عادل بشر / لا ميديا -
لا تزال تداعيات الفشل الأمريكي في البحر الأحمر تتكشف تباعاً، ليس بوصفها أحداثاً عابرة ارتبطت بلحظة اشتباك، بل كمسار استنزافي عميق أصاب بنية القوة البحرية والجوية الأمريكية. فبعد أكثر من سبعة أشهر على وقف إطلاق النار بين واشنطن وصنعاء، يعود الإعلام الأمريكي نفسه ليقر، بين الآونة والأخرى، بأن ما جرى لم يكن حملة ناجحة لفرض الردع، بل واحدة من أكثر المواجهات كلفة وإرباكاً للبحرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية.
في هذا السياق، وبعد أيام من كشف البحرية الأمريكية عن جانب من نتائج تحقيقاتها حول أبرز الحوادث التي تعرضت لها قواتها في البحر الأحمر خلال المواجهة مع القوات المسلحة اليمنية، نشرت مجلة "ناشيونال إنترست" تقريراً حديثاً بالغ الدلالة، يكشف كيف دفعت العمليات العسكرية الأمريكية ضد صنعاء شركة طيران أمريكية عسكرية، عملياً، إلى حافة الانهيار، نتيجة سلسلة خسائر تقنية وعملياتية وبشرية وصفتها المجلة بأنها "غير مسبوقة". التقرير، الذي جاء بعنوان "كيف دفعت جولة وحشية في الشرق الأوسط شركة طيران أمريكية إلى حافة الانهيار؟"، يتحدث عن وقائع دامغة: "طائرات حربية أُسقطت، وأخرى أكثر تطوراً نجت بأعجوبة من الصواريخ اليمنية، وحاملات طائرات أُنهكت ولاذت بالفرار، ومهام امتدت قسراً خارج كل الحسابات العسكرية التقليدية".
وأفاد التقرير بأنه "ما بين تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ومنتصف 2025، تناوبت عدة مجموعات من حاملات الطائرات الأمريكية على الانتشار في البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي، وكان لذلك آثار وخيمة على طواقمها"، مشيراً إلى أن الهدف المعلن من وراء تلك الحملات هو "ردع" صنعاء ومحاولة لإيقاف عملياتها المساندة للشعب الفلسطيني؛ لكن الواقع، كما تعترف المجلة، أن القوات الأمريكية وجدت نفسها في واحدة من أعنف البيئات القتالية البحرية منذ عقود، إذ تحولت السفن الحربية نفسها إلى أهداف مباشرة، ولم تعد المعركة محصورة في حماية الملاحة الصهيونية والسفن التجارية المتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة.
وأوضحت "ناشيونال إنترست" أن تلك المواجهات تركت أثراً مدمراً على طواقم البحرية الأمريكية، قادت، في أوقات كثيرة، إلى ما وصفتها بـ"سلسلة من الأخطاء القاتلة" كان بإمكان حدوثها أن يُسجل كارثة في مجموعات حاملات الطائرات، وفضيحة كبيرة ستُسجل في تأريخ مشاة البحرية الأمريكية إلى الأبد.
ولفتت إلى أن أولى الخسائر كانت في كانون الثاني/ يناير 2024، عندما سقط ضابطا عمليات من الدرجة الأولى والثانية، في البحر، وتم فقدانهما ثم إعلان وفاتهما، وتعزيز ذلك بسيناريو لعملية اقتحام ليلية لسفينة مجهولة العَلَم، غرب الحديدة.
هذه الحادثة، التي لم تكن قتالية مباشرة، عكست حجم الضغط والإنهاك الذي عاشته القوات الأمريكية في مسرح عمليات ما زال في بدايته.
تقرير المجلة الأمريكية أشار إلى أن "مجموعات حاملات الطائرات في تناوبها على البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي، ولم تكن هذه المهمات رحلة ترفيهية، لكن مهمة الحاملة هاري ترومان تميزت بأنها الأكثر إشكالية وخطورة".
وكانت "ترومان" هي حاملة الطائرات الخامسة التي أرسلتها الولايات المتحدة لقتال من وصفتهم بـ"الحوثيين"، نتيجة موقف صنعاء المساند للشعب الفلسطيني، وتحولت مهمة "ترومان" إلى سجل ثقيل من الإخفاقات، إذ تكبدت خسائر عدة، كان أشدها وفقاً لـ"ناشيونال انترست" إسقاط ثلاث مقاتلات طراز "إف إيه -18" في حوادث متفرقة خلال مواجهات ضارية مع قوات صنعاء.
وجاء في التقرير أن "ترومان، التي تعمل بالطاقة النووية، عادت إلى مينائها الأم في نورفولك بولاية فيرجينيا الصيف الماضي، بثقوب وجراح في هيكلها، وعدد طائرات أقل، وقائد معفى من منصبه"، في مشهد يلخص حجم التصدع داخل واحدة من أهم أدوات القوة الأمريكية.
ونقلت المجلة عن مسؤولي الخدمة في حاملة الطائرات تأكيدهم "كثافة وتيرة العمليات في البحر الأحمر، إذ تعرضت البحرية الأمريكية وطواقمها مراراً وتكراراً لنيران الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية والمجنحة اليمنية"، موضحين أن بعض الصواريخ وصلت إلى مسافة قريبة من حاملة الطائرات، ولولا المناورة الخطيرة التي نفذتها "ترومان" لكانت خارج الخدمة، منذ نيسان/ أبريل 2025.
وفيما حاولت البحرية الأمريكية تبرير تلك الخسائر بمزاعم وجود خلل في التدريب والتنسيق والتماسك داخل مجموعة حاملة الطائرات؛ فإن خبراء عسكريين أمريكيين سخروا من تلك التبريرات، مؤكدين أن ما حدث كان نتيجة مباشرة لوتيرة عمليات مفرطة في بيئة قتالية معقدة فرضتها قوات صنعاء في معارك البحر الأحمر.
وتقدّر البحرية الأمريكية تكلفة الطائرة الواحدة بنحو 60 مليون دولار، ما يعني أن خسارة ثلاث طائرات فقط تقترب من 180 مليون دولار، دون احتساب تكاليف الإصلاح والتصادم والصيانة الطارئة. هذه الأرقام، بحسب "ناشيونال إنترست"، تضع إحدى شركات الطيران العسكرية الأمريكية -المسؤولة عن تشغيل وصيانة هذا الأسطول- أمام ضغوط مالية وتشغيلية خانقة، أوصلتها إلى حافة الانهيار.
الأخطر في هذا الاعتراف الأمريكي، وفقاً لمراقبين، أنه لا يتحدث عن هزيمة تكتيكية، بل عن استنزاف استراتيجي طويل الأمد، أصاب البشر والآلات معاً. فعمليات الانتشار المطولة، التي تحولت من استثناء إلى قاعدة، أرهقت الطواقم، وكسرت إيقاع الجاهزية، وأظهرت أن حاملات الطائرات -رمز الهيمنة الأمريكية- ليست مصممة لحروب استنزاف طويلة ضد خصم يمتلك إرادة المبادرة ويُجيد إدارة المعركة غير المتكافئة.
ويرى خبراء أن ما كشفته "ناشيونال إنترست"، دون أن تقصده صراحة، هو أن البحر الأحمر تحرر من الهيمنة الأمريكية، وأن صنعاء نجحت في فرض معادلة جديدة جعلت واشنطن تدفع ثمناً باهظاً مقابل كل يوم بقاء. ومع توقف إطلاق النار، لم تتوقف الخسائر، بل بدأت فواتيرها الحقيقية بالظهور، واحدة تلو الأخرى، في تقارير وتحقيقات واعترافات متأخرة.هل