنون في خيال، نبيٌّ وكافر، شاعرٌ وبليد، ملكٌ وشيطان، تفوح من شعره البراءة والتلقائية وتسطو كلماته كأي خارجي لا يمتشق شعره غير صيف والغ في الدماء، طفلٌ كبير يفقد حنو الأمومة، صعلوكٌ يرفل ذوقه في حلية خصيم مبين، عندما تسمع شعره توليه "جمعك" وتحتشد للقيام له كأنه ملكٌ ذو سلطان عظيم، تُفك له الحُبا.
وإذ يقول الفيلسوف الفرنسي لوبون: "الأسلوب هو الرجل" فإن أبا الطيب ذو أسلوب متغطرس جبار متكبر، تخاله عديم العاطفة غير قادر على تصوير مخلوق جميل صنعه الله على عينه آية من آياته، وهو جمال المرأة؛ غير أنه يبدو -على استحياء- ليصف هؤلاء النسوة:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
الناهبات قلوبنا وعقولنا
وجناتهن الناهبات الناهبا
وبسمن عن برد خشيتُ أذيبه
من حر أنفاسي فكنت الذائبا

فهو يصور جمال المرأة تصويراً خاطفاً هو عبارة عن محمول رمزي لأمنيات فقيدة.
قد يكون مناسباً أن نقف عند العنوان باعتباره -كما يقول بارت- إحدى عتبات النص، فنشرح هذا العنوان "تهاويل أبي الطيب"، والتهويل هو الإخافة والإرعاب، وهوّل الأمر جعله مخيفاً يخيف ويُفزع، وأقصد بذلك أن أبا الطيب يهوّل الأشياء من خلال أدائه اللغوي الذي يدل على أنه يمتلك مقاليد اللغة وعنجهيتها. تعد لغته إحدى علامات شخصيته التي ذهب أبو العلاء فعبر عنها بلمحة دالة على أنها "معجز أحمد". بعبارة ثانية: تهوّلك هذه اللغة لما فيها من غطرسة وكبرياء، فكل بيت كتيبة من عدوان وتحدٍّ يعبّر عن هذا الجانب من شخصيته القوية التي تجعل المتلقي يفزع منها أشد الفزع، كأنه في معركة، أو تخيفه ليوث غاب قادمة مكشرة الأنياب.
إن أبا الطيب فيما يبدو سيظل فريداً في مقارنته لهذا الدهر الذي استباح به العجم شرف العرب، واستحوذوا على ممالكه المترامية الأطراف بكل فظاظة الحاقد المنتقم.
كان أبو الطيب يقاوم وحده الأعداء الذين تجاوبوا من كل الحدود يثأرون لمملكة الفرس ومملكة الروم على السواء. إن هذه الحضارة العربية التي منّ الله عليها إذ جعل منها عاصمة للحضارة القرآنية في مركز دائرة العروبة وسورها المحيط، ولسنا في إطار الحديث عن ملابسات تاريخية تحدد شخصية العصر الذي عاشه المتنبي وذاق مرارته من طفولته وشبّ على آثاره ومعطيات صباه، فلقد شغله الاحتلال الأجنبي المستبد الذي أهلك الحرث والنسل، ورأى هذه الحضارة التي كانت مطلع شمس الحضارات قد أصبحت أشبه بدائرة جغرافية ممزقة يحكمها أقنان وعبيد زحفوا من كل فج عميق، فمضى أبو الطيب يعلن "يسارية" الشعر العربي، فيقلب بصره في كل ناحية من أنحاء العروبة فيرتد إليه البصر خاسئاً وهو حسير.
وهو يجد أنه لا بد من أن يتزود بهذا الرفض، فيجده في ثقافة ثورية في بادية السماوة، فيتشرب من معين القرمطية، وإذ يقتنعُ بهذا الفكر الخارجي ليصبح محدد وجهته فيواجه سؤالاً صعباً: إن الفكر يحتاج إلى معين يتمثل في قلب رجل مفعم بالحس العربي مجالد للغزاة...؟! فتنحرف بوصلته الباحثة فتقر على بطل قومي مقره حلب، إنهُ سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان بن الحارث (303 - 356 هـ). بحث أبو الطيب عن ذاته القومية المتمردة كما يبحث الآثاري عن لقى أثرية هي الشاهد الوحيد على حضارة زاهية، فوجد سيف الدولة ليضرب به غرة هذا الهوان العربي الذي أذاقه إياه علج بليد.

مفـــارقــات
لا بد من الإشارة إلى أنني لن أدرس كل تهاويل أبي الطيب، ولكن سأتناول بعض المفارقات، وأعني بالمفارقة الشعرية شعور المتلقي وهو يستقبل معنى على غير ما وُضع له، ويدخل في ذلك الصناعة الاستعارية. ومثال ذلك أن يتأخر إنسان عن موعد لم ينجزه حسب الاتفاق فتقول له: لقد بكرت في الموعد. ومثال آخر امرأة عجوز كانت ذات فظاظة في القول تعامل بها زوج ابنها ذات الملامح الغاية في السمرة فتقول لها: كيف حال "قمر الصُّعد"؟!، والصُّعد هو في لهجة اليمن الموقد أو التنور الذي امتلأ بالسخام فاسودّ من كثرة استعماله. ومثالٌ آخر: تقول "صباح الليل" إذا داهمك إنسان مزعج جاء قبل موعد الصباح في وسط أو آخر الليل. ولن أقف بعد إلا عند بعض الأمثلة التي تقف بنا على بعض تهاويل أبي الطيب، لنلاحظ أموراً كثيرة، بلاغية وغير بلاغية. ولقد تكلم بعض نقاد وشعراء الأدب، ومنهم أبو القاسم الشابي في "ربيع الخيال"، بأن المجاز كان في سابق العصر والأوان حقيقة، فعندما نقول: ذهبت الريح بالمغاني فأصبحت أطلالاً، فإنما نعني أن هذه الريح ليست إلا خلقاً له كيان وروحٌ في الوقت نفسه وليست مجازاً. المتنبي بناءً على هذا يحيل المجاز إلى حقيقة واقعة لها فعل حقيقي:
عزيزُ أسى من داؤه الحَدَقُ النُّجْلُ
عياءٌ به مات المحبون من قبلُ
فمن شاء فلينظر إليّ فمنظري
نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
ومن جسدي لم يترك السقم شعرةً
فما فوقها إلا وفيها له فعلُ
كأن سهاد الليل يعشق مقلتي
فبينهما في كل هجر لنا وصلُ!

لقد اختصم من جرّاء قول المتنبي كثيرٌ من النقاد، فحاول بعضهم أن يفسر عبقريته ماثلة في الحكمة، وأن جمال هذا الشعر وروعته إنما ينبثق عنها، وخاصة تلك الحكمة التي تشخص حال الإنسان يصارع هذه الحياة ويغالبها فلا يجد هذه الحياة غير حلم خاطف:

نصيبك في حياتك من حبيبٍ
نصيبك في منامك من خيالِ

وبعض هذه الحِكَم ذات مُلابس تاريخي:
أعلى الممالك ما يُبنى على الأسلِ
والطعن عند محبيهن كالقبل!
وأتعب من ناداك مَن لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكلُ!

وبعض النقاد تهوله هذه الصورة التي تدخل في حقل المعركة المحتدمة.
يكلف سيف الدولة الجيش همه
وقد عجزت عنه الجيوش الخضارمُ
ويطلب عند الناس ما عند نفسه
وذلك ما لا تدعيه الضراغمُ
أتوك يجرون الحديد كأنهم
سروا بجياد ما لهن قوائمُ
إذا برقوا لم تُعرف البيضُ منهم
ثيابهم من مثلها والعمائمُ
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أُذُن الجوزاء منه زمازمُ
وقفتَ وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسمُ
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالمُ
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة
كما نُثرت فوق العروس الدراهمُ!

من قصيدة يعد كل بيت منها تهويلاً من تهاويله، مطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم!

وإذ أخذت هذه التهاويل مساحة في الصحيفة كبيرة فإني أقف في الختام على تهويلين من تهاويله، يقف الأول عند تقديم أبي الطيب نفسه الذي يريد -فيما يبدو- أن ينصب نفسه بطلاً من أبطال العروبة على النحو الآتي:
تغرب لا مستعظماً غير نفسه
ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
وإني لمن قوم كأن نفوسنا
بها أنَفٌ أن تسكن اللحم والعظما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني
ولا صحبتني موجة تقبل الظلما

وقوله:
لا تجسر الفصحاء تنشد هاهنا بيتاً
ولكني الهزبر الباسلُ
ما نال أهل الجاهلية كلهم شعـري
ولا سمعت بسحري بابلُ
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كاملُ!

وقوله:
أي محل أرتقي        أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
محتقرُ في همتي      كشعرة في مفرقي

وأخيراً، يطاردني تهويل المتنبي في هذه الكتابة الشعرية التي تجعل من سيف الدولة رائدها وقائدها:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحولُ
ومن أمر الحصون فما عصته
أطاعته الحزونة والسهولُ
ربما في تناولة أخرى يتيح لي الوقت أن أسرد بعض تهاويل المتنبي، وهي لا شك تهاويل مستفزة تكون فيها العبارة الشعرية قادرة على اكتساح الشعور، فإما تأتي عليه وإما تحييه. ونختم هذه المقالة بأن المتنبي أديب، وهو على حد تعبير طه حسين: "مما يمتاز به الأديب هو أن جذوته مضطرمة دائماً، وضميره حي دائماً، وقلبه مرآة لكل شيء، وملكته الإنشائية مصورة لكل ما يرتسم في هذه المرآة". وأحسب أن القارئ الكريم سيطلع على كثير من معطيات هذا العنوان في كتابي الذي أطمع أن ينجز في دار "لا" للطباعة والنشر والتوزيع الذي أريد أن تحققه ثورتنا الفتية، فهذه السطور ليست إلا مقتطفات من بستان نظير زرعه أبو الطيب في ديوان شعرنا العربي.

أترك تعليقاً

التعليقات