د. محمد النهاري

د. محمد أحمد النهاري / لا ميديا -

الورقــة الأولــى
النصر:
ولقد مررتُ على ديارهمُ
وطلولها بيد البلى نهبُ
فوقفتُ حتى ضج من لغبٍ
نَضْوي ولجّ بعذلي الركبُ
وتلفَّتت عيني فمذ خَفِيَت
عني الطلول تلفت القلبُ

شــرح النص:
1ـ مررتُ على ديار أحبائي فرأيتها طلولاً نال منها الدمار والبلى.
2ـ وقفتُ عليها حتى تعب جسمي الهزيل لكثرة ما وقفت ولامني زملاء السفر.
3ـ ظللت أنظر إليها مشدود العينين إليها، حتى إذا خفيت تلك الطلول تلفت قلبي يستذكرها حزناً لفراقها.

مفتتح:
عتبة رئيسية: أبو الحسن محمد بن موسى، لقب بالشريف الرضي، عمد نقيبا للأشراف، من مواليد بغداد سنة 970هـ/ 1016م، ينسب إليه تأليف "نهج البلاغة"، شاعر فقيه له ديوان شعر مطبوع.

تعريف الصورة الشعرية:
للصورة الشعرية أكثر من تعريف، ونحن نسلم بما سمى المناطقة بأن التعريف هو الحد الجامع المانع، علماً أن على المرء أن يستدرك أنه لا تعريف حدياً مانعاً في العلوم الإنسانية، وإنما هي تعريفات حدية مقاربة. ولضيق المقام فإنا نورد أبرز تعريف للصورة:
الصورة الشعرية هي محاولة لتجسيد المعاني المجردة العقلية والعواطف المتخيلة لإدراك علاقة جامعة بين شيئين، هما "المشبَّه" و"المشبَّه به"، فينتج عن ذلك ما أطلق عليه النقاد البلاغيون "وجه الشبه"، فعند أن تقول: وجه هذه الفتاة كالوردة، فأنت أقمت علاقة بين وجه الفتاة والوردة، والجامع بين الوجه والوردة هو اللون "الشفقي"، الذي هو الحمرة الفاتحة للون الشمس ساعة انحدارها للغروب. وعندما قال الشاعر عبدالله بن قيس الرقيات يمدح مصعب ابن الزبير:
إنما مصعب شهاب من الله تجلت بنوره الظلماء
فإن العلاقة التي أنتجت وجه الشبه، الذي هو النور، هي الشهاب الرباني ونور وجه مصعب. وبالنظر إلى أس التكوين في الصورة الشعرية غالباً فإنما هذا الأس ثلاثة: المشبه، المشبه به، وجه الشبه. والتشبيه كآلية يصدر عن هذه التقسيمات: التشبيه، الاستعارة، الكناية. فعند إجرائك لكل واحد من هذه التقسيمات تقول في الكناية مثلاً: فلان كفه بحر؛ شبه الشاعر أو الناشر كف فلان بالبحر لكرمه وجمال ووفرة جوده. وعند قولك: فلانة طاهرة الذيل، فإنك تشبّه عفافها وصونها بالثوب الطاهر... الخ.

وجهة نظر:
لعلي أذهب إلى أن هناك فلسفة لكل واحد من هذه المعطيات:
فالتشبيه يرسم مرحلة من مراحل حياة الإنسان، وهي مرحلة الطفولة، التي قوامها مادي صرف، فالطفل لا يستطيع أن يفهم أن هذا الصندوق الطائر في الفضاء "طائرة" إلا إذا دنوت من عقله فشبهت له الطائرة بالدجاجة أو العصفور، وفي مرحلة تالية يستطيع أن يفهم نظرية دفع الهواء الذي يحمل قربة صغيرة في هذا الفضاء الفسيح. كما أن التشبيه يحاول إدراك علاقات بين الكائنات أو شيء آخر يتمثل في ابتغاء تحقيق ما هو مجرد في الغالب ليكون في المتناول.
أما الاستعارة فتمثل مرحلة من مراحل "التجريد" تعمل على إمكانية ما هو مستحيل أو شبه مستحيل ليصبح ممكناً. فضحك القمر أو بكت السماء أو رمى البحر بجواهره... كل ذلك استدراك لغير الممكن ليصبح ممكناً، فالقمر لا يضحك، والسماء لا تبكي، والبحر لا يرمي... وفي اختصار فإن الإنسان مسخر له الكون كله، وهو يطمع أن يحقق هذا التسخير بواسطة اللغة.
أما الكناية فهي تجاوز اللغة إلى أن تصبح أقرب إلى التجريد والقفز إلى رحاب فضاء من التخييل المتجاوز لمواضعات اللغة التداولية. يقول جبران:
وتعطلت لغ الكلام وخاطبت
عيني في لغة الهوى عيانكِ
وللمتصوفة: الخطاب بالإشارة وليس بالعبارة.
ومن ذلك تعريف الوحي بأنه إعلام بخفاء. والعشاق لا يتكلمون، وإنما تصبح المعاني رموزاً أو إشارات وتجليات.

مرايا متجاورات:
من مقولة شاعر عبس عنترة بن شداد:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
ومعناه: هل ترك الشعراء من مكان إلا وقد عرضوا له معالجة لموضوعه والحديث عنه؟ كناية عن أن الشعراء قد تناولوا كل موضوع حبيب إليهم قريب لذواتهم، فعبر كل واحد منهم بحسب نظرته إليه وفلسفته عنه. وأفضل مفردة من مفردات الشعر الجاهلي القديم هي مفردة الطلل، والطلل بمفهومه المفرداتي هو المكان الخلِق (بفتح الخاء وكسر اللام)، الذي أتى عليه البلى والفناء.
لقد وقف الشاعر القديم أمام مجالي الكون فاستفزته بعض أوابده، فلزم بعضها معبراً عنها برؤيته الخاصة، أو كرر رؤية من سبقه إلى التعبير عنها بالرؤية ذاتها، بالزيادة أو النقصان، بحسب ذوقه وفلسفته في الحياة. ولعل من أبرز هذه الأوابد الطلل، إسقاطا نفسياً لرؤيته إلى ذاته المتهدمة التي لم يجد لدفعها كفؤاً، بل هي نهاية كل كائن حي أو ملازم لهذا الكائن الحي.
وليس من مسوغ بالإمكان -حتى الآن- أن يسور الطلل بغير حاجز الفناء وعزاء الإنسان عن هذا المعنى الذي هو أبرز رمز لغياب هذا الإنسان عن حياة هي بدورها لا تقوى على مغالبة العدم!
لقد يكون طلل الشعراء في القديم والحديث أبرز رمز لفناء الحياة الزائلة يوقع عليه هذا الشاعر أو ذاك إيقاعه البطيء أو السريع، معبراً عن حالته الشعورية، وهي حالة تنتاب كل حي، وليست المسألة حين اختلاف التعبيرات إلا تجليات وتنويعات لمعطى أساس واحد!

مكاشفة النص:

الورقة الثانية:

ماذا قال الشريف الرضي؟
عبر الشاعر أو فكر فقدر ثلاثة معطيات مثلتها وحدة موضوعية فنية ونفسية.
1ـ المعطى الأول: مروره على ديار ألفها فوجدها بعد غنى قد طالها البلى وانتهبتها تعرية الفناء من شموس ورياح ودواعي قِدم (بكسر القاف وفتح الدال): "ولقد مررتُ على ديارهمُ وطلولها بيد البلى نهبً".
2ـ المعطى الثاني: وقف الشاعر على هذه الطلول وقفة حزينة طويلة حتى تعب جسمه الهزيل وكثر عذله من الركب العجل الذي يطمع أن يقطع الزمن بحركة عجلى. وليس الركب وحدهم الذين تعرض للومهم، بل إن جسده الهزيل قد أصابه التعب والإعياء لكثرة وقوفه: "ووقفتُ حتى ضج من لغب نضوي ولج بعذلي الركبُ".
3ـ المعطى الثالث: تعلق قلبه بهذه الطلول التي مسها البلى، فبرغم أن الطلول غابت عن عينيه، إلا أن القلب ظل متعلقا بها وما انفك يشاهدها: "وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلبُ"!
وهامش تاريخي: لقد عاش كثير من أبناء الخلافة العباسية مهوى أفئدة طالتها الحسرة لقاء أمنية فقيدة غابت في أول يوم تسنمها جور إرث قديم تمثل في اعتلاء بني عبد شمس حكم الأمة. ولقد يكون من الملاحظ انتهازية بني العباس، الذين غدروا ببني عمومتهم من الطالبيين الذين جمعتهم بهم فكرة "الإدالة" لآل البيت، حتى إذا نجح الفرس في القضاء على بني أمية اعتلى العباسي الأول منبر الكوفة ليذيع البيان الأول، ومفاده استحقاق العباسيين للخلافة، لأنه "ما للنساء وراثة الأعمام"، بحسب مروان بن أبي حفصة!! قد يكون هذا المعطى (الثالث) الفكرة التي لم يعبر عنها هذا الشريف الرضي وحده، ولكن وقع عليها كثير من شعراء البيت الخلافي من بني عبدالمطلب وأبناء عمومتهم الأمويين، وكلا الفرعين صدر عن فكرة وراثة الخلافة النبوية التي تعارض كثيراً من الناس، وأنا أحدهم، فما كان الإرث النبوي مشيخة أو إمارة كما يفهمها حكام هذا المجال أو ذاك، فالإسلام دين وليس زعامة، يتولى القيام عليه من توافرت فيه شروط الاستقامة والأمانة والعدل والإحسان والتقوى والرؤية السديدة القريبة والبعيدة.
لقد صدر النقد "الحكمي"، وهو أبرز نقود العصر الجاهلي، عن أن القصيدة قد تكون بيتاً واحداً، يقف عندها الناقد ليصدر حكمه لا على القصيدة وحسب وإنما على تفضيل شاعر على آخر، كقول الخنساء في أخيها صخر:
وإن صخرا لتأتمُّ الهداةُ به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ
فكانت أشعر شعراء الرجال والنساء وفق النابغة صاحب خيمة "عكاظ" ورأى النقاد المحدثون أن القصيدة القديمة هي بيت واحد ضمن عدة أبيات شكلت عدة قصائد في قصيدة واحدة، معللين ذلك بأن الشاعر يقول القصيدة على تباعد زمني أو مسافات زمنية مختلفة، يقول هذا البيت فيتوقف لينسج فيما بعد بيتا آخر، فتتكون القصيدة. ولعل هذا ما يعنيه النقد الحديث في سائر الفنون، فالرسام ليس له إلا لوحة واحدة، والشاعر ليس له سوى قصيدة، والملحن ليس له سوى لحن واحد... ومن هنا تتكرر المعاني لفكرة واحدة، على غرار صنيع المجدد الكلاسيكي أحمد شوقي، شاعر العصر الحديث.
قد تتحقق الفكرة في الفرق بين الشعر والنثر، كتعريف حدسيّ، من وجهة نظري، من أن النثر صياغة فكرية، مع أن الشعر صيغة انفعالية، وهو تعريف مقارب، باعتبار أنه لا حدود فاصلة بين النثر الأدبي والشعر. وكتبت صديقة إلى صديق أعجبها، القصيدة الآتية: "أحببتك حتى جعلتك سراً أخبئه حتى لا يعلم به سوى من وضعك في قلبي". هذا النص النثري من وجهة نظري مساوٍ لقصيدة كتبها شاعر عبقري.
أليس الشعر إلا مفارقة تعبيرية تصل إلى المتلقي لتعبر عن انفعال معين يفعله المتلقي بواسطة صورة لغوية؟!

إن أهمية الصورة تعود إلى أن اللغة -أي لغة- في أي فن من الفنون التعبيرية، كلغة المسرح أو القصة أو السينما، قد تبدو غير قادرة على توصيل معنى من المعاني العقلية المجردة أو المعاني الحسية، فيتوسل الشاعر بالصورة لإنجاز مهمة إيصال الفكرة التي يطمع في إيصالها للملتقي. ولا بد من إلماحة سريعة لمشكل الخلاف الذي نشأ بين أفلاطون وتلميذه أرسطو بهذا الشأن، فالأستاذ يعتبر أن الصورة تأتي في المرتبة الثالثة من "التزييف" أو "التزوير"، فالكون صورة أولى من عالم المثال الحقيقي، ويأتي الشاعر لينقل صورة الكون الناقل عن المثال، فالشاعر ناقل عن الناقل الأول، مزوِّر عن مزور، ولهذا طرد أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة؛ لأن الشعراء يكذبون. أما أرسطو فإنه يبرئ الشاعر من التزوير ويحنو عليه ويتلطف به، فالشاعر ليس مجرد ناقل وإنما هو قادر على الحذف والإضافة، وهنا يثرى المجال لمصطلح "الإسقاط النفسي" الذي أنتجه علم النفس، الذي أسسه العلماء الثلاثة فرويد وأدلر وكارل يونج، والذي نجده في "لا شعور" هذا الشريف الرضي!

مشهد سينمائي:
يذهب بعض نقاد الأدب الحديث إلى أنه "لا تجنيس" في الأدب، وإنما هناك نص أدبي، سواءً كان نصاً مسرحياً أم قصة أم رواية أم قصيدة أم مقالة. وقد أوردت للقارئ الكريم قبل صفحات نصاً نثرياً لتلك التي أحبت شخصاً استودعت فيه سراً أوحى به اللطيف الخبير لتخبئه في حنايا القلب وعميق الشعور. وهل يوافقني القارئ العزيز في أن هذا النص لهذه المُحِبة "الغزيرة" هو جنس يمكن أن يكون أي جنس أدبي؟!
هذا النص "الرضي" أقرب ما يكون جنساً سينمائياً أبطاله ثلاثة:
1 - الطلل البالي.
2 - الركب (جماعة الراكبين المسافرين، والشرب جماعة الشاربين).
3 - "الرضي" صاحب رئاسة نقابة العلويين في بغداد.
وتحليل المشهد على النحو التالي:
أما الطلل فمأسوف عليه بعد أن كان غنياً بالحركة الموَّارة الحافلة بالانسجام والنقائض بعموم. وأما الركب فهم جماعة من المسافرين الذين شدت رحالهم غاية واحدة ووجهة واحدة يستبقون الزمن حريصون على بلوغ المآرب يعجلهم الزمن فهم معه في سباق، وهم لذلك يستعجلون الشريف قد ضاقوا به ذرعاً، وهو نضو "جسد هزيل" مشدود إلى الطلل ضح به الإعياء والتعب واجتمع عليه عذل (لوم) رفاقه المثبطين بفعل حركته الضعيفة الواهنة. فكرة مراوحة تشكل نفسيتين نقيضتين بين بطلين من أبطال هذا الفيلم الوثائقي الخطير: حركة بطيئة تشبه هذا البطل الذي هو الطلل الثابت الأبدي المستقر، وحركة عجلى يستفز بها عزيمة الركب الذي يطمع أن يصل إلى الغاية في أقرب وقت.
إن هذا المشهد مشهد مكاني بالدرجة الأولى، إن صح التعبير، وهو (والتذكير هنا بنظرية يونج)، يشبه موكب "كربلاء" الناضح أملاً.
إن الشريف يستدعي موكب الحسين، قتيل الطف، إذ وحده في مواجهة الموت ورفاقيته في آن، بينما تخلى عنه الركب يلومه بعد أن نصح له بعدم مواجهة الموت المحقق والتخلي عن الطلل. ولنا أن ننظر في أبرز ثلاث بنى، لاسيما ثبات البنية الإفرادية: نضو/ ديارهمُ/ لج/ وتلفتت. إن لكل من هذه البنى الثلاث بما تحمله من ظلال دوراً كبيراً في "تظهير" النص بشكل عام، فالـ"نضو" أو الجسد الهزيل لا يطيق مفارقة الطلل. أما "ديارهمُ" فلفظة تستدعي البكاء لفراق الأحباب العابرين إلى العدم. وإشباع الضمير (همُ) يحمل في طياته سفراً ضخماً من "ألبوم" ذكريات حزينة! و"لج" يقول المعجم إنه الإسراف في الجدل، وفي القرآن الكريم وردت هذه اللفظة في سياق قوله تعالى يصف منطق الكافرين بأنهم يعمدون إلى الجدل الذي يعمي الحقيقة ولا يريد أن يصل إليها بحال: "للجوا في طغيانهم يعمهون". ويؤكد لفظ "التلفت" ما يقابله من اللجاجة التي يعذل بها الركب هذا الذي لا يكاد يريم. في العربية بخاصة هناك عبارة نقدية هي الظلال المصاحبة التي يمكن أن نطلق عليها توكيد الفكرة أو ما يوحيه لفظ "اللجاجة" هنا!! فـ"يعمهون" في الآية الكريمة تؤكد دلالة "لجوا"، و"التلفت" كمفردة لغوية يعني النظر إلى وراء لاستبقاء مشهد أثير. هلا كنت أباً أيها القارئ أو أماً وقد حمل/ حملت طفلك الصغير إلى محل لعب أطفال؛ أرأيت أن طفلك لا شأن له بمراعاة الظروف ولا تقدير له لحالة نفسية الأب أو الأم حينما يضج عذلاً لأبويه كليهما أو أحدهما لأنهما لا يستطيعان أن يشتريا له كل لعب المحل، فساقاه/ ساقه إلى الخارج، بينما ظل هذا الطفل المدلل يتلفت وراءه إذ شغفته حباً هذه اللعبة أو تلك؟!

رمزية النص:
الشعر أو أي عمل أدبي آخر ومن أي جنس كان، عبارة عن محمولات رمزية، أو أن كل بنية شعرية هي رمز أو شيفرة Code تحمل سراً من المعاني المحلقة في فضاء المعاني غير المحدودة، ويستجيب كل مغرد في هذا السرب. فالزمن طير يجنح في الفضاء ولا يستجيب إلا لصديق ذي خبرة ومران. ولا بأس أن نشير إلى أن الرمز فضاء مطلق، ونعني بذلك أنه حمّال أوجه، يفسَّر بحسب ذائقة المتلقي ومستوى ثقافته واستيعاب فهمه.
إن المتلقي شخصية ناقدة، مهما كان قادراً أو عاجزاً. وهنا لا بد أن أطرف القارئ طرفة مبتذلة كثر تردادها وتداولها بين الناس. قالوا إن هناك رجلاً ابتلي بالعمى لمدة طويلة، فإذا الله يتجلى ويمُنُّ عليه بخاطفة بصر أو لحظة رؤية، فإذا به (الأعمى) يرى عنزة ولا يرى غيرها، فكف بصره من جديد، فكان كلما ذُكِر له شيء سأل: أهو كالعنزة؟!... وهكذا. علينا أن نذكر عبارة ذات بال تهم الناقد والمتلقي، أياً كان على حد سواء، وهي أن النقد إعادة إنتاج للنص، وربما كانت أي نظرية إنسانية قابلة لأكثر من قراءة، فإن العبارة الآنف ذكرها إحدى قراءات أرسطو لنظرية مثال أستاذه أفلاطون، فإن أرسطو قرأها قراءة ثانية توافق مفهوم الفن بشكل عام. مفهوم سبق طرحه، وهو أن الفنان صانع إيجابي يشارك في عملية الخلق الخلاق جنباً إلى جنب مع أخيه المبدع!
بدهي أن تكون هناك اتجاهات نقدية نذكرها ولا نقف عندها في هاتين الورقتين؛ فاتجاه تاريخي واتجاه حكمي واتجاه تفسيري واتجاه تأويلي... غير أننا بحاجة لنشير إلى استلاف (اقتراض) ظلال فكرتين: الأولى: الاتجاه التاريخي جزء من ذاكرة الشاعر، فهو يستدعي تاريخاً فقيداً يتمنى عودته، مبدياً التحسر عليه، بكل ملابسات الطلل وجوداً رمزياً، بعبارة ثانية أن الشريف الرضي يشعر بحنين إلى الخلافة المشبعة بحضارة مترفة صادرة عن ذوق فارسي! ومن ناحية تأويلية، وهو ما يتسق مع الاتجاه الأول، أن النص غني ثر. إن جماعة الركب جماعة "خذول" ليست مشغولة بهاجس الرضي، فكلٌّ في سباق مع مصلحته الخاصة. فكرة الزمن حاضرة في النص، يقف في مواجهته الشريف غير مبالٍ باللحاق به والحرص عليه، واستحضار الماضي عائق أمام عجلة الزمن ونوع من أنواع العبث عندما لا يحسب حسابا للنتائج واتخاذ الوسائل المناسبة لها.
إن جماعة الركب جماعة يفصلها عن الماضي منفعة انتهازية، تتابع حركة الحياة بخطوات محسوبة، عاملة في حسابها عامل الزمن. وبينما الشريف مشدود إلى الماضي وفق رمز التلفت، فإن الركب مشدود إلى المستقبل وفق رمز العذل (اللوم) للآخر المتخلف. ولسنا بحاجة لنذكر القارئ الكريم بتلفت القلب المستمر للطلول، والتلفت دلالة رمزية للتمسك بالخلافة الأبهة والفخامة.
لقد لاحظ بعض النقاد والمحدثين أن الشاعر العربي، وكذلك الناقد يستحضر النزعة الحسية في الصورة، فكلاهما لا يدركان علاقة الطرفين: المشبه والمشبه به، إلا بحضور "الحسية" فيهما. وأحسب أن لهذه الفكرة جذراً فلسفياً يكمن في علاقة الإنسان الحميمة بطبيعته البيولوجية، التي تتكون من معطيات كثيرة من بينها ما قرره العالم الفرنسي "تين".
يذهب العلامة ابن خلدون في مقدمته إلى أن للشاعر وحده كل الحق في استعمال اللغة كما يشاء ويريد، ولا يلام على اختياره لأي صيغة صرفية أو نحوية، باعتباره خالقاً لا يسأل عما يفعل. ومن هنا كان معطى الصورة الشعرية ماثلاً في العربية بخصوص أن اللغة الشعرية "تركيبية" لا "تحليلية"، ليس لأنها مجازية (Metaphor) وحسب، وإنما من حق الشاعر أن يركب صهوة أي مجاز أو أي جسر (BRIDG) يوصله إلى ضفة المتلقي.
الصورة الشعرية التي أسكرتنا حتى الثمالة هنا تدل على عبقرية الرضي في اختيار "التركيب" الذي يبدو فيه الاتساق النفسي والموضوعي والفني على نحو موصول. إن فيها من التكثيف الرؤيوي ما يشدنا لهذه المشاهد السينمائية التي انتقل فيها المشهد من لقطة إلى أخرى بسلاسة واضحة.
إن ما يلاحظ -وهي العبقرية ذاتها- في هذا النص أن هناك انسجاماً بين الموسيقى التي تقترب من الجنائزية، وبين التركيب على مستوى المفردة والعبارة بين مفردات المعطيات الثلاثة أو الشخوص الماثلة في الطلل والرضي والركب، اتساقا لا يبارى على مستوى الفكرة والتعبير عنها والانفعال بها إلى درجة تثير فينا التعاطف مع هذا المركب "الكربلائي" الحزين!

خـلاصــة:
يذهب الجاحظ إلى أن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها البدوي والقروي، وإنما الشأن في تخير اللفظ وإقامة الوزن، وإنما الشعر ضرب من النسج وجنس من التصوير. وقد سبق الجاحظ بهذا المعطى النقدي ما ذهب إليه الشاعر الرمزي والناقد الفرنسي ستيفان مالارميه، الذي قال إن الشعر لا يصنع من الأفكار، ولكنه يصنع من الألفاظ، أي أن الشعر صورة لفظية تركيبية، مع أن النثر يفارق الشعر لأن اللغة بالعموم ذات طبيعة تحليلية، وهذا يعني أن الشعر هندسة ألفاظ يتخيرها الشاعر المبدع لتعبر عن انفعال معين ينقله إلى المتلقي ليحدث عن انفعال معين.
في نص الشريف الرضي المسطور آنفا نجد الصورة في كل بيت، فكل فكرة ذات صورة، ففي البيت الأول: "ولقد مررت على ديارهمُ وطلولها بيد البلى نهب"، فالبلى ليس له يد حتى يقوم بعملية تخريب للطلول بفاعلية مطلقة توحيه الصورة: "نهب" وفي البيت الثاني: "ضج من لغب نضوي"، فالجسد الهزيل لا يضج، وإنما يهمد ويخضع ويستكين. وفي البيت الثالث نجد هذه الصورة المركزية "تلفت القلب"، والقلب لا يتلفت. صور كلها تعبر عن عبقرية شكلتها تجربة شعرية فريدة استطاعت فيها الصورة أن تربط القارئ بالماضي البعيد، لتجعل القارئ يعيش هذه التجربة ليكون هو الشريف الرضي نفسه، بعبارة ثانية أن مهارة أي شاعر تكمن في إلغاء المسافات البيولوجية والنفسية والجغرافية ليتصل المتلقي على نحو معاصر بالحدث ويلتصق به. صنع المتنبي ذلك كما صنعه مجايله أبو العلاء المعري ومن قبل ابن الرومي.
إن الصورة باختصار أنبوب فضائي ينطلق بصاروخ الإبداع ليقضي على تصورات المحال ويلغي معطى المسافات، لكأن الشعر الذي هو التصوير يسمو بالإنسان ليكون فوق الكائنات بإطلاق.
إن أبيات الشريف الرضي -بدون أي مطابقة لفكرة الغلو- ملحمة بديعة قدم من خلالها تراجيديا التاريخ وفلسفة النفس وعجز الإنسان وقدرته معاً في مواجهة المصائب والغلائب، وقدم لنا بالوقت ذاته كيف استطاع المبدع تشكيل الصورة في شكلها التركيبي لتكون لغة كل العصور. فهل استطاعت هذه السطور أن تقدم بعض جوانب عبقرية هذا الشاعر "الموتور"؟! ربما!

أترك تعليقاً

التعليقات