تحقيق: بشرى الغيلي / لا ميديا -
بات السكن الذي هو حق أساسي وضرورة للحياة الكريمة، ساحة معركة لكثير من الأفراد والأسر.. ففي خضم البحث عن ملاذ آمن ومستقر يجد المستأجرون أنفسهم في مواجهة لا تقتصر على تكاليف الإيجار المرتفعة، بل تمتد لتشمل سلطة المؤجرين المطلقة أحياناً، هذه العلاقة التي من المفترض أن تقوم على الاحترام المتبادل والالتزام بالعقد، تتحول في كثير من الأحيان إلى مصدر قلق وإرهاق نفسي ومالي.
كم من مستأجر عاش على وقع الخوف من إشعار إخلاء تعسفي، أو تحمل صمت المالك المطبق تجاه حاجة السكن للإصلاحات الضرورية؟ وكم من أسرة ضحت براحتها وخصوصيتها تحت وطأة الزيادات غير المبررة أو المعاملة القاسية التي تجعل من المنزل لا ملاذاً، بل قفصاً من القلق والتوتر.. هذه المعاناة ليست مجرد تفاصيل قانونية جافة، بل هي قصص إنسانية حية رصدتها صحيفة (لا) ونكأت جراح ومعاناة المستأجرين وما يواجهونه من تعسفٍ فج، دون رادعٍ لمالكي العقارات، وحتى القوانين ما تزال حبرا على ورق.. جانب مظلم في حياة الكثير من المستأجرين.. وصار مؤرقا لهم حيث يستغل الملاك الحاجة الأساسية للسكن ليحولوها إلى مصدر ألمٍ وضغط.

رضوخ إجباري
يبرز «جشع المؤجرين» كأحد أقسى أوجه المعاناة، تلخص أم أمير (تربوية) هذا الواقع بمرارة بالقول: «في كل عام، يأتي المؤجر بزيادة خيالية دون رحمة أو مبرر، نشرح له غلاء المعيشة، لكنه لا يسمع سوى صوت المال».
وتوضح أن الاستغلال يتجاوز الإيجار، ليشمل أعباءً إضافية لا تخصهم، و»صار يطالبنا كل مرة بأن نبلّط الجبا على حسابنا، أو نسدد فواتير كهرباء ومياه خلّفها مستأجرون قبْلنا».
تختتم: «نتحمل ونسكت لأننا لا نملك خيارًا آخر، فالبحث عن شقة صار صعبا، والأسعار نار، والقلوب قلّت فيها الرحمة».

إحصائيات وتوجيهات معلقة
بحسب دراسات حديثة فإن 26.5٪ من الأسر خفضت الإنفاق على التعليم والصحة وقامت بسحب أولادها من المدارس، فيما وجد أن كثيراً من الأسر، بنسبة 50٪ تشتري الغذاء بالائتمان، في حين اضطر 16.5٪ إلى البيع من أثاث المنزل لتوفير السيولة، وتستمر كل يوم هذه المعاناة وتظل معلقة دون حلول، رغم أن وكيل أمانة العاصمة لشؤون الأحياء في أحد تصريحاته أكد أنه «يُمنع منعاً باتاً إخراج المستأجر ما دام ملتزما بدفع الإيجار، وأن المجلس السياسي الأعلى وجه وزارة العدل وأمانة العاصمة بوضع حلول قانونية تراعي أحوال المجتمع في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد».

استغلال وقح
منى رزقان (موظفة) لخصت 6 سنين من المعاناة مع مالك عقار استغل حاجتهم للسكن، تبدأ منى حديثها: «عانينا ست سنين، كان يقطع عنا الماء لأيام، ويمنعنا من استقبال الضيوف، ويفتعل المشاكل إذا زارنا أحد، خاصة لو معهم أطفال».
وتضيف رزقان: «عند موعد الإيجار، كان يطالبنا بمبالغ إضافية بحجة (وايت ماء)، أو يطالب بإيجار الشهر القادم مقدماً، لم يكن يرحم أبداً، حتى لو كنا مرضى أو لا نملك ريالاً، وكنا نضطر لنستلف أو نبيع ذهبنا لنسدد له».

التأمين أصبح بابا للمشاكل
ملف الإيجارات يؤلم اليمنيين بسبب انعدام الدخل وانقطاع الرواتب، تقول ياسمين الجمالي (سيدة أعمال): «الأسعار ارتفعت بشكل مبالغ فيه، والمعاناة تبدأ من الشروط المسبقة، حيث يُطلب منه مقدم ثلاثة شهور وتأمين، وهذا التأمين أصبح باباً للمشاكل ويؤخذ عنوة».
الجمالي تؤكد أن حق المالك في إيجاره لا غبار عليه، لكنها ترفض «التعامل بهذا الجشع والعنف والضغط على المستأجرين في ظل هذه الظروف لا يرضي الله».
يتفق معها عباد الفقيه (مواطن) الذي يصف البحث عن سكن بـ»الكابوس» بسبب جشع المكاتب العقارية «العلة الحقيقية التي تستغل حاجة الناس».
ويضيف متسائلاً: «بأي حق (يلطشون) عمولة شهر؟ ومن أين للمواطن البسيط هذا المبلغ الضخم؟، والأدهى أن السماسرة يشجعون الملاك على رفع الأسعار لزيادة عمولتهم، همهم الوحيد هو إتمام الصفقة لـ(يلطشوا) عمولتهم.. هم سماسرة الجشع.. بهذا يتحول المكتب العقاري إلى محرك لارتفاع تكلفة السكن، وهمّه الكسب السريع على حساب معاناة المستأجر».

ساحة قلق دائم
عماد الحكمي (عامل مطعم) يقول إن بيته لم يعد مصدر طمأنينة، بل «أصبح قيدًا ثقيلًا، بسبب الإيجار الذي يلتهم ثلاثة أرباع الراتب»، ما يجعل كل طلب بسيط من أبنائه يتحول إلى «عملية حسابية مؤلمة». ويضيف: «هل نشتري ثوبًا جديدًا أم نوفّر دفعة الإيجار؟».
بالنسبة لعماد السكن أصبح «ساحة قلق دائم»، حيث تعيش الأسرة تحت تهديد الطرد أو «الزيادة الجنونية»، هذا الوضع ينسف القدرة على بناء المستقبل، ويتساءل عماد بألم: «كيف نبني مستقبلًا ونحن لا نملك ثبات سقفنا؟». ويختم عماد كلماته بنبرة خافتة أن «مفهوم البيت الدافئ انتهى، وبقي الخوف من الشارع سيد الموقف».

زيادة باهظة
هاشم الخزان (موظّف) يحكي عن معاناة تعيشها أُسر كثيرة: «طلب مني صاحب البيت زيادة الإيجار من 115 ألفا إلى 180 ألفا من بداية العام، أو الخروج.. والمستأجر الجديد ينتظر». ويضيف بصوت مملوء بالحسرة: «حتى لو اشتكيت، ما حد يقف معك.. القسم القانوني يميل للمؤجّر، المشكلة مش معي فقط، بل مع معظم المستأجرين».

أشبه بعد تنازلي
بين ابتسامة ساخرة ونبرة مُتعبة، يروي عمار الوصابي (مواطن) مشهدًا يتكرّر شهريًا مع صاحب العقار الذي يسكن فيه: «كل يوم 25 من الشهر، يبدأ يرسل رسائل جماعية لنا كمستأجرين: تبقّى 5 أيام.. 4.. 3.. يومان.. يوم واحد. الأمر أشبه بعدٍّ تنازلي للانفجار.. وكأننا قنابل موقوتة تنتظر ساعة الدفع، لا بشر يعيشون تحت ضغط الحياة».

مطالبة باطلة
في حديثه يؤكد عمار مسمار (أمين سر محكمة) أن القانون الجديد جاء ليحمي المستأجر من تعسّف المؤجرين، حسب رأيه.. 
ويقول: «لا يحــــــقّ لصاحب العقار رفع الإيجار أو إخراج المستأجر إلا بقرار من المحكمة، وبعد إثبات أنه بحاجة فعلية للمنزل، كأن يسكنه بنفسه». ويتابع: «رفع الإيجار ممنوع تماماً بالقانون الجديد، وأي مطالبة بزيادة المبلغ تُعدّ باطلة، وعلى المستأجر الاستمرار بدفع الإيجار القديم فقط دون خوف».
كما أشار إلى أن أقسام الشرطة لا دخل لها في قضايا الإيجارات، كونها «قضية مدنية بحتة يُنظر فيها أمام القضاء، وليس في مراكز الشرطة».
ويعبّر أبو صماد شاكر عن غضبه من واقع بات يُثقل كاهل البسطاء: «أصحاب البيوت صاروا ينظرون للإيجار كتجارة، ويريدون أرباحهم تزيد كل سنة، بغض النظر عن معاناة المستأجر».
ويقول بأسى: «نحن نكدّ ليل نهار عشان نوفر لقمة العيش، وهم جالسين في بيوتهم ينتظروا منّا نحطّها في أيديهم، لا رحمة ولا مراعاة، والمشكلة أن القانون دائمًا مع القوي ضد المستضعف اللي ما معه إلا الصبر والدعاء».

فشل أخلاقي
شكري العريقي (موظف) يحكي عن حادثة مروعة تتجاوز الخلافات العقارية، حيث تعرض مستأجر لعملية ترهيب غير إنسانية، عند عودة المستأجر إلى شقته، وجد أبوابها مغلقة على زوجته وأطفاله، ليواجه بعدها أصحاب الشقة الذين خرجوا له بالسلاح».

رأي قانوني
في خضم الإشكاليات العملية المتكررة في سوق الإيجارات، والتي تنجم عن اختفاء المستأجر وإغلاقه للعين دون سداد الإيجار، جاء تعليق أ.د. عبدالمؤمن شجاع الدين (أستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء) على حكم هام صادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا، ليضع حداً فاصلاً بين مشروعية اللجوء إلى القضاء وعدم شرعية «الاستيلاء الذاتي» من قبل المؤجر.
وأشار شجاع الدين إلى ظاهرة متنامية حيث ييأس المؤجرون من غياب المستأجر، فيقومون بـ»اللجوء إلى عاقل الحارة أو قسم الشرطة وبعضهم يقوم بنفسه بفتح العين المؤجرة وجرد محتوياتها وحفظها في حيز من العين»، وهو ما حدث في هذه القضية، حيث قام المؤجر بفتح العين المؤجرة (منزل ودكان) وجرد محتوياتها وحفظها في الدكان بعد انقطاع المستأجر عن السداد والظهور لمدة تزيد على 15 شهراً.
وأكد شجاع الدين أنه على الرغم من إخلال المستأجر بالتزاماته، أجمعت الأحكام القضائية وصولاً إلى المحكمة العليا على خطأ المؤجر، لكونه «فتح العين المؤجرة بنفسه وجمع وجرد الأدوات دون حضور أحد من المحكمة، وترتب على هذا الفعل غير المشروع تحميل المؤجر المسؤولية، حيث قضى الحكم بإلغاء ما على المستأجر من دفع إيجار حفظ الأدوات عن الفترة السابقة، وفي تعليلها، أكدت الشعبة الاستئنافية أن المؤجر يتحمل مسؤولية فعله غير المشروع الصادر من تلقاء نفسه ودون أمر قضائي ودون أن يلجأ إلى السلطة القضائية لأخذ حقه عبرها».

قطع علينا الماء والكهرباء
تُجسّد قصة صبري الشريجة (عامل) نموذجًا للاستغلال العقاري، حيث تحول بيته إلى مصدر قلق بعد رفضه زيادة تعسفية في الأجرة طلبها المؤجر بدأت المعاناة بقطع فجائي للكهرباء والماء، مما أجبر العائلة على العيش بضوء «شمعة».
وقال الشريجة: «قام المؤجر باقتحام الشقة دون سابق إنذار وهددنا بالإخلاء شفهيًا، رغم سريان العقد، وقام بتغيير الأقفال، ووضع رسالة إخلاء مزورة وغير موقّعة من محامٍ».
عانت أسرة صبري من المضايقات المتعمدة، منها امتناع المؤجر عن إصلاح ماسورة سخان الماء الشمسي المتعطل ووقف «كالمترصد» يراقب تحركاتهم لزيادة الضغط النفسي، واستلام دفعة الإيجار لإيجاد «ذريعة قانونية للطرد»، وتحقيق ربح غير مشروع، مما أنهك المستأجر وأفقده سكينته في بيته.

رفض تجديد العقد
أحمد الأصبحي (عامل) وجد نفسه تحت رحمة المؤجر: «صدمني برفع الإيجار بشكل جنوني، مستغلاً ظروفي، ولم يكتفِ برفع الإيجار بشكل فلكي، بل أضاف شروطاً تعجيزية، حيث طالبني بضمانة تجارية، وإيجار ستة أشهر مقدماً دفعة واحدة».
وحين حاول تذكيره بظروف انقطاع الرواتب، قابله المؤجر بـ«العنف اللفظي والسب، ورفض تجديد العقد، ثم صعد الضغط بقطع الماء المشترك عن شقتي، حتى أغادر فوراً، وفي النهاية تم تهديدي بالطرد بالقوة ومصادرة أثاثي مقابل الإيجار».

العيش تحت ضغط التهديد
فاطمة محمد (ربة بيت) بدأت معاناتها بالرفض القاطع، حيث كان الرد المباشر لها: «امرأة مع طفلين لا نؤجرها»، كون زوجها بالغربة، وبعد عناء، قَبِل مؤجر بشروط مهينة، تقول فاطمة: «طلب ضامناً مالياً، ورجلاً ليتحمل مسؤوليتي وكأنني قاصر، ثم بدأت المراقبة وانتهاك الخصوصية، فهم يسألون عن كل زائر، ويوجهون مضايقات لفظية حول طفليّ وأهلي».
ولما كان البيت متهالكا طلبت فاطمة من المؤجر إصلاح تسريب بسيط، «لكن كان الرد قاطعاً: أنتِ مسؤولة عن كل شيء».. تختم فاطمة حديثها بحسرة: «يهددونني بالإخلاء لتأجير البيت للمغتربين العائدين، أصبحتُ أدفع ثمن غياب سندي مضاعفاً».

فواتير مضاعفة
الضيق المالي يلاحقه حتى داخل جدران بيته.. صدام الرصابي موظف وجد نفسه فجأة تحت ضغط لا يُطاق بعد قرار مفاجئ من مؤجره: «زاد المؤجر الإيجار فجأة، ولم يراعِ تأخر راتبي». عندما حاول صدام طلب مهلة قصيرة، واجه رفضاً قاطعاً: «رفض أي مهلة لم يمنحني أي فرصة للانتظار». لكن الأزمة لم تتوقف عند الرفض.. بل تحولت إلى ضغط اجتماعي وابتزاز مالي.. يشرح صدام كيف بدأ المؤجر يستخدم سمعته كوسيلة للإحراج: «بدأ يُشهّر بي في الحي لإجباري على الاقتراض بأي طريقة». ولمزيد من التضييق، استخدم ورقة فواتير الخدمات: «في نفس الوقت، أصدر لي فواتير خدمات مضاعفة».
يختتم صدام الرصابي حديثه بمرارة، واصفاً حالته: «أصبح البيت سجنًا فعليًا، والقلق يُنهكني بسبب الإيجار والفواتير معًا».

يتحكم في تفاصيل حياتي
في حديثه عن معاناته اليومية يقول عبدالله المصباحي (موظف): «منذ سكنتُ والمؤجر يتحكّم في تفاصيل حياتي.. يمنعني من نشر الغسيل على السطح بحجة أن نساءه يستخدمن الدرج للطبخ».. ويضيف: «لا أستطيع حتى إيقاف سيارتي في الحوش، وتدخل المؤجر حتى في روائح الطبخ التي يقول إنها تزعجه وقت القات».
تبقى معاناة المستأجرين من تعسف المؤجرين جرحاً غائراً في نسيج المجتمع، يهدد استقرار الأسر ويقوض مفهوم الأمان، وتجاوز هذه الأزمة لا يكمن فقط في المطالبة بالعدالة، بل يستوجب فوراً وضع نظام قانوني فعال ومُلزم، يتم من خلاله تفعيل أدوات الرقابة والإنصاف. لا بُد من إنشاء آلية قوية لحماية المستأجرين تضمن لهم السكن الكريم بعيداً عن الخوف من الإخلاء التعسفي، أو الاستغلال المالي، لكي يتحول المنزل مرة أخرى من مصدر قلق إلى واحة للسكينة والاستقرار.